أحمد خيري العمري
تصدير المادة
المشاهدات : 7140
شـــــارك المادة
لا تكتمل الجرائم قط. فقط صمتنا عنها يجعلها تقترب من الكمال… والصمت قد يكون لأسباب ودوافع كثيرة. لكنه في النهاية ، وبغض النظر عن دوافعه الأولى ، فإنه يتحول ليصير تواطئاً مع المجرم. قد يكون السكوت خوفاً من تكرار الجريمة.
لكنه في الحقيقة يقوي المجرم على التكرار. قد يكون خوفاً من الفضيحة. لكن الأمر سيتكرر ليصبح ظاهرة، بعدما كان في البداية حالات معدودة. قد يكون حرصاً على "الوحدة الوطنية". لكنه في هذه الحالة يبنيها على محض أوهام، لكل جريمة عدة شركاء فيها، الساكت الخائف أحدهم، أما المتفلسف المروج للصمت ، فهو يتعدى مرحلة الشيطان الأخرس. إلى ما بعدها. عندما كان الصهاينة يرتكبون مجازرهم في القرى الفلسطينية، كانوا يتعمدون ترك بعض الناجين الذين رأوا كل شيء. كان هؤلاء يفرون إلى القرى المجاورة، طلبا للنجدة ، أو فقط تمسكا بالحياة، وكانوا طبعا يروون ما حدث. وكان هذا أحياناً كفيلاً بجعل سكان القرى المجاورة يفرون خوفاً من تكرار ما حدث في القرية الأولى، خاصة أنهم كانوا يتأملون مجيء الجيوش العربية التي ستنهي ما كان يسمى آنذاك "إسرائيل المزعومة!!"… كانوا يرتكبون مجزرة في قرية واحدة، ويتركون ناجياً ليروي ما حدث، فتهرب ثلاث قرى. الناجون من مجازر النظام الأسدي ليسوا من هذا القبيل… لم تكن نجاتهم أمراً متعمّداً كي يرووا الفظائع ويرهبوا الآخرين، فالفظائع تنتشر بكل الأحوال. كانت نجاتهم قدراً وتتزامن مع إهمال ارتكبه مرتكبو المجزرة، أو إسراعهم بالخروج، أو عدم تأكدهم من موت الجميع. هؤلاء كانت نجاتهم تحدياً للصمت الذي يلف جثامين الضحايا… كانت نجاتهم خنجراً لقطع كمامات الصمت التي تحيط بأفواهنا ، كان بقاؤهم على قيد الحياة ممزِقاً للخيوط التي تخيط الشفاه ، وتخرس الألسنة. لقد عاشوا لحكمة مختلفة، لا لكي يهرب الآخرون هذه المرة. بل كي لا يتكرر الأمر كله، أبو عبدو الحمصي واحد من هؤلاء، إنه شخص عادي جداً، بسيط جداً، لا يمكن أن تتخيل سبباً واحداً قبل هذا الحدث لكي يكون مادة لمقال أو ضيفاً في لقاء على فضائية. لكن هذا بالذات، كونه بسيطاً جداً، وعادياً جداً، هو ما يجعله فعلاً أهلاً ليكون مادة المقالات وضيفاً في الفضائيات. هذا الرجل البسيط، الحمصي جداً حتى النخاع، عامل البناء الذي يعمل بأجر يومي نجا من إحدى مجازر النظام الأسدي في حمص ، في حي كرم الزيتون تحديداً. ولقد نجا ليروي لنا ، بالتفصيل ما حدث، أعرف اسمه الحقيقي وهو اسم محمّل بالمعاني، لكنه رفض أن أفصح عنه، وفضّل أن يكون "أب عبدو الحمصي". كما لو كان ممثلاً عن أهل حمص كلهم أجمعين، "أب عبدو الحمصي" هو، مثل الآلاف من أهل حمص. وهو اليوم ، يحدثكم بالنيابة عنهم جميعاً. وبطريقة ما ، بسبب رمزية حمص ، وارتباطها بتاريخ عميق عريق، فإنه يتحدث بالنيابة عن أكثر بكثير من أهل حمص فقط. عمره 42 سنة… مثلي بالضبط، مواليد 1970… ولدنا ، أنا وهو ، بعد ثلاث سنوات من الهزيمة التي توجت الضياع الرسمي لكل فلسطين ، والتي تم تسميتها تخفيفا بالنكسة،كي تستمر الأنظمة التي تسببت فيها بالحكم وبالاستمرار في كل ما أدى إلى الهزيمة. مرّ جيلنا ، في عموم الوطن العربي ، بظروف متشابهة، مع استثناءات نادرة… لكن التشابه بين ما مر به جيلنا في العراق وسوريا كان حتماً أكبر من أي تشابه آخر ، ليس فقط لوجود "تشابهات عضوية" في نسيج المجتمعين (اللذين يمتلكان امتدادات متداخلة كما هو معلوم ) وهي تشابهات تتوضح أكثر عندما يمر النسيج الاجتماعي بأزمة، أكثر مما تتوضح في أوقات الاستقرار – إن وجدت!. التشابه كان أيضاً في ابتلاء المجتمعين بنظام عسكري استند على توليفة من الأيدلوجيات الهجينة على النسيج الاجتماعي الأصلي ، وعلى بعضها البعض أيضاً ، وهي التوليفة التي جعلت حزب البعث العربي الاشتراكي مثل حذاء الطنبوري (كله رقع !) (يتشابه في ذلك مع تيارات سياسية وفكرية أخرى كثيرة عموما، فأحذية الطنبوري رائجة جدا بفضل قوة الدعاية المصاحبة لها،)، وقد كان ذلك كله مجيَّراً لصالح هيمنة عشائرية – مناطقية في الحالة العراقية، وهيمنة طائفية مناطقية في الحالة السورية. كل هذا يجعل من "أب عبدو الحمصي" ، ومن نجاته من المجزرة، بمثابة حدث "شخصي" يخص كل من في جيلي، بل كل من عاش تحت ظل نظامي "الأخوة الأعداء" في سوريا والعراق، خاصة أن الوضع الحالي في العراق ، يقترب أكثر من الوضع في سوريا ، من ناحية التحالفات الإقليمية والهيمنة الفئوية. أب عبدو الحمصي ، لم ينج بنفسه فقط ، بل نجا بنا جميعا، نجا ليقول إن "الجيل كله" تعرض ويتعرض لمجزرة ما. نجاته لم تكن صدفة، حاشا لله، بل لإيصال رسالة ما. أحاول الآن صياغة ما تيسر منها. لم يكن أب عبدو ناشطاً مهما في الثورة، لم يكن قد انضم للجيش الحر… كان يكره النظام مثل أغلب السوريين الشرفاء، ويؤيد إسقاطه مثل أغلب الحماصنة… كان قد ساهم في عدة مظاهرات على ما تيسر، وساهم في مساعدة بعض الناشطين في بعض الفعاليات، لا أكثر، ولم يطلب منه أحد أكثر… لم يكن من واجبه في تلك المرحلة سوى أن يعبر عن رأيه وتأييده للثورة. ما الذي حدث؟. كيف حدثت المجزرة التي نجا منها أب عبدو ؟ يسكن أب عبدو في حي النازحين ، وهو جزء من حي كرم الزيتون في حمص، حي النازحين هو حي آخر تتمثل فيه مآسينا المتداخلة ،أنه حي سمي بهذا الاسم أصلا لأن النازحين الفلسطينيين سكنوا فيه ابتداء. تعرض الحي إلى قصف عنيف للفترة من 10 إلى 13 /3 ، وكذلك تعرضت أحياء باب الدريب وجب الجندلي وسواها،كان ما يحدث عموما هو أن يقصف الحي لمدة ثلاثة أيام ، على نحو عشوائي ، ثم يتم اقتحامه. لم هذه الأحياء تحديدا ؟. لقربها من حي النزهة،الحي الذي تسكنه الفئة التي توصف أنها موالية للنظام،الموالاة هنا تقوم على أساس طائفي محض ، وهذا أمر لا يحتاج أن يبرر أو يفسر،قد يكون النظام قد تمكن من تجييش الطائفة أو تخويفها أو أي شيء آخر. النتيجة واحدة ، مؤسفة ربما ،لكنها واحدة. نقل أب عبدو أسرته ، زوجته ومعها خمسة أطفال إلى منزل أهلها في حي العشيري من حي كرم الزيتون في 9/3/2012، ،ثم التحق بهم بعد يومين،في 11/3 تصور مخطئا أنه وأسرته سيكون أكثر أمانا هناك، في اليوم التالي تم اقتحام الحي بعد صلاة الفجر، أعلن في مكبرات الصوت عن عدم الخروج،كان ذلك مفهوما، كل من سيخرج سيقتل فورا،القناصة في كل مكان، كان لبيت أهل زوجته جار مسيحي، خرج وطلب من "العناصر" أن يسمحوا له بالخروج إلى بيت أخت زوجته ، في حي النزهة. سمحوا للزوجة فقط،منعوه هو. بعد العصر وصلوا لمنزل حيث كان أب عبدو وأسرته. طلبوا من كل الرجال مغادرة المنزل ومعهم هوياتهم،كان هناك الإيحاء إنهم سيعودون فورا بعد أن يتم التأكد من "الحاسوب"،قال لهم الضابط هكذا بصوت عال،بلهجته المميزة التي تعلن للجميع عن انتمائه،عندما سلم أب عبدو الهوية هويته للضابط ، قال له ، على عادة الحماصنة "يعطيك العافية". فكان رد الضابط "إنقبر". كان الأمر مبيتا. لكن أب عبدو لم يفهم المعنى في تلك الكلمة،تصورها مجرد إهانة من شخص منزعج أو سيء الخلق. قيل لهم أن يركضوا إلى آخر الشارع، حيث مدخل حي النزهة…قيل لهم أيضا أن كل من سيتأخر في ذلك سيطلق عليه الرصاص. ركضوا طبعا،وصلوا إلى حي النزهة،تم تغطية أعينهم بما تيسر من ملابسهم، وتم تقييد أيديهم من الخلف وبقسوة شديدة،ضربوه بشدة عندما فتح أصابعه أثناء تقييدها…أدخلوا إلى منور ضيق بين منزلين،منور بطول ثلاثة إلى أربعة أمتار وعرض سبعين إلى ثمانين سنتيمترا،كانوا في وضع القرفصاء ، وكانوا يستمرون بإدخال الآخرين ويجبرونهم على الجلوس في نفس الوضع فوق من سبقهم حتى يكاد يختنق هؤلاء. صار عددهم يزيد عن الأربعين إلى الخمسين رجلا في هذا المكان الضيق، وكل ذلك وسط كفر مستمر من قبل العناصر،كفر صريح،كفر يعلن عن نفسه وانتمائه،كفر يريد أن يقول : أنا كافر،دون أي لف أو دوران،كفر متحدي وواضح . كانت كلمات الكفر تركز على الله جل جلاله، والرسول عليه الصلاة والسلام،كانوا يرددون مرة بعد أخرى "الله لا يمكنه أن يزيح بشار من الكرسي." طبعا كان السباب والشتائم أمر في منتهى القذارة،أولئك الذين لا عرض و لا شرف لهم يسهل عليهم امتهان أعراض الآخرين. …، توسلوا جميعا أن يسمحوا لهم بالوقوف…،كان من صار تحت الباقين يكاد يختنق… لم يسمحوا لهم بذلك ، إلا أن بدا بعضهم يقول"مشان بشار،مشان حافظ،". استحلفوهم بإلههم ،بمعبودهم،فسمحوا لهم بالوقوف. قضوا نحو الساعتين في هذا الوضع. ثم أخرجوهم من المنور… ليس عندي من تفسير لهذا الاحتجاز غير شيء واحد ،،تمريرهم في فترة من الإذلال المركز، الذي يجعلهم يتوسلون ببشار أو حافظ ، واستغلال هذا الوقت لجمع أهالي الحي، ومن ثم إخراجهم لهم وهم بهذه الحالة. نعم،تم جمع أهالي الحي ، ومن ثم أخرج هؤلاء من محبسهم الضيق،تعالى السباب البذيء والضحك والهتافات الرخيصة،رجال ونساء شاركوا بهذا،يفترض أنهم أبناء وطن واحد ، هم وأب عبدو ومن معه،ولكنهم فعلوا هذا ، بالضبط كما كان يفعل الرومان بأسرى حروبهم ، يمررونهم في شوارع روما وسط صفير وتصفيق الناس. وهكذا حدث في حي النزهة أيضا…اشترك الجمهور بالبذاءة والسباب،لم يكن من الممكن رؤيتهم بوضوح،فقد كانت الأعين شبه مغطاة،لكن من خلال فتحات الملابس ، التي كان يصادف أنها موجودة أمام الأعين ، ومن خلال القماش نفسه ، كان أولئك الرجال ، يرون بشكل غائم ، مواطني حي النزهة وهم يضحكون من آلامهم وإذلالهم،كانت النسوة تقول : هذا القصير ، اضربوه ، الآن هذا الطويل،هذا السمين،كي لا يزعل، كانت تنتظرهم سيارة حمل متوسطة ، هيونداي ، وكان عليهم الصعود إليها وهم يسيرون إلى الوراء وأيديهم مقيدة من الخلف، ارتفاع السيارة كان لا يقل عن سبعين إلى تسعين سنتمترا ، ولكي يصعد أي شخص بطول طبيعي، يحتاج إلى أن يكون في مواجهة خلفية السيارة، وأن يستند بيديه عليها، لكي يتمكن من الصعود، إلا إن كان من أبطال الساحة والميدان… كيف كانوا يصعدون إذن؟ كان عناصر الأمن يساعدونهم ، إن كان يمكن تسمية ما يحدث بالمساعدة،كان "المعتقلون" يضعون ظهورهم على سطح السيارة ، ويقوم العناصر بضربهم وركلهم على باطن قدمهم حتى يتم "حشرهم" داخل السيارة، وهكذا تم إصعادهم جميعا، مكومين واحدا فوق الآخر،بهذا الأسلوب،وسط فرح جماهير الحي بهذا العرض الذي أيقظ غرائزهم (هل كانت نائمة؟) اقتيدوا أولا إلى منزل لم ينته بناءه بعد، بيت قال "أب عبدو" ، مما كان يراه من تحت العصابة، أنه كان بتشطيب ممتاز،تهامسوا بينهم،ثم جمعوهم وأخذوهم مرة ثانية، بنفس الطريقة، إلى بيت آخر، لم يفهم أب عبدو ما لذي حدث، لكن من الواضح تماما ماذا كان الهمس،لم يكن هناك جماهير "صاخبة" أمام هذا البيت، إذن لم يكن في حي موال،كان في بقية حمص،أي في حي حمصي حقا…وكان بتشطيب "ممتاز"،ولقد تهامسوا فيما بينهم ثم أخرجوهم من البيت، من الواضح أنه بيت في حي مهجر، وأنهم طمعوا فيه بعدما رأوا جودة بنائه،فأخذوهم إلى بيت آخر، في حي مهجر أيضا، لم يميزه أب عبدو. البيت الثاني كان بيتا بسيطا،استطاع أب عبدو أن يرى الأثاث، كان بيت أقرب إلى البيت العربي…بأثاث بسيط،، أجلسوهم أرضا، وأخذوا يضربونهم بأخمص أسلحتهم متعمدين الضرب على الظهر، وسط الظهر ،وسط مسبات كفر شنيعة،أحدهم كان يتعمد الغناء بصوت عال أثناء ذلك،كان يغني باللهجة الحمصية،ثم يكمل بلهجته ضاحكا وهو يقول : تعتقدون أننا لا نعرف لهجتكم ؟… تركوا قليلا على الأرض، من كان يتجرأ على رفع الصوت بالدعاء كان يعاقب بالمزيد من الضرب على ظهره،كان أحدهم يتمشى على ظهورهم، ويقفز ويتقافز عليهم، بعضهم كان ظهره أصلا قد أصيب على ما يبدو بشدة عندما ضرب بأخمص السلاح، وجاءت هذه القفزات لتزيد من آلامه، وجاء تعبيره عن ألمه فرصة لتوجيه المزيد من الضربات له،كان أحدهم يبدو سعيدا بقدرته على إيذائهم، كان يقول له أنه سيضع قدميه في "،،،" أمهاتهم و زوجاتهم،وأنهم سيعتدون عليهن، احدهم كان يقول لهم تلك العبارة "التاريخية" التي تتكرر كثيرا من هؤلاء، وتعود في جذورها إلى أحداث حماة، وتقال اليوم بتكرار للمغتصبات: يقال، سنجعلكن تربون أبناءنا !. وقيل لهم الشيء ذاته، قيل: زوجاتكم سيربين أبناءنا،سيحملن منا ويربون أبناءنا. كان هناك حاوية زجاجية كبيرة (بوفيه) في الغرفة، مما توضع فيه بعض المقتنيات الخزفية والزجاجية، أخذ أحدهم يكسر المحتويات على رؤوسهم…يكسرها بشدة وحقد، بينما هو يسب كما لو كان قد رضع هذا الحقد منذ طفولته، كما لو أنه تدرب على ما يفعله الآن طيلة حياته، بل كما لو أنه عاش حياته ليصل إلى هذه اللحظة. نفذت المحتويات التي يمكن تحطيمها على رؤوسهم،لم تنفذ الرؤوس بعد، صار يمسك الرؤوس التي لم تكسر ويرطمها بالأرض بكل غل…كان هناك من يغني أثناء ذلك. بعدها جاءوا بأكوام من الملابس، وصاروا يرمونها عليهم، ملابس مختلفة لا بد أنها لأهل البيت الذين فروا من بيتهم ولم يخطر ببالهم أنه سيكون مسرحا لهذه المجزرة. حتى هذه اللحظة، لم يكن في ذهن أب عبدو تصور عما سيحدث، قال أنه تصور أن إلقاء الملابس كان لغرض الإهانة لا أكثر،كان يعتقد أن الأمر سينتهي عند تصويرهم فقط على أنهم من العصابات المسلحة، سألته هنا، ألم تكن هناك مجازر سابقة؟ قال كلمة بسيطة وموجزة: بلى، كان، لكن لا أحد يتخيل أنها ستحدث له…كلنا نسمع القصص، عندما يأتي دورنا لا نصدقها. بعد أن القوا الملابس، شم أب عبدو رائحة مميزة، رائحة بنزين، وفهم !، فهم أنهم سيحرقونهم، حلاوة الروح جعلته يحاول أن يتحرك، حاول غيره أن يفعل الشيء ذاته، عمت روح ما في المكان رغم كل شيء…عمت حركة كما لو كانت حركة استعداد للشهادة، أو للثورة، أو لشيء ما. لكن صوتا ما، سمعوه جميعا، جعلهم يتوقفون عن ذلك، كان صوت "الأقسام"،أقسام تجهيز الإطلاق، سمعوه، وعرفوا مالذي سيحدث، في نفس اللحظة، وكما لو أن ذلك كان كلمة السر،تعالى صوت الجميع بالتشهد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. انطلقت الرصاصات، تعالى التكبير، كلمة السر في الثورة السورية،كلمة السر التي أكتشف قوتها الحماصنة ذات مرة فلم يتركوها قط. جعلهم التكبير كالمجانين، صاروا يطلقون النار كالمجانين. ثوان وانتهى كل شيء. أصيب أب عبدو لكنه لم يستشهد. ظل ساكنا دون صوت، دون حركة. سمعهم يستمرون في السب والكفر، بينما هم يفرغون حاوية البنزين على كوم الشهداء، ثوان والنار تلتهم كل شيء، تصور أب عبدو أنه سيحترق حيا، تحرك إلى الزاوية،لم ينتبهوا له، استمروا في التفرج على المشهد لدقائق، وهم يضحكون ويطلقون النكات، أحدهم قال: لو ضربناهم أكثر قبل أن نقتلهم…ثم أزعجهم الدخان، فتركوا المكان. تحرك أب عبدو، كان قادرا على الوقوف، مصاب في رأسه وكتفيه وظهره، ولكن قادرا على الوقوف. تحرك بحذر، تأكد من أنهم قد غادروا البيت، عاد إلى الحريق ، لعله يجد أحد الأحياء، صرخ فيهم، يا جماعة… هل فيكم من لا يزال حيا؟… ياجماعة، لا إلا إلا الله، هل تسمعونني. كانوا جميعا أحياء، عند ربهم، لكنهم لم يردوا على سؤال أب عبدو. أحدهم فقط شخر شخير الموت، سمعه أب عبدو رغم هسيس النيران وصوت اشتعالها، بدا له صوت الشخير كما لو كان وداعا. حاول أب عبدو أن يفعل شيئا لعله ينقذ أحدا…كانت يداه لا تزال مقيدتين، حاول عبثا أن يطفئ النيران، صرخ بأعلى صوته، استنجد، تكلمت حتى الجدران، ولم يرد عليه أحد. جلس وهو يشاهدهم يحترقون، جلس وهو يشاهد أفراد أسرته (أولاد حماه) يحترقون وهو عاجز عن فعل شيء، بكى بصمت أولا، ثم بصوت عال، ثم صار بكاءه عاليا، أعلى من صوت النيران. لم يترك المكان إلا بعدما أوشك على الاختناق. بقي بعدها لفترة يعالج مما أصاب رئتيه من دخان. الدخان الذي يخرج من حريق جثث الأحباب، مؤذي جدا. اسالوا أب عبدو عن ذلك. خرج أب عبدو من البيت المحترق. وجد نفسه في حي خال ولم يميز الشارع،كانت يداه لا تزال مقيدتين، صار يضرب برأسه على الأبواب، لعل أحدا يفتح، وكانت البيوت فارغة، لعل بعض أصحابها كان قد استشهد للتو مع من استشهد، ولعل بعض البيوت كانت تضم بقايا مجزرة كالتي نجا منها للتو. بقي أب عبدو يمشي في شوارع لم يميزها،كأن المدينة لم تعد المدينة دون سكانها،لعله شعر أنه غريب في حمص، لعل كل المجزرة هدفها هذا، أن يشعر الحمصي الأصيل، أنه غريب حمص، أن حمص لم تعد له. لكن غريب حمص الذي نجا من المجزرة، تحدى تلك الغربة، وتحدى الهدف من المجزرة، لقد نجا ليقول لنا ما حصل، نجا ليدلنا على المجرمين… ليقول لنا أن ننجو، أن لا نسكت، أن لا نشارك في المجزرة بالتستر عليها، بالصمت. يا غريب حمص ، مجزرتك التي نجوت منها هي مجزرتنا بطريقة ما، قد تختلف التفاصيل قليلا، لكن الجوهر واحد، قد تختلف طرق نجاتنا، لكنها بطريقة ما واحدة، قد تختلف حياتنا قبل المجزرة، قد تختلف شهاداتنا ومنجزاتنا وما جمعناه في دروب حياتنا، لكن تلك المجزرة تترصدنا جميعا، إما أن نكون من ضحاياها، أو أن نكون من شركاء الصمت فيها، بهذا الداع أو ذاك. غريب حمص ، يقول لنا كفى،لقد نجا ليقول لنا كفا. نجا ليقول لنا أن حسن الظن صار سذاجة،ليقول لنا أنه قبل ثوان من المجزرة كان لا يزال يحسن الظن بهم،ويعتقد إن الأمر سينتهي عند مجرد التصوير. غريب حمص ، تمرد على التاريخ الذي أوصلنا لهذه النقطة،يقول لنا أن هذا لم يعد يجدي. وأنه لا بد لنا أن نكف عن كل ما أوصلنا لهذا… بين أكوام الجثامين المحروقة ، كان هناك ثلاث أو أربع صبية لم يتجاوزوا الثلاثة عشر، ربما لم يبلغوا سن الحلم بعد، وربما كانت لهم أحلامهم، ربما كانت أمهاتهم تحلم لهم بمستقبل ما، بأن يكونوا السند، بأن يلموا "شيبتهن"، لكن جاء ذلك اليوم، وجاء الحقد التاريخي مدججا بأسلحته، ليقتل الحلم، حتى قبل أن يبلغ الولد سن الحلم… وكان هناك ثلاثة من "أبناء حما" أب عبدو، أحدهم عنده طفلين وزوجته حامل، والآخران لم يتزوجا بعد… وكان هناك ثلاث أو أربع "ختايرة" تجاوزوا الستين…لم يتخيل أحدهم أنه سيموت هكذا. وكان هناك أشخاص مجهولون لم يعرفهم أب عبدو، ولكن يعرفهم رب أب عبدو، قضوا واحترقت جثامينهم، وربما سيبقى أهلوهم ينتظرون عودتهم لفترة طويلة، ربما لسنين قادمة، سيبقون متعلقين بأمل ما، سيبقون يهبون عند كل دقة باب، سيكون أمامهم درب طويل ليفهموا ويستوعبوا ماذا حدث، ويصدقوا إنهم عندما أخذوهم ليتأكدوا من الكمبيوتر، أخذوهم ليقتلوهم جميعا. وكان هناك، بين أكوام الجثث، مكانا خاليا لي، و لكم، ولأولادكم من بعدكم، لأولادنا من بعدنا. كان هناك مكان مخصص لنا، فيما لو أصررنا على لعب دور الصامت، لهذا الغرض او ذاك. يا غريب حمص ، أب عبدو الحمصي الأصيل، طوبى لغربتك، طوبى لجروحك، طوبى لروحك، طوبى لنجاتك، طوبى لإرادة الحياة فيك، إرادة الحياة التي جعلتك تقول، وجعلتنا نسمع، طوبى لصوتك القوي الذي حكى لي كل ما حدث دون أن يهتز، طوبى لكل حمصي لم تزده المأساة إلا صلابة، ولم يزده القتل إلا حرصا على الموت النبيل، أو الحياة بكرامة. أديت ما عليك. رسالتك وصلت. والويل لنا إن لم نعيها… الويل، الويل، الويل.
القرآن من أجل النهضة
غزوان طاهر قرنفل
محمد فاروق البطل
سليم نقولا محسن
إلياس هاني
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة