..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


اخبار الثورة

دمشق تحت الإقامة الجبرية.. والكل «تحت» مستوى الشبهات

الشرق الأوسط

٣١ يوليو ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3411

دمشق تحت الإقامة الجبرية.. والكل «تحت» مستوى الشبهات
150.jpg

شـــــارك المادة

عند حاجز الجندي المجهول على الطريق السريع بين دمشق وضاحية قدسيا، حاولت إحدى السيدات تجاوز طابور السيارات.. فأمرها أحد الجنود بالتوقف، وعندما رأى أن كل الركاب سيدات رسم ابتسامة صفراء على وجهه، وبلهجة تحذيرية قال للسيدة التي تقود السيارة: «إياك وتجاوز الحاجز.. حتى لو كنتن سيدات سنقوم برش النار عليكن، معنا أوامر بذلك».

 

اعتذرت السيدة للجندي وأكدت أنها لم تكن تنوي اجتياز الحاجز قبل السماح لها بذلك، لكن طابور السيارات المتوقفة طويل جدا، وإذا انتظرت ريثما يصل إليها الدور فستتأخر عن الوصول إلى منزلها الواقع في منطقة متوترة يصعب دخولها مع تأخر الوقت.

نظر الجندي في بطاقتها الشخصية وتابع: «أقول هذا حرصا على سلامتكن، أرجو أن لا تكررن هذا التصرف الخاطئ». مضت السيدات وهن يحمدن الله على نجاتهن، ويتفقن على أن «التجول بعد الإفطار بات خطرا جدا في دمشق».

الخروج بعد الساعة العاشرة بات مغامرة لا يقوم بها إلا المضطر، فلا أحد يتكهن متى وأين تنشب الاشتباكات، لا سميا في أحياء الأطراف وفي الضواحي، التي تشتد عادة في ساعات المساء وحتى الفجر. ومساء السبت الماضي، تعرض شاب على طريق الربوة لإطلاق عشر رصاصات؛ إحداها قشطت رأسه وتسببت في جرح سطحي، والتسع الباقيات استقرت في مواقع غير قاتلة من جسده. أما سبب إصابته، فلم يكن تجاوز الحاجز، وإنما محاولته الهروب من اشتباك نشب فجأة، فحاول العودة عكس السير مما أثار شكوك جنود الجيش النظامي فقاموا بإطلاق النار عليه. المأساة في حوادث كهذه لا تتوقف هنا، والمأساة هي في غياب حركة الناس ليلا وعدم وجود من يسعف المصاب، وربما كان حظ هذا الشاب جيدا بأن تجرأ سائق تاكسي عابر على إنقاذه وسحبه من تحت الرصاص، لكن المشفى الحكومي رفض استقباله. وفي المشفى الخاص لم يوجد أطباء إسعاف، فظل ينزف حتى الصباح.

قريبه الذي روى الحادثة لـ«الشرق الأوسط» قال إن الشاب «أخطأ في الخروج من المنزل بعد الساعة العاشرة، وأخطأ بمحاولة الهروب وتغيير اتجاه السيارة!!»، ويتابع أنه هو - وعلى سبيل المثال، ومنذ انتشرت الحواجز وانعدم الأمان في المدينة - ركن سيارته إلى جانب البيت وصار يستقل وسائل النقل العامة، وبطاقته الشخصية دائما جاهزة في جيبه، كما امتنع وعائلته عن الخروج من البيت مساء إلا في الحي.

وأشار إلى أنه منذ نحو شهر تقريبا قتل شاب في حارته المكتظة بالحواجز، وكان الشاب قد خرج في وقت متأخر من الليل من منزله، وكان مخمورا وقاد سيارته بشكل غير متوازن، فأثار شكوك أول حاجز. أشار له الجنود بالتوقف فلم يستجب، فقاموا بإطلاق النار عليه، إلا أنه لم يتوقف بل انطلق بسيارته بشكل جنوني، فاستنفر كل الحواجز وراح الجنود يلاحقونه ويطلقون النار عليه، وخلال عشر دقائق اشتعل الحي وكأنه ساحة حرب، لتتوقف السيارة بعد أن اخترقتها مئات الطلقات وقتل الشاب وتضررت عدة محلات في المكان.

دمشق العاصمة لم تعد تلك المدينة التي لا تنام، وبالأخص في شهر رمضان، حيث كانت تفتح الأسواق مجددا بعد الإفطار وتنشط الحركة مع موعد صلاة التراويح. لقد تغير إيقاع الحركة في المدينة على وقع توتر الأوضاع الأمنية هذا العام، وبات الخروج من المنزل مغامرة محفوفة بالمخاطر، ويوما بعد آخر تزداد الحواجز في الأحياء وتقطع أوصالها وتعزل بعضها عن بعض.

فالتنقل ضمن الحي الواحد قد يحتاج إلى إبراز البطاقة الشخصية لعدة مرات عند الحواجز، ففي كل حي هناك فرع أمني أو مقر عسكري أو حكومي، والطرق المارة بجوارها مغلقة. أما الطرق المؤدية إليها فقد زرعت بحواجز متعددة ثابتة وطيارة، مع انتشار كثيف للجنود وعناصر الأمن والشبيحة بالعتاد الكامل.

والطريف أن سكان العاصمة بدأوا يعتادون تلك الحواجز ويتبادلون النصائح وتعليمات الأمان لاجتيازها، مثل تجنب استفزاز الجنود، والمحافظة على الهدوء وضبط الأعصاب أيا كانت تصرفات الجنود مستفزة. أيضا الحرص على كبت مشاعر الخوف من السلاح، حتى لو أشهر بالوجه مباشرة، أو بدا الجندي غير مكترث لحركة يده على السلاح.. وأهم نصيحة: «إذا طالعك حاجز في آخر الشارع تجنب العودة إلى الخلف وتغيير الطريق».

مجموعة النصائح هذه، وغيرها، تضاف إلى خريطة شفهية يومية بتوزيع الحواجز والإجراءات التي يتبعها الجنود عندها، مع توضيح حالة الطرق المغلقة والسالكة والطرق الفرعية الآمنة، ويتم تداولها على الإنترنت أو عبر الهاتف، لحظة بلحظة، مع مجموعة التعليمات.. مثلا ينصح الشباب باصطحاب «دفتر خدمة العلم» (الخدمة العسكرية الإلزامية) لأن الحاجز في المنطقة الفلانية يسأل عنها، والشاب الذي لا يحمله يتم اعتقاله.

في بعض الأماكن الأخرى ينصح بحمل عقد ملكية المنزل أو عقد الإيجار، أو فاتورة ماء أو كهرباء أو أي شيء يثبت مكان الإقامة في منطقة معينة، لأن ثمة حاجزا طيارا يدقق في سكان الحي والزوار. وعادة تكون تلك الإجراءات فجائية وعارضة بحسب الوضع الأمني وملاحقة المطلوبين في بعض المناطق والأحياء.

أما الأكثر غرابة في تلك التحذيرات، فتلك التي تحذر مواليد منطقة من ارتياد حي أو منطقة أخرى.. مثلا تأزم الأوضاع في حي الميدان وضع كل مواليده في دائرة الشبهات، فيتم تحذيرهم من المرور عند حاجز معين قريب من القصر الجمهوري في حي المهاجرين، وتكون صيغة التحذير: «عم يدققوا بهويات الميادنة».. وقبل ذلك، كان مواليد حي بابا عمرو في حمص عرضة للمضايقات عند كل الحواجز في دمشق من دون استثناء، ومن ثم الحماصنة وأهالي إدلب، وهكذا.. بحيث لم يبق مواطن سوري فوق الشبهات؛ حتى لو كان مؤيدا للنظام.. إلا أن شدة التدقيق ترتفع وتنخفض بحسب درجة الاستنفار العام.

أحمد الحمصي نزح من حي البياضة في حمص إلى دمشق قبل عدة أشهر، وسكن وسط العاصمة. يقول: «بعد الإفطار يتحول الحي الذي أسكنه إلى حي أشباح، يوم أمس شعرت بالضجر وكأنني وعائلتي معتقلون، فقررت الخروج إلى المقهى، لكن منظر الشوارع العاتمة والخالية إلا من قوات الأمن أرعبني».

ويضحك أحمد وهو يتابع: «وبما أني حمصي، ويقال عنا إننا مجانين.. لم أجد تسلية سوى الذهاب إلى حيث قوات الأمن والشبيحة وفتح أحاديث معهم للتسلية!! وكان مع أحدهم دراجة نارية فتجرأت وطلبت منه أن يوصلني معه إلى مقهى قريب فلم يرفض.. يبدو أنه هو أيضا كان يشعر بالضجر، لكن المقهى كان خاليا أيضا ولا توجد أي سيارة في الشارع، فأعادني إلى حيث كنت». وخلال شهر رمضان، ارتفعت حدة الاستنفار في العاصمة؛ إذ ابتدأت باشتباكات عنيفة في عدة أحياء مثل الميدان وكفرسوسة وبساتين الرازي في المزة والقابون وبرزة. وتسبب حجم الدمار والقتل الذي تعرضت له تلك الأحياء في جعل رمضان دمشق كئيبا حزينا تغيب عنه كل مظاهر الاحتفال، وكأنها مدينة تحت الإقامة الجبرية.

لم تعد المساجد تعج بالمصلين الآتين من أحياء أخرى لتأدية صلاة التراويح، حيث باتت تقتصر على قلة من سكان الحي، حتى إن عدد عناصر الأمن بالعتاد الكامل الذين يحاصرون المساجد صار أضعاف عدد المصلين. ويفرض وجودهم حالة تأهب دائمة. غابت عن دمشق الخيام الرمضانية، واقتصر تبادل زيارات الإفطار على وقت ضيق لا يتجاوز الساعتين وغالبا ضمن الحي. ليكون دعاء الصائمين من الثوار: «اللهم أعنا على الصيام والقيام.. وإسقاط ما تبقى من النظام».

في دمشق صارت تخيم وحشة لا يخترقها سوى تردد أصوات التفجيرات والإطلاق المدفعي والصاروخي على المناطق المحيطة بالمدينة، ودوي إطلاق النار والاشتباكات داخل أحيائها، بين الحين والآخر. حتى المسحراتي، غاب سوى في قلة قليلة من الأحياء الهادئة حيث يمر سريعا، بعد أن كان صوته يضيع في زحمة السهر والأسواق في السنوات السابقة. أما في الأحياء الثائرة والخارجة عن السيطرة، فيخرج مسحراتي الثورة بين حين وآخر كلما سنحت له الفرصة لينادي: «يا نايم وحد الدايم.. يا نايم انتهى عصر البهايم».

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع