أكرم علي حمدان
تصدير المادة
المشاهدات : 6199
شـــــارك المادة
ليس من الإنصاف أن يطالب الإسلاميون بإصلاح الدول التي وصلوا للحكم فيها بين عشية وضحاها، فذاك أمر لا قِبَل به لأحد، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فالتركةُ ثقيلة، والفساد ضاربٌ بأطنابه، وذيولُ الأنظمة البائدة ما تزال تحاول الإفساد، وكثير من المعارضات لا تفهم من المعارضة سوى تعطيل عمل الحكومة، والوقوف لزلاتها بالمرصاد، لا من أجل الإصلاح، ولكن كيدًا لها وطمعًا في إزالتها.
فإذا ما أضفت إلى ذلك أن الإسلاميين ليسوا لونًا واحدًا، وإن كان يغلب عليهم الاعتدال، ورأيت صعود أحزاب منهم متباينة، قد تتعارض رؤاها، فيسعى بعضها لفرض رؤيته، والتهويش على غيره، أدركت حجم ما يواجه الإسلاميين في المرحلة القادمة، ولا سيما أن ثقافة الديمقراطية لم تتجذر بعد في العالم العربي، بفضل حكومات الحزب الواحد، وبركات الحاكم إلى الموت، ممن تلقفت سجلات الإجرام الأسود بعضهم، وما زالت تقول هل من مزيد. خلافة سادسة: كلمة قالها الأستاذ حمادي الجبالي، فقامت دنيا الخصوم ولم تقعد، حتى انسحب بعضهم من تشكيلة الحكومة، لأن الخلافة الراشدة لم تكن في نظرهم راشدة، بل كانت رجعية متخلفة، ساد فيها الظلم، وغشاها الفساد المالي والإداري، وعشش فيها حكم الرجل الواحد! ألا يدعو هذا حقًّا للاستغراب؟ إن هذا التنكر لماضي هذه الأمة، ولا سيما لفترة الخلافة الراشدة، إن دلَّ فإنما يدل على جهل بشع بالتاريخ، وسنن الاجتماع، وإلا ففيم هذا الحقد على كل ما هو إسلاميّ؟ وليخبرونا بالذي يكرهونه في الخلافة الراشدة، وليرشدونا إلى مواطن النقص فيها والعيب، فلعلّنا نغير رأينا، ونبدل قناعاتنا! لقد كانت حقبة الخلافة الراشدة شمسًا في سماء الدنيا مشرقة، وقمرًا في حلكة الليل لامعًا، سبقت ما وصلت إليه أمم الدنيا من أنظمة الحكم التي نصبو اليوم إلى تحقيقها في بلادنا، ومع ذلك فإننا ننظر للخلافة الراشدة على أنها مثلت نظامًا من الحكم خاصًّا، وجد في حقبة تاريخية مخصوصة، ولسنا ندعو إلى تقليده ولا محاكاته، من حيث الصورة والشكل، فقد بات للدولة الحديثة صورة مختلفة، تواضع عليها أبناء هذا الجيل، أما أن ننسج على منوال الخلافة الراشدة في بسط العدل وكفّ الأذى ومحاسبة الحاكم، وأن نستلهم تجربتها في تحري الحق وإصلاح الرعية -أي المواطنين بلغة العصر- واحترام الفرد، فهذا ما لا نرى به من بأس، بل نراه واجبًا يتعيّن القيام به. لقد اتسمت فلسفة الإسلام في الحكم بخصائص عز نظيرها، حتى في الجمهوريات المثالية، مع أنها كانت واقعًا معيشًا، وتجربة واقعة، ولئن لم يتسع المقام في مقالة كهذه لإبراز خصائص تلك المرحلة الراشدة، بعين ابن القرن الحادي والعشرين، والتنويه بما اشتملت عليه من الخير والعدل والشفافية، إن فيه متسعًا لذكر طرف من ذلك، بلغة قرننا هذا، عسى أن تنجلي الغشاوة عن عيون المخالفين. حق المواطنة: لم تسبق فلسفة سياسية ولا نظام حكم ما جاء به الإسلام من كفالة الحريات العامة، وضمان حقوق الأقليات، وعدهم مواطنين لهم ما للأغلبية المسلمة، وعليهم ما عليها، أما ما جاء من أمر الجزية فمسألة تفهم في سياقها الزماني والمكاني، يوم كانت البلاد مقسمة على أسس دينية، وهي مرحلة طواها التاريخ، وتجاوزها النظام العالمي الحديث، على أن مسألة الجزية أسيء فهمها في كثير من الأحيان، بسبب ما أثير حولها من شبهات، وما قيل فيها من كلام لم يبتغ به التحقيق العلمي النظيف. لم تفرق الدولة في الإسلام بين المسلم وغيره في المعاملة، فكانت تفتح باب بيت مال المسلمين للضعفاء من غير المسلمين كما تفتحه للمسلمين، بلا تفرقة ولا تمييز: جاء في كتاب خالد بن الوليد لعمر بن الخطاب –رضي الله عنهما-: "وجعلت لهم، أيما شيخ ضعُف عن العمل، أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهلُ دينِه يتصدقون عليه، طرحتُ عنه جزيتَه، وعيلَ من بيت مال المسلمين وعيالُه، ما أقام بدار الهجرة". وكيف لا ينفق على مواطن في الدولة الإسلامية والاتفاق منعقد على وجوب القتال والموت دونهم لو حاربهم محارب ما داموا مواطنين في دولة الإسلام؟ جاء في كتاب الفروق عن مواطني دولة الإسلام من غير المسلمين؛ "أن عقد الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم، لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وذمة الله - تعالى -، وذمة رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم، ولو بكلمة سوء، أو غِيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذيّة، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله - تعالى -، وذمة رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، وذمة دين الإسلام، وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له: أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكُراع والسلاح، ونموت دون ذلك". فتأمل، ثم وازن هذا بقوانين منع التمييز العنصري التي ما وصلت إليها المنظومة الغربية إلا بأخرة من تاريخها، على أنها لا تزال منقوصة مضطربة! أما حرية الدين فمكفولة بالقرآن الكريم، فلا إكراه في الدين، بأي معنى من المعاني، والناظر في الفقه الإسلامي يرى عجبًا، ألا ترى كيف أن الإمام الشافعي ذهب إلى أنه لو أسلم أحد الزوجين من غير المسلمين، فلا يجوز حتى مجرد عرض الإسلام على الزوج الآخر، لأن في مجرد العرض هذا، في نظره، تعرّضًا لدينه، وذلك لا يجوز، لما فيه من الإخلال بالتزامات عقد الذمة. جاء في تبيين الحقائق ما نصّه: "وقال الشافعي: لا يعرَض على الْمُصِرِّ الإسلام، لأن فيه تعريضًا لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم، لأنا أمرنا بتركهم وما يدينون". ومواقف إنصاف غير المسلمين في دولة الإسلام لا يحصيها المحصي، فهي مبثوثة في كتب التواريخ الطِّوال، والسير والتراجم، والسياسة الشرعية، لكنها لا يراها إلا من أزاح غشاوة البغضاء عن عينيه، وأراد أن يقف على الحقيقة المجردة من الأهواء، ذلك أن الإسلام تجاوز الحفاظ على حرية المواطنين إلى تحرير الأسرى والعبيد، ونقلهم من مرحلة العبودية إلى مرحلة المواطنة الكاملة، حتى في مجتمعات كانت تقوم بنيتها الاجتماعية على الاسترقاق، من خلال خطة مرحلية واضحة مؤادها منع الاسترقاق بتاتًا، وتحرير الناس جميعًا، على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، أما ما جاء من الممارسات التي كرست السبي والاستعباد، وما تلا ذلك من المدونات الفقهية في المسألة فليس من الإسلام في شيء، وهي مرفوضة ممجوجة ممقوتة، لأنها تتعارض مع أبسط مبادئ الإسلام، وهي أن الناس وُلدوا أحرارًا، ورحم الله عمر –رضي الله عنه- صاحب الخلافة الثانية الذي نطق بهذه العبارة العظيمة قبل نحو ألفية ونصف من الزمان، وأوجب على المسلمين مكاتبة كل من طلب الحرية وسعى لها من عبيدهم، وحرم استرقاق العرب في خطوة تستشرف مستقبلًا يمنع فيه الرق منعًا كليًّا، وهو ما وصلت إليه المجتمعات الحديثة، وللإسلام فيه فضل كبير. حكومة دينية؟ ولا نعلم قبل الفلسفة الإسلامية فلسفة سبقت بالنظر إلى الحاكم على أنه فرد عاديّ، بل موظف عند الشعب، يحاسبه الناس ويسألونه، وينصبونه ويخلعونه، فالسلطان في الإسلام ليس بمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، فهو حاكم مدنيٌّ من جميع الوجوه، هذا عندما كان يشترط في الحاكم بلوغ منزلة الاجتهاد في الدين، فكيف بالحكام الجهلة الذين لا يستطيع كثير منهم أن يقيم آية من القرآن يقرؤها قراءة صحيحة، بل فهم ما ترمي إليه وتنطوي عليه من مقاصد ودلالات؟! والحكومة في الإسلام ليست حكومة دينية، تنوب عن الله في أرضه، بل هي "خاضعة للنقد النزيه والتوجيه والتقويم، ورئيسها فرد عاديّ، ليس له من الأمر شيء، إلا القيام بمهامِّ التنفيذ، وإقامة العدل الكامل، وحفظ الأمن، ورعاية الصالح العام، والمصالح الفردية على السواء، وهو مسؤول أمام الأمة، صاحبة المصلحة الحقيقية، بحكم كونه نائبًا عنها في القيام على وظائف الدولة ومهامها الجسام، فضلًا عن مسؤوليته أمام الله –تعالى-". وقد جاء في المنار أن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، ولم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، بل حتى النبي - عليه السلام - إنما كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمناً ومسيطرًا، ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفعه عن كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والإرشاد، ولا يجوز لأحد من الناس أن يتبع عورة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد. لقد قرّر القرآن أن الذي لا يُسأل عمّا يفعلُ هو الله وحده، وهم يُسألون، وهذه هي فلسفة الإسلام في الحكم أيضًا، أما الملك العضوض الذي يورِّث فيه الأبُ ابنَه الحكم كما يورَّثُ المالُ والمتاعُ فليس من الإسلام في شيء، ولا وجه لأي تسويغ يُجمِّل صورة ما وقع عبر التاريخ الإسلامي من هذا القبيل، (ولا سيما ما وقع في عهد أول من نقب النقْب، وأحدث الشرخ في جسد الأمة، وعهد بالخلافة لابنه من بعده، بسطوة السيف، وقوة الحديد، فأسس من بعده لعهد من الاستبداد خيم على دولة الإسلام قرونًا من الزمان، حتى لو رأينا أنهم استخدموا ملكهم في نشر الإسلام وإقامة العدل وفتح الممالك)(*). ولعله من عجائب الموافقات أن توريث الحكم انطلق في الإسلام من دمشق، وانتهى في عهدنا هذا في دمشق، وليأذن لنا القارئ الكريم باستطراد يسير، نتفق فيه مع رأي من رأى أن الثورة السورية ليست كغيرها من الثورات العربية، ولكن من جهة أنها ثورة تتجاوز الحدث الراهن إلى أعماق التاريخ، فهي ثورة تاريخية لن تعد ناجحة بمحض دحر الوريث، وطرد العصابة الباغية، ومن والاهم من علماء السوء، ولكن بتصحيح خطأ تاريخي بعيد، وتقرير حق الشعوب في اختيار حاكميها، فالشعوب أعزُّ من أن تورّث، وأكرم من أن تخنع، إن بقهر القوة والسلطان، أو بتخدير علماء السوء، من مُرَوِّجَةِ فقه الحاكم المتغلب، الذي فتح الباب للأقوياء ينتزعون السلطة من يد الأمة، ويجعلونا في أيدي أفراد مستبدين. ومن هنا، فأنا لم أزل أستشكل مسألة الحاكم المتغلب في الفقه الإسلامي، ودعوة الشعوب للخنوع له، حقنًا للدماء، ودفعًا للشرور، فليس ثمة شر من بقاء الحاكم المستبد فوق رؤوس العباد، يسوقهم كما تساق المواشي العجماء، وهو ما أوصلنا إلى أن يستعبدنا حكام جهلة عقودًا من الزمان متطاولة، ثم نجح من نجح منهم في توريث ابنه من بعده، ورثه شعبًا وبلادًا، كأنهم متاع من المتاع، وهم صامتون خانعون، ووجد ممن ينتسبون للعلم الشرعي من يبارك هذا الفهم الغبي، والمسلك المضل، والخطة الفاسدة، وقد نسي أن الإسلام جعل أمر الناس شورى بينهم، "وأزال جبرية الملك وأثرته وكبرياءه من حكومتهم، وجعل أمر الرئيس الذي يمثل الوحدة ويوحد النظام والعدل في المملكة للأمة، ينتخبه أهل الرأي والعدالة والعلم من زعمائها، الموثوق بهم عندها، وجعله مسؤولًا عنهم لديهم، ومساويًا في جميع أحكام الشريعة لأدنى رجل منهم، وفرض عليهم طاعته في المعروف من الحق والعدل، وحرم عليهم طاعته في المعصية والبغي والجور، وجعل الوازع في ذلك دينيًّا لينفذ في السر والجهر، لأن الطاعة الحقيقية لله وحده، والسيطرة لجماعة الأمة، وإنما الرئيس ممثل للوحدة". ونحن نعتقد أن الإسلاميين يعون هذه الحقيقة، فإن لم يكونوا يعونها فعليهم أن يعوها، وأن يعملوا وفقها، لتنشأ أجيال ترفض الخنوع للحاكم أيًّا كان، حتى ولو كان متغلبًا وفق ما درجت على ترويجه بعض الكتب الفقهية التي كتبت في سياقات زمنية فرضت عليها هذا التوجه المرفوض. وللحديث -إن شاء الله- بقية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) لعل الكاتب يشير هنا إلى معاوية –رضي الله عنه- عندما ورث الخلافة لابنه يزيد، وفي الكلام تحامل شديد على فعل معاوية –رضي الله عنه- المبني على اجتهاد منه، وعلى من أقره من الصحابة والتابعين، وفيه كذلك تجاهل حقيقة اختلاف الزمان والمكان والأشخاص. وعلى كل فإن هذا الكلام لا يعدو أن يكون وجهة نظر الكاتب، وإن كنا نتفق معه في أن الأصل هو عدم التوريث. (نور سورية).
طريف يوسف آغا
عباس عواد موسى
وائل الحسن
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة