سعاد يوسف
تصدير المادة
المشاهدات : 3130
شـــــارك المادة
مشهد 1: دوما... مظاهرة عند الجامع الكبير... ابتعدت أنا قليلاً في محاولة مني لالتقاط صور من زوايا مختلفة... شكلي والثياب التي أرتديها والكاميرا التي أحملها في يدي، جميعها أوحت لذلك الرجل الذي لا يتجاوز الستين من عمره بأنني لست من سكان المنطقة، فاقترب مني بخطى خجولة وبدأ يتأملني عن قرب... شيء ما جعلني أحس بأن أحداً يراقبني رغم أن نظري كان مركزاً على "غرافيتي" لوجه بشار الأسد على شكل شيطان كان يملأ جدران الجامع... التفتّ إلى يساري لأجد ذلك الرجل البسيط الذي يرتدي "سروالاً" أسود وسترة أظن أنه لم يقتن غيرها منذ عدة سنين، وفي عينيه حزن ورجاء لم أستطع أن أدير ظهري لهما. اقتربت منه وألقيت عليه التحية: - مرحباً عم.. - أهلين يا بنتي... أنتي مو من هون... صحفية؟ - يعني... نوعاً ما... كيفك عم؟ - يعني فيك تساعديني؟ وبدأ يحكي لي قصة ابنه الذي استشهد يوم الجمعة الفائت بعد أن أطلق الأمن النار على المظاهرة التي خرجت بعد صلاة الظهر. أخرج من جيبه جوالاً، وبدأ يريني صور جثة ابنه، وفي الوقت نفسه كانت أخت الشهيد تقترب منا وهي ترفع صورة كبيرة لأخيها وقد كتب اسمه تحتها... لم أملك إلا أن أستمع إليهم، لم أعرف ماذا يمكن لي أن أقدم لهم... أب مفجوع، وأخت لا تكاد تصدق، وأخت أصغر لا تعي ما يحدث... وأنا، صحفية مشهورة على ما يبدو، تستطيع أن تستمع إليهم، وهم يظنون أنها قد توصل حكايتهم إلى كل الدنيا... آه يا عم لو تدري... شهداؤنا أصبحوا كثر، وكثيرة هي القصص التي علينا أن نرويها... مشهد 2: برزة... وتشييع جديد... قبل أن نذهب كان حديثنا وهمنا الشاغل هو إحساسنا بعدم جدوانا أمام كل هذه الدماء... فما فائدة مقالة نكتبها أو صورة نلتقطها؟ ليت بإمكاننا أن نوقف آلة الموت اللعينة تلك، ولو ليوم واحد... وهناك، في برزة، كنا نهتف بملء حناجرنا "صمتكم يقتلنا، وغير الله ما إلنا"، حين بدأ إطلاق رصاص كثيف. ركضنا... تفرقنا... وقفت أنا بعيداً قرب أحد المنازل، وإذ بامرأة عجوز تقترب مني... "الله يحميكون يا بنتي... هاد تشييع ابني كان... الله يحميكون أنتو أملنا... الله ينصركون... لا تيأسوا يا خالة... ابني ما مات بلاش ودمو مارح يروح هدر... أنتو الأمل...". وابتعدت وهي لا تمل من ترديد هاتين الكلمتين: "أنتو الأمل... أنتو الأمل...". مشهد 3: تدمر... الزبداني: منذ حوالي أربع سنين علم بوجود فرص عمل في الزبداني... ترك منزله البسيط في تدمر وذهب مع عائلته بحثاً عن رزقه هناك... عاشوا حياة هادئة تشبه حياة أية عائلة في تلك المدينة الهادئة شتاء والصاخبة صيفاً، وأنجبوا طفلة جديدة منذ حوالي السنة... في إحدى حملات النظام الهمجية على المدينة، قرر أن يهرب وعائلته ويعود إلى تدمر بحثاً عن أمان افتقدوه منذ شهور... وفي طريقهم إلى دمشق أطلق عناصر أحد الحواجز الأمنية النار عليهم، فأردوا ابنيه قتيلين، وأصيبت ابنته ذات العشرة أعوام في ذراعها... رأيتهم بعد أن وصلوا إلى أحد المستوصفات في دمشق... هو، لم يعد يملك من الدنيا سوى ابنته الجريحة، وابنته التي لم تكد تبلغ من العمر عاماً واحداً، وزوجته التي لم تكن تراني حتى عندما كانت تنظر في عيني، بل ربما كانت ترى في كل عين واحداً من أولادها الذي استشهدوا قبل ساعة أو أكثر قليلاً، وإله لم يبق له سواه كي يلتجأ إليه... "يا الله... يا الله ما إلنا غيرك... يا الله... " مشهد 4: القابون... منذ أكثر من شهر وأنا ألح عليه كي يأخذني إلى القابون لألتقط بعض الصور، والبارحة فقط وافق... بعد صلاة الظهر اتجهنا إلى هناك، دخلنا من طرق فرعية تجنباً لمرورنا على أي حاجز، واستطعنا أن نتجول بحرية في العديد من الطرقات والتقطت صوراً لجدران زينتها كلمات "حرية... ارحل يا سفاح... بدنا المعتقلين... المجد للشهداء"... وأطفال يعودون إلى بيوتهم راكضين وبعضهم يهتف بينه وبين نفسه وبصوت لا يكاد يسمع: "يلعن روحك... أبو حافظ...". "ألم تكتفي من التقاط الصور؟ الوضع ليس مريحاً جداً ومن الأفضل أن نخرج من القابون... وأنا أريد أن أمر على منزل والدي لألقي عليهما التحية...". وضعت الكاميرا في حقيبتي واتجهنا نحو منزل أهله... الوضع يبدو طبيعياً... ركنا السيارة في الحارة المجاورة وسرنا نحو المنزل، قرعنا الجرس واستقبلنا والده ووالدته بابتسامة عريضة وترحيب اعتدت عليه في كل مرة كنت أرافقه فيها لزيارة أهله... دخلنا بعد إصرار والدته كي نحتسي كأساً من الشاي، وقبل أن تنتهي هي من إعداده، سمعنا قرعاً قوياً على الباب... "افتحوا الباب... منعرف أنك جوا... افتحوا الباب أحسن ما نخلعوا"، وما هي إلا ثوانٍ حتى خلعوا الباب ودخلوا، مدججين بالأسلحة. لم يعرف ماذا له أن يفعل، حاول تسلق الحائط القريب والهروب إلى المنزل المجاور، ولكن رصاصة خرجت من فوهة إحدى البندقيات في نفس اللحظة واخترقت ظهره لتستقر في صدره، وترنح هو ليسقط على الأرض وسط صراخ أمه، وذهول أبيه، ودموعي التي بدأت تنهمر وأنا أصرخ فيهم: "وحوش... وحوش... اطلعو برا... اتركونا بحالنا واطلعو...". هو... كان من أوائل الناس الذين خرجوا للتظاهر وأحد أهم المطلوبين في القابون... أمه... احتضنت جثمانه المدمى بآهاتها ونحيبها الذي علا صوته حتى السماء... أبوه... لم يملك سوى أن يذرع فناء المنزل جيئة وذهاباً، وهو يسبح بحمد الله وشكره، فابنه أصبح شهيداً، وهو الآن "أبو الشهيد"، وسيفخر بهذا اللقب حتى مماته...
المصدر: صباح سوريا
حسان الجاجة
سعد العثمان
مصطفى صادق الرافعي
لقمان الحكيم
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة