أسامة شحادة
تصدير المادة
المشاهدات : 8217
شـــــارك المادة
نموذج التاءات الأربعة (التيقظ، التعقل، التخلق، التمثل) هو من تطوير أحد الكفاءات الأردنية أ. د. ماجد الجلاد، وقد نشره في كتابين حديثين هما: المرشد العملي للتربية على القيم رؤية نظرية وطرائق عملية، والمرشد العملي للتربية على القيم نماذج تطبيقية، وقد صدرا عن مؤسسة قمم المعرفة بالرياض عام 1435هـ.
يشهد عالمنا اليوم صراعاً كبيراً على القيم بين مختلف مكوناته، فهناك صراع بين دول أوروبا وأمريكا حول القيم، وهناك صراع بين الغرب وروسيا والصين على القيم، وهناك صراع بين الغرب وروسيا وبين العالم الإسلامي على القيم، وهكذا في حلقة من الحروب المتنوعة والمتعددة، وحروب القيم لا تقتصر على الحروب العسكرية، بل لعلها من أقل الأساليب المستخدمة في تلك الحروب، والتركيز فيها هو على أساليب الحروب الإعلامية والسياسية والاقتصادية والقانونية. وخطورة حرب القيم تتمثل في أن خضوع قيم أمة لقيم أمة أخرى يجعل منها أمة تابعة ومُسخرة ومستعبدة لمصالح الأمة الغازية ويسلب منها استقلالها وقرارها وكرامتها لأنها تكون بذلك قد فقدت قيمة الوطنية لصالح الوطنية الغازية!
وتظهر أهمية القيم من كونها تزود الفرد والمجتمع بمعايير للحكم على الحياة والمواقف والأشياء، وتمنحه قوة ذاتية لحماية نفسه ومجتمعه من شر نفسه وشر وساوس شياطين الإنس والجن، فلا يتورط في أفكار واتجاهات وسلوكيات ضارة ومؤذية، وتزوده بالروح الإيجابية البناءة لبناء مستقبل ناصح لذاته ومجتمعه وأمته، وتحصن المجتمع من أمراض الظلم والكراهية والعنف. يعرّف د. الجلاد القِيم بأنها: "مجموعة من التصورات المعرفية والوجدانية الراسخة، يَعتقد بها الإنسان اعتقاداً جازماً، تشكل لديه منظومة من المعايير يحكم بها على الأشياء بالحسن أو القبح وبالقبول أو الرد، ويصدر عنها سلوك منتظم يتميز بالثبات والتكرار والاعتزاز". وتنبثق القيم من ثقافة الأمة والتي تشمل أبعادها الثلاثة، العموميات الثقافية والتي تضم اللغة والدين والتاريخ، والخصوصيات الثقافية لفئات المجتمع، والمتغيرات الثقافية، ويتضح هنا مركزية اللغة والدين والتاريخ كأصول راسخة لثقافة المجتمع ومن ثم قيمه، ومن هنا ندرك سبب الاستهداف الشديد من قبل أعداء الأمة المسلمة للغة العربية والدين الإسلامي والتاريخ الحضاري الإسلامي بشكل مباشر من قبل المستشرقين الحاقدين وأتباعهم من أبناء المسلمين، أو بشكل غير مباشر عبر وسائل الإعلام وسياسات التعليم والقوانين التي تحارب العربية الفصيحة وأركان الإيمان والإسلام وتشوه تاريخنا العظيم.
وساهمت ضغوطات الحياة العصرية في تعطيل عملية بناء القيم السليمة في الناشئة إما بسبب الفقر وقلة الموارد التي تدفع الآباء للبعد عن أولادهم من أجل لقمة العيش أوقاتا طويلة، وعلى غرار الآباء المعلمون الذين بسبب ضعف الرواتب يضطرون للتدريس الخصوصي أو العمل بمهن أخرى إضافية تستنزف روح التعليم وزرع القيم من نفوسهم. أو بسبب الترف الزائد أصبحت توكل عملية زرع القيم للخدم والحاضنات غير المؤهلات وغالباً اللواتي يعانين من ضعف القيم بسبب ظروفهن الاقتصادية! وبهذا أصبح الإعلام وشبكة الإنترنت يستهلكان غالب أوقات أبنائنا بسبب انشغال الأهل وضعف دور المدرسة وأصبحا مصدر زرع القيم، ويمكن لنا أن نلمس نتائج هذه القيم الإعلامية في مجتمعاتنا من خلال ملاحظة تفشي السلوكيات العامة السيئة فيها، كظاهرة التحرش الجنسي في العمل والجامعات، والتي تبدأ من خلال التسكع عند مدارس البنات! أو من خلال تراجع المستوى التعليمي للطلاب بشكل عام، وتزايد مشاكل التدخين وتناول الخمر والمخدرات بينهم.أو تزايد معدل الجرائم الأخلاقية والمالية والقتل في تقليد لما تضخه وسائل الإعلام من زنا المحارم وسرقة الأهل وقتل الآباء والتفنن في الجرائم، حتى قلد البعض عصابات الأفلام الأمريكية في شوارعنا.أو من خلال حالات العقوق بالآباء والأمهات الذين تغص بهم دور العجزة والمسنين.
ومن أمثلة القيم التي تتعرض لحرب شديدة في نفوس أبنائنا قيمة الوطن، حيث يراد لهذا الجيل أن يقبل بإسرائيل كدولة شريكة لنا في المنطقة، ونتخلى عن مقدساتنا وتراثنا وتاريخنا ودماء آبائنا التي سكبت دفاعاً عنها، لقيم وافدة كالشراكة والتطبيع! ومنها قيمة الإيمان بالله عز وجل التي يراد أن تتحول من إيمان مطلق إيجابي نافع يحقق السلام والأمن للبشرية، ليصبح وجهة نظر أو سببا للتخلف والإرهاب!
ومنها قيمة الجهاد الذي حمى بلادنا وحررها من الاستعمار، والذي يحاول خطفه الغلاة وتحويله إلى صنيع عصابات إجرام وإرهاب، ويحاول الغزاة تجريمه وتحريمه حتى يظلوا ينهبون خيراتنا! ومنها قيمة العفة والشرف التي يراد تذويبها في نار الشهوات والمتعة الفاجرة ليدر على عتاة الرأسمالية آلاف المليارات من وراء تجارة الجنس والرقيق الأبيض والموضة والمكياج والصرعات وتقليد النجوم وبرامج المواهب التافهة وصناعة الأفلام والدعايات وغيرها.
من أجل معالجة هذا الخلل في تربية الجيل جاء نموذج التاءات الأربع الذي ابتكره د. ماجد الجلاد، ليقدم للأسرة والمدرسة والمسجد وبقية المؤسسات طرقا عملية في زرع القيم الصحيحة في نفوس أبنائنا، حتى لا نخسر أنفسنا في معركة القيم التي تجتاحنا. ولفهم نموذج التاءات الأربع نستعرض ملخص تطبيقها على قيمة الإيجابية كما عرضه د. الجلاد في كتابه الثاني "نماذج تطبيقية". التاء الأولى: التيقظ القيمي ويقصد بها "إثارة انتباه المتعلم وتنبيهه على ما فيه من أصول فطرية جبلية طيبة، وتذكيره بما فيه من كوامن الخير ودوافع الصلاح"، وهذه هي الرؤية الإسلامية أن الناس يولدون على الفطرة النقية الطاهرة ثم قد تتلوث تلك النفوس بفعل البيئة.
والقضايا التي يلزم التنبيه عليها كثيرة منها: حقيقة الخالق وحقيقة الإنسان المخلوق وحقيقة الدنيا والآخرة والكون، وعالم الغيب والثواب والعقاب والغاية من حياة الناس والحب والكره، ووسائل هذا التنبيه والتيقظ من قبل الأسرة والمدرسة والمسجد وغيرها تكمن في الموعظة والتذكير والسؤال والترغيب والقصة والقدوة وضرب الأمثال. وهنا يهدف المربي إلى تنبيه المتعلم لمفهوم الإيجابية، فيقصّ عليه بعض القصص أو يعرض له فيلماً قصيراً، ومن أمثلة قصص الإيجابية قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام حين أخبره بعبادة مملكة بلقيس للشمس من دون الله عز وجل. التاء الثانية: التعقل القيمي
فإذا تيقظ المتعلم وتنبه من غفلته يصل للتاء الثانية وهي التعقل القيمي، ويقصد بها: "الإدراك المعرفي والاقتناع العقلي بالقيمة المتعلمة، وتأسيس فهم واع لها من حيث معناها وأهميتها ومجالاتها ومؤشراتها السلوكية ودورها في تحقيق سعادة الفرد في الدنيا والآخرة بحيث تصبح هذه القاعدة المعرفية والإدراكية قاعدة يبنى عليها السلوك"، والتعقل القيمي يطال مجالات تنمية التفكير بأنواعه المختلفة وحل المشكلات واتخاذ القرارات وتكوين القناعات، والوسائل التي نزرع بها التعقل في ناشئتنا متنوعة ومنها: الحوار والمناقشة والتعليم التعاوني والعصف الذهني وتحليل الأحداث والمواقف. هنا ينتقل المربي لشرح مفهوم الإيجابية وصفات الشخص الإيجابي والشخص السلبي ويقوم بالمقارنة بينهما، وإدارة حوار مع المتعلم حول ذلك، وإدارة عصف ذهني لفوائد الإيجابية وطلب أمثلة من المتعلم على الإيجابية.
ومن المهم جداً هنا ربط القيمة بأشكالها المتعددة والسلوكيات المرتبطة بها، فالإيجابية مثلاً لها صور شتى دينية بالقيام بالواجبات الشرعية، واجتماعية بخدمة الأسرة والأهل والحي والمجتمع، وتعليمياً بالمشاركة مع المعلم والتفاعل مع أسئلته، وفي العمل بالتصدي لحل المشكلات الطارئة، وهكذا فالقيمة الواحدة لها عشرات السلوكيات والمؤشرات الدالة عليها، وهذا أهم ما يجب أن يدركه ويعقله المتعلم. التاء الثالثة: التخلق القيمي
ومعناه "التدرب على القيمة ورياضة النفس عليها، وحملها على السلوك بمقتضاها ومصابرة النفس على مشاقها وصعابها حتى تعتادها النفس"، وذلك أن القيم والأخلاق والسلوك يمكن تعلمها واكتسابها بالوعي والتكرار، ومجالات التخلق القيمي معرفة المعايير الشرعية والأخلاقية وجهاد النفس والرقابة الذاتية، ومما يساعد المربي على غرسها القدوة الصالحة والصحبة الطيبة والمحاسبة والتعزيز والتطبيق العملي. وفي هذه المرحلة نهدف أن يبدي المتعلم رغبته بالأخذ في الإيجابية في حياته، فيعرضه المربي لمواقف تقتضي الإيجابية ويكلفه ببعض المهام، ويتم الطلب منه تقييم نفسه ضمن مؤشرات علمية.
التاء الرابعة: التمثل القيمي وهو أن تصبح هذه القيمة جزءاً من الذات وتنتقل من دائرة التخلق إلى دائرة الخلق الراسخ العفوي، والتركيز على الإيجابيات والبيئة الصالحة مجالات لصنع هذا التمثل، ويساعد على ترسخها من قبل المربي المعايشة والمدح والثناء والممارسة العملية والدعوة لها. والمطلوب هنا أن يصبح هو مصدرا للإيجابية وداعية لها بين أقرانه وخلانه، فيعقد له جلسات نقاش وحوار حول مفهومه للإيجابية ويطلب منه مقترحات لنشر الإيجابية. فهذا مثال عملي على زرع قيمة الإيجابية في نفوس أبنائنا ضمن نموذج التاءات الأربع، لتساهم في رفع الثقافة التربوية لدى الأسرة والمدرسة والمسجد، حتى لا نخسر معركة القيم الدائرة على شبابنا وشاباتنا في كل لحظة ومنذ عقود طويلة.
الأمة
محمد نور حمدان
نجوى شبلي
مجاهد مأمون ديرانية
عامر الهوشان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة