سلام الكواكبي
تصدير المادة
المشاهدات : 2533
شـــــارك المادة
في لقاء بحثي/ سياسي قبل سنوات، توجّه إلي باحثٌ روسيٌ، معروف بتخصصه في الشرق الأوسط عموماً، وسورية خصوصاً، وقال لي بلهجة جادّة: "سيكون مصير حلب كمصير غروزني، اعذرني على صراحتي". كان هذا الكلام قبل استعادة قوات النظام السوري السيطرة على الجزء الشرقي من المدينة في ديسمبر/ كانون الأول 2016. والباحث الروسي، ونادراً ما يوجد باحثٌ روسيٌ مستقل، المقرّب جدا من دوائر صنع القرار في موسكو، اعتذر لصراحة قوله، لأنه يعرف معرفة اليقين، وهو المثقف الدارس، أن ترويج دمار الحواضر المدنية لا يليق بمن هم في موقعه العلمي، نظرياً على الأقل. في المقابل، طغى الميل السياسي في حديثه بشدة على الطبيعة البحثية التي طالما حاول ترويجها في شخصيته.
وفي عودةٍ سريعةٍ إلى التاريخ القريب، استعادت قوات روسيا الاتحادية، في السادس من فبراير/ شباط سنة 2000، عاصمة الجمهورية العضو في الاتحاد الروسي، والتي تمرّد جزءٌ كبيرٌ من شعبها للحصول على استقلالهم عن موسكو، وتعرّضوا جرّاء ذلك إلى حروبٍ روسية عنيفة. ونجمت عن هذه الحرب، المسمّاة الثانية، إبادةٌ جزئيةٌ لما يقارب 26% من الشعب الشيشاني، إضافة إلى تدمير كامل للقرى وللمدن وخصوصاً، للعاصمة غروزني. واستخدمت القوات الروسية، في حربها ضد هذه العاصمة، المعقل الأخير حينذاك للمتمرّدين، استراتيجية "البساط المتفجر". وفي العلوم العسكرية، تُعتبر هذه الطريقة من أسهل الطرق وأقدمها وأكثرها دموية، فهي تعتمد القصف المكثّف عبر البر ومن الجو بطريقة مستمرة، من دون تحديد أي هدف معين. وبالتالي، تجري عملية مسح كاملة للمنطقة المستهدفة بكل أنواع الأسلحة التقليدية، وسواها من عنقودية وفراغية وكيميائية. وقد شهدت الحرب العالمية الثانية تجارب كثيرة مماثلة كما حصل في لندن من القوات النازية، وفي درسدن من قوات الحلفاء.
وقد اعتبرت الأمم المتحدة، في إعلان رسمي أن غروزني تعتبر "المدينة الأكثر تدميرا على وجه الأرض". ولم تتأثر الدعاية الروسية، ولا أصحاب القرار، ببيانات التنديد الغربية، وأثنت القيادة الروسية حينذاك على مجازر قواتها، مبرّرة العنف والوحشية بضرورة مقارعة الإرهاب الإسلامي. وفي مؤتمر صحافي شهير، أجاب سيد الكرملين، فلاديمير بوتين، على سؤال صحافي فرنسي، استنكر فيه عنف القصف، واستغربه قائلاً: "سنتتبع الإرهابيين أينما كانوا، في المطارات حتى، واعذرني إن قلت لك إننا سنتتبعهم حتى في غرف المراحيض ونقتلهم هناك. السؤال محسوم". وتابع مستهزئاً بإنسانية الصحافي الذي بدت عليه علامات الصدمة: "إن أحببت أن تصبح راديكالياً إسلامياً، وإن كنت مستعدّاً للخضوع لعملية الختان، سأدعوك إلى موسكو، وسأوصي بأن تجرى لك هذه العملية، بحيث لا يمكن أن ينبت لك بعدها شيء".
ما جرى إذا في حلب، إثر هذا "التهديد" الواضح من "الباحث" الروسي العريق، ليس إلا مؤشراً إضافياً إلى جانب الوضوح في السياسة الروسية في المنطقة، وإلى التزامها بتعهداتها تجاه حلفائها مهما بلغت درجة الجرمية، أو الوحشية أو التهكمية أو الاستهزائية في ثناياها.
في المقابل، يصاحب صراحةَ الوعود كذبٌ صريح في التبريرات. فأخيرا، وبعد تعرّض العميل الروسي السابق، سيرغي سكريبال، إلى التسمم في مقر إقامته في مدينة ساليزبوري البريطانية واتهام الحكومة البريطانية، بعد إجراء التحقيقات اللازمة، لاثنين من عناصر المخابرات الروسية بتنفيذ هذه الجريمة التي كادت أو تودي بحياته إضافة إلى ابنته، استضافت محطة آر تي الروسية، وهي لسان حال الدعاية (البروباغندا) الرسمية الأمنومافيوية، المتهمين الرئيسيين بالعملية، حيث أظهرت كاميرات المراقبة تجوالهما في منطقة الجريمة. وخلال اللقاء، تم توجيه السؤال عن سبب وجودهما في المدينة ذاك اليوم، فما كان منهما إلا أن أجابا، بركاكةٍ واضحةٍ، إن السبب هو السياحة، وخصوصا زيارة كاتدرائيتها الجميلة ذات الصليب المرتفع. وبدا أن هذا التبرير هو أقرب إلى الاستهزاء حتى للمذيعة، فكرّرت السؤال باستغرابٍ قائلة: "سياحة؟" أي أنها لم "تهضم" هذا المستوى المرتفع من الكذب المعلن. وسارعت الصحافة الروسية، في اليوم التالي، إلى التعبير عن الشكوك في مصداقية ما هرف به الرجلان. وصارت مقابلتهما مدعاةً للسخرية في روسيا نفسها.
يفهم من يشاهد هذه المقابلة تماما القصد من ورائها، فلا يبدو ألبتة أن القائمين على عملية الاغتيال الفاشلة، ومن خطط لها ونفذها، مهتمٌ للغاية بتبييض صفحته أمام الرأي العام العالمي. وإنما على العكس، فبهذه الاستضافة التهكمية، وبهذه الردود التافهة التي لم تصدّقها من هي مكلفة أصلا من المخابرات الروسية نفسها بتسهيل اللقاء، يُثبت الكرملين مدى نسبة الاستهانة والاستهزاء المبيتين لهذا الرأي العام عموماً، ولأصحاب القرار في الدول الغربية خصوصاً. نعم، نقتل معارضينا في عقر داركم بالسلاح الكيميائي، ونجدّد مبرراتٍ لا يصدّقها مُعاق عقلي.
هدفان أساسيان إذا للسخرية السوداء الروسية، أولهما، خداع رأي عام محلي أسير للاستبداد الإعلامي الرسمي، ولفوبيا عداء العالم وطنه المحاصر. وثانيهما، التوجّه إلى الغرب بالقول، نحن نكذب، ونعرف أنكم تعرفون أننا نكذب، ونريدكم أن تتأكّدوا أننا نكذب، ولكن سنتابع ما نراه مناسباً لتحقيق مصالحنا، إن كان في بلدنا أو في سواها.
برهان غليون
عبد الله المنصور الشافعي
غزوان طاهر قرنفل
ميشيل كيلو
المصادر: العربي الجديد
العربي الجديد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة