..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

مناطق نفوذ أم نفاد وطن؟

محمود الوهب

٢٧ أغسطس ٢٠١٩ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 2717

مناطق نفوذ أم نفاد وطن؟

شـــــارك المادة

يتردّد اليوم مصطلح "مناطق النفوذ" لدى الحديث عن الواقع السوري المؤلم، وفي إطار توصيفه ومؤدّاه من خلال الأدوار التي تقوم بها القوى الدولية والإقليمية المختلفة على الأراضي السورية، ويأتي استخدام المصطلح في نوع من زرع البلبلة في ذهن المتلقي، وربما تلطيفاً لكلمة احتلال التي غدا وقعها، في واقعنا المعاصر، ثقيلاً على الأذن، تأنفه النفس، فما عادت مثل هذه التعابير مستساغة ولا مقبولة في عالمنا "المتحضِّر". إذاً ما الذي يعنيه مصطلح مناطق النفوذ بالضبط؟ وما غاياته ومراميه؟ وكيف يمكن أن يمارسه المعنيون على أرض الواقع؟

تفيد مصادر عامة كثيرة بأن المصطلح أخذ يظهر في بدايات القرن العشرين، وازداد استخدامه بعد الحرب العالمية الأولى، أي حين سقطت الإمبراطوريات التقليدية، ومع تنامي تكوَّن المجتمعات على أساس قومي، وبدايات تشكّل الدول الوطنية الحديثة، حتى إنه استُخدم في نصوص اتفاقيات "سايكس/ بيكو" وخرائطها مُمَيزاً عن مفهوم الانتداب، لكنه في الممارسة العملية لم يكن إلا الانتداب عينه، ما يعني الوصاية، وفي الجوهر الاحتلال!
وغالباً ما يُطلق المصطلح على المناطق التي تسيطر عليها جهةٌ معيّنة، ويعرَّف أيضاً على أنه: "احتلال دولة ما مساحات من أراضي دول أخرى، وفرض السيطرة عليها بالقوة العسكريّة، إلى أنْ تصبح تحت سيادة الجهة المسيطِرة، وتفتقد قرارها السياسي، وقد ارتبط مفهوم مناطق النفوذ بالعوامل السياسيّة المحيطة بدول العالم. ومع الوقت، لم يعد النفوذ يعتمد على الإجبار، أو التهديد من أجل خضوع الطرف الأضعف للطرف الأقوى، بل صار يعتمد على التأثير الفكري الذي يرتبط مع الأفكار الخاصة بالأشخاص أو الدول، ويجعل الأفراد المحيطين بجهة النفوذ يقبلون به على نحو غير مباشر، وعن طريق شعورهم بأنّ أفكارهم وأهدافهم تتحقق، ما يجعلهم يوافقون على أن يكونوا جزءاً من منطقة النفوذ". وأكثر ما يتجلى هذا النوع من النفوذ لدى معتنقي الإيديولوجيا الشمولية، دينية كانت أم سواها!
وتتنوع أشكال النفوذ وممارساته، فثمّة نفوذ عسكري وآخر سياسي وثالث اقتصادي ورابع ديني وخامس ثقافي، وتلعب اللغات فيه دوراً رئيساً، وخصوصاً حين تكون لغةٌ ما سائدة على الأخرى. وثمّة نفوذ يفرض بقوة المال، وغالباً ما تستخدمه الدول الغنية أو تلك التي تملك سيولة فائضة عن حاجتها كبعض دول النفط اليوم، على سبيل المثال، إذ تقدّم بعض الدول أموالا هبات أو قروضا لهذه الدولة أو تلك، في وقت تكون فيه الحاجة ماسّة إليه، ليأتي استثماره عند الحاجة، إما في مواقف سياسية محددة أو في خدمات مادية تقدر عليها الدولة الواقعة تحت النفوذ أو التابعة على نحو أو آخر، كأن ترسل قواتها للحرب في مكان ما، مساعدة للدولة المانحة أو بدلاً عنها أحياناً، ويلحظ هذا النوع من النفوذ في منطقتنا، إذ تمارسه دول إقليمية قادرة على الأخرى، وغالباً ما يحدث هذا النوع مدخلا للنفوذ لدى الانقلابات العسكرية المبيتة أصلاً، وقد حدث هذا في مصر لدى انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي، وفي السودان فور إطاحة عمر البشير.
ولكنَّ مفهوم المصطلح برز بوضوح بُعيد الحرب العالمية الثانية، وخلال ما عُرف بالحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، إذ شكلت كل منهما قطباً يجمع حوله أنصاراً بقوة ما يسمى النفوذ، وكان هناك حلفان عسكريان يتنافسان على إدارة دفة العالم: وارسو وشمال الأطلسي (الناتو)، فكانت معظم دول حلف وارسو، قبل تشكيله (14 مايو/ أيار 1955)، واقعة تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي، وتدور في فلكه، بتأثير من الأحزاب الشيوعية التي كانت قد خاضت حروباً وطنية، ووصلت إلى الحكم في بلدانها بعد انتهاء الحرب، وبمساعدة الجيش الأحمر الروسي، فلم تكن لتخرج فيما بعد عن إرادة الاتحاد السوفييتي، حتى لمّا كان يحدث تململ شعبي ضد حكومة هذا البلد أو ذاك، كان الاتحاد السوفييتي يتدخل عسكرياً على الرغم من الاستقلال السياسي التام الذي تتمتع به تلك الدول التي هي أعضاء في المنظمة الدولية المسمّاة "الأمم المتحدة"، وقد حصل ذلك في المجر (هنغاريا عام 1956) وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وكلتا الدولتين انفصلتا فيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانضمتا بإرادتهما الحرّة إلى حلف الناتو المضاد. وفي المقابل، كانت دول صغيرة أخرى تتلقى دعماً من الولايات المتحدة، أو من دول أوروبية، فلا تخرج، أيضاً، عن إرادة قيادة القطب الآخر.
صحيح أنه يمكن أن تنشأ بين الدول أحلاف على عتبات الحروب وفق مصالح محدّدة، ووفق قواعد ناظمة، يكون فيها الأعضاء متساوين وفق إرادتهم الحرة في اتخاذ القرار السياسي الخاص بكل دولة، لكن النفوذ شيء آخر تماماً. إنه قريبٌ مما كان يسمى الاستعمار أو الاحتلال.
فما الذي تعنيه مناطق النفوذ في الوضع السوري اليوم، وخصوصاً بعد أن جعله نظامه من غباء ورعونة واستهتار قادتْه إليها مصالح ضيقة، جعلته ينظر إلى الدولة السورية الحديثة على أنها مزرعة للأسرة الحاكمة، لا دولة وشعبا، على الرغم من أنَّ سورية بالذات، من بين بلدان المنطقة كلِّها، كان يمكنها أن تكون نموذجاً جيداً لدولة حديثة، قبل أن يختطفها حزب البعث لنفسه في انقلاب عسكري، ثم ليأتي ابنه العاق حافظ الأسد فيسرقها لأسرة وأتباع يحوّلونها لمنافعهم وفسادهم. صحيحٌ أنه كان لبعض الدول نوع من النفوذ المحدود، سواء لروسيا التي تمتعت، على مدى خمسين عاماً، بنفوذ عسكري أم لإيران التي بدأت بمساعدات اقتصادية تمدّدت عبره ليكون لها نفوذ ديني/ طائفي يخدم مشروعها الفارسي الأكبر، وكان نفوذ الدولتين يمرُّ تحت سقف ما تسمى الصداقة التي جوهرها مساندة الحقوق التي تهدرها إسرائيل. وقد وسع النظام ذلك النفوذ بإرادته، حين استعان بهما لحمايته، ففتح بذلك الباب لتدخل القاصي والداني في الشأن السوري، فهذا يريد محاربة "داعش" وعينه على خيرات البلد الاقتصادية، وآخر يسعى إلى حماية أمنه القومي على حساب التمدّد عشرات الكيلومترات على طول الحدود السورية، حتى إن المتابع لم يعد يعرف عدد المتنفذين، ولا نوعية نفوذهم. فإضافة إلى قاعدتي الروس العسكريتين والمليشيات الإيرانية وتمركزهما في غير منطقة، ترى قواعد للأميركان والفرنسيين والبريطانيين، ومراكز أو أتباعا للأتراك وسواهم. إذ لم يترك النظام السوري من عتب لأحد! ومعروف أن أهم مفاخر سورية في تاريخها الحديث هو خلوُّ أراضيها من القواعد العسكرية الأجنبية، واستقلال قرارها السياسي. وعلى الرغم من ذلك، يقول كل هؤلاء المتدخلين بوحدة الأراضي السورية، وباستقلال قرارها، لكن كلاً منهم يحفر في بقعته ويعمّق الحفر، وثمّة من السوريين من يعينه ويقويه، فكل المفاهيم الحديثة تنطبق على هذا الواقع، إلا مفهوم السيادة أو الاستقلال أو وحدة الأراضي.
وإذا كان النظام قد بدا عارياً من أيِّ حس وطني، حين فتح المنافذ السورية على المجهول، ووضع نفسه في كفّة، وسورية وطنا في كفّة أخرى، واستدعى الطامعين لحمايته، وإن على بقعةٍ من ذلك الوطن، فإن المعارضة في المقابل لم تكن خياراتها أفضل، ولم تُحْسِن العمل السياسي، ولم تستفد من زخم الاحتجاجات الشعبية، بل فرّغته من محتواه الوطني باختيارها التعاون مع الشيطان في سبيل الخلاص من نظام الأسد، وحين ظهر التطرّف لم تأخذ منه موقفاً جدّياً، بل كانت تسير خلفه، وتعوّلِ عليه، حتى إن فصائلها المسلحة رفضت مقاتلة "داعش" أولاً.
اليوم، والكل يرى سورية إلى تمزُّقٍ وضياع، لا أحد يريد الاعتراف بهذا الواقع الحزين، فبداية التصدّي له تكون بالاعتراف به، ذلك إذا كان ثمّة نسغ سوري يجري في العروق!

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع