محمد ديبو
تصدير المادة
المشاهدات : 4231
شـــــارك المادة
لم تكن سهام ذات الستة وعشرين ربيعاً والبنت الصغرى في عائلتها تخشى النظام الذي تظاهرت ضده بعد شهرين من اندلاع الانتفاضة بمقدار ما كانت تخشى أهلها الذين تعرف رد فعلهم ضد نشاط كهذا، فالعائلة المسالمة والبعيدة من أي انخراط سياسي كانت بغالبيتها تقف على الحياد، وتمشي «الحيط الحيط ويا رب السترة»، إلى درجة أن الفتاة كانت حريصة على أن لا يعرف أهلها أي شيء عن نشاطها في الانتفاضة.
ولكن ذلك لم يمنع المشــاحنات داخل البيت الواحد، حيث كانت سهام تعلن رأيها السياسي بوضوح لتواجهها أختها (هند) ذات الخمسة والثلاثين بأن ما يحصل ليس إلا مؤامرة مدفوعة الأجر وأن المتظاهرين ليسوا إلا حفنة من اللصوص الذين يقبضون «500» ليرة سورية على كل تظاهرة، وهو الأمر الذي كان يكهرب جوّ البيت، إلى درجة أنه حين تدير التلفزيون على قناة الجزيرة كانت هند تخرج من الـــغرفة، وكذلك تفعل سهام حين تضع أختها على قناة الدنيا الموالية له، بعد عودتها من المشاركة في مــسيرات مؤيدة للنـــظام بعد بداية الأحداث، الأمر الذي يجعلها عرضة لكلام سهام الساخر.
وهو ما كان يزيد من رفع الجدران بين الأختين داخل البيت الواحد، إذ كانت كل منهما ترمي كلامها في شكل موارب لتفهمه الأخرى بطريقتها، ويتزايد حجم الانفجار الذي لم يتأخر حين عادت سهام في إحدى المرات والحزن يكسو محياها بسبب استشهاد أحد أصدقائها في إحدى التظـــاهرات لتقول لها هند: «الله لا يردوا مين قلو يطلع ويخرب البلد»، وتنفجر سهام ضد أختها وتسمعها كلاماً قاسياً جداً أوسع الشرخ الموجود بينهما أصلاً ووصل إلى حد عدم تحدثهما مع بعضهما بعضاً وعدم التقائهما حتى إلى طاولة الطعام في المنزل، وهو الأمر الذي دفع الأب للقول بحسرة: «هذا هدف نظام الأسد، أن يجعل الأخ لا يكلم أخاه، وأن يقسم العائلة الواحدة لمصلحة بقائه». بقي الخصام بين هند وسهام قائماً لمدة شهر، إلى أن بادرت سهام في أحد الأعياد لمصالحة أختها، وتقول: «على رغم ذلك لم يكن قلبها صافياً تجاهي، لأنها كانت مقتنعة تماماً بأنني من مخربي البلد، كانت كل منا تنظر إلى الأخرى على أن عقلها مغيّب، كانت تفكر بي كما كنت أفكر بها»، تقول سهام التي صبرت على أختها إلى أن أتى صديق أختها من ألمانيا، وبدأ المشاركة في التظاهرات في منطقته، لتجد سهام في صديق الأخت ما يعينها على مواجهة أختها الموالية للنظام على رغم كل ما كانت تشرحه لها عن أفعاله. حينها باتت السهرات تتضمن بعض التلطيشات ضد هند التي لم تتغير حتى تعرض حبيبها لضرب مبرح في أثناء مشاركته في إحدى التظاهرات حيث رمى أحدهم عليه «بلوكة» كادت تقتله، لتواجه هند أسئلة كبرى أمام احتمال فقدان صديقها في أية لحظة، وليبدأ عدّاد التفكير عندها بالعمل، مع ضغط سهام عليها وتوبيخها لها: «كنت أؤنبها وأقول لها: هل كان يجب أن يتعرض حبيبك للأذى كي تري ما يحصل حولك؟ هذه أنانية أن تفكري بحبيبك فقط ولا تفكري بكل الشهداء والمعتقلين الذي ذهبوا. هذه أنانية». هنا، بدأت تحولات هند تحصل في الاتجاه المعاكس فلم تعد تخرج من الغرفة، حين تضع أختها التلفزيون على قناة الجزيرة المعارضة، كما لم تعد هي تضع على قناة الدنيا، إلى أن سمعتها مرة تقول ونحن نشاهد أحد التقارير التفزيونية «الله لا يوفقن ما خلو حدا. وقتها فوجئت وضحكت في سري ولكني لم أقل لها، وشعرت بأنها أصبحت في الطرف الآخر، وهي الآن أكثر تطرفاً في معارضتها من مؤيدي النظام في موالاتهم». تضحك سهام وهي تحكي ذلك. لم تكن قصة سهام مع أختها فقط، بل مع أمها التي كانت في بداية الأحداث من مؤيدي الرئيس السوري وترى فيه الرجل الوحيد القادر على حماية سورية، وكانت تواجه ابنتها بالقول: «مين بدك يجي ويحكمنا؟ وين راح تلاقي أحسن منو؟ شو بدك يجي واحد ديري يحكمنا؟ أو بدك يجي واحد من عنا؟ ولك إذا محافظ منطقتنا ما في أوسخ منو؟ شو عملنا هاتي لشوف»، ولكن مع تمدد الانتفاضة ووصولها إلى حي الحجر الأسود الذي تسكنه العائلة بدأت ترى وتصدق وتسمع التصرفات التي لم تكن تصدقها سابقاً حين ترويها لها سهام. لتكون حادثة دخول الجيش إلى المنطقة هي ما جعل الأم تتحول في شكل كامل إلى المعارضة، ولتأتي لاحقاً قصة اعتقال ابنتها الأحب على قلبها سهام على يد الجيش والأمن بعد أن فتشوا البيت وداهموه، مشكلة القشة التي قصمت ظهر البعير، لتنضم الأم وفي شكل نهائي إلى قافلة المعارضين في العائلة المكوّنة من سبعة أشخاص بعد أن رأت تصرفاتهم داخل البيت. لسهام أيضا أخت كانت تعيش في الرياض في بداية الانتفاضة وكانت «مؤيدة حتى العظم، إلى درجة أنها كانت حين تتصل بنا من الرياض تقول إن الانتفاضة والثوار باعوا البلد بـ500 ليرة سورية، كنا نظنها تقول ذلك خشية علينا، وخشية من أن تكون الهواتف مراقبة». إلا أن سهام اكتشفت أن أختها التي تزيدها عشرين عاماً مؤيدة بالفعل حين جاءت في إحدى الزيارات إلى البلد، لتقول لهم إن «آل الأسد بنوا البلد وصنعوا سورية الحديثة، وهدول العراعير والمندسين بدن يخربوا البلد»، الأمر الذي أزعج سهام لأن أختها لم تكن تدرك أن سهام واحدة من هؤلاء «المندسين» الذين تتحدث عنهم. ولأن أختها من المفترض أنها عاصرت أحداثاً لم تعاصرها من ممارسات هذا النظام وقمعه في ثمانينات القرن العشرين وذهاب خيرة شباب سورية إلى المعتقل لسنوات طويلة وليس انتهاء بقمع ربيع دمشق وإعلانه الشهير، الأمر الذي دفع سهام للقول لأختها: «أنا أريد منك شيئاً واحداً فقط، أن تقرأي التاريخ جيداً وتعرفي ما هي سورية، من خارج ما لقنك إياه البعث في المدارس». كما قالت لأختها: «أنا واحدة من أولئك المشاركين في التظاهرات الذين تصفينهم بالمندسين، ألا تصدقين ما أقوله أنا لك؟». مع ذلك لم تقتنع رجاء بكلام أختها إلى أن جاء الأخ الأكبر الذي تكن له رجاء كل الاحترام وبدأ يسرد لها وقائع معينة وأحداثاً، فبدأت تعيد النظر وتتحول تدريجاً، إلى أن خرجت تظاهرة في الحي تزامناً مع وجود رجاء، الأمر الذي دفع سهام لإخبار أختها بموعدها من دون أن تشارك فيها، فقط لكي تريها بأم العين ما يحصل، ولكي تبدد شكوكها، فشهدت رجاء «التظاهرة» التي غيّرت حياتها للأبد: «شباب بعمر الورد يغنون للحرية والحياة ورحيل الديكتاتور وقلوبهم مفعمة بالحب والإيمان». رجاء التي عادت الآن إلى الرياض باتت تتحدث مع أهلها بنبرة أخرى غير عابئة برجال الاستخبارات الذين يتنصتون، إلى «درجة صرت أنا أطلب منها بطريقة غير مباشرة أن تخفف من معارضتها بأن تشاهد قنوات حيادية لنقل الأخبار عن سورية في حين هي تصر على مشاهدة قنوات الانتفاضة فقط»، تضحك سهام وهي تروي، وتختتم بالقول: «انتفاضتي مع أهلي جزء من انتفاضتي ضد النظام، لا بد من طرد الاستبداد من بيوتنا لكي نطرده من الفضاء العام».
الحياة
عبسي سميسم
العربية نت
الهيئة العامة للثورة السورية
المرصد الاستراتيجي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة