أشهب الحلبي
تصدير المادة
المشاهدات : 11563
شـــــارك المادة
بدأت المعركة في سورية تأخذ منحى جديداً يثبت تورط المجتمع الدولي المباشر في المؤامرة على الشعب السوري بهدف حرف مسار الثورة، وتأخير انهيار النظام. لقد أيقنت الدول الكبرى أن انهيار الأسد قريب جداً، فسارعت إلى تكثيف جهودها وتوحيدها ابتداء من أمريكة مروراً بروسية وصولاً إلى إيران.. من أجل تأخير هذا المصير، والتحكم بصورته، وبالقوى المؤثرة فيه.
عمل الغرب على توظيف همجية الأسد في مهمة تخريب البنية التحتية للبلد بهدف إضعافه وإشغاله ـ بعد سقوط الأسد ـ بأعباء الترميم وتعويض التهديم، لإعاقة أسباب نهوضه وتحوله إلى وجود قوي منافس لإسرائيل في المنطقة، حتى لقد صرح جنرال إسرائيلي بأن: "النظام السوري حقق لنا من خلال صراعه الدموي مع شعبه مالم نكن نتجرأ حتى على مجرد أن نحلم به من تدمير لسوريا"!! الواقع أن أمن إسرائيل هو البوصلة الأساسية التي توجه مواقف الغرب من الثورة السورية، بالإضافة إلى اقتسام مناطق النفوذ، مع المحافظة على شبح الخطر الإيراني للضغط على دول الخليج وابتزازها. بيد أن تشكل قوة عسكرية مؤثرة داخل سورية جعل تحقيق هذه الأهداف غير مضمون، بل ربما غير ممكن. ولذلك كان مهماً البحث عن حلول أخرى تسمح للغرب بالتدخل جدياً في سورية على طريقة نفوذها في دول الخليج، خاصة بعد أن أثبتت الجهود الاستخباراتية الغربية أن تجنيد عملاء مؤثرين، وحكومات عميلة من قادة الثورة ونشطائها، لم يكن بالسهولة التي توقعها الغرب الذي لم يدرك إلى الآن أن تغييراً فكرياً وأخلاقياً واجتماعياً حقيقياً وراسخاً ومستنداً إلى قاعدة قيمية ثابتة مستمدة من الإسلام ومعادية للغرب، هو الذي يصنع الأحداث ويسيطر عليها. بعد يأس (المجتمع الدولي!) وعجزه عن الوصول إلى حلّ للأزمة السورية يقلّص الأخطار المتوقعة بعد سقوط النظام على مصالح الدول الكبرى في المنطقة، وقد تمثّل ذلك العجز في تصريحات روسية الأخيرة المهادنة للثورة، وروسية أكبر حليف للأسد، وشريك أساسي في لعبة دولية ماكرة تتوزع فيها الدول الكبرى الأدوار والمكاسب. فإذا بالأمل يعود فجأة إلى هذه الدول، فنراها، بغرورها ومكرها المعتادين، ترجع إلى اسطوانة مبادئها الإنسانية المشروخة تخدّر بها شعوبها، وتمدّ النظام الأسدي بكل ما يطيل عمره ويزيد معاناة الشعب السوري.
فما سرّ هذه التحولات وماذا تخفي وراءها؟ لقد منحت حرب الوقود والغذاء التي شنّها الأسد على شعبه فرصة جديدة للغرب لتأخير الحسم الثوري، والضغط على الثوار لتحصيل مكاسب تفاوضية، واستثمار الوقت للتدخل في ترتيب مرحلة ما بعد الأسد.
ويبدو أن الخطة التي اعتمدها الغرب لتحقيق ذلك تعتمد على أمرين: الأول: توريط الثورة في صدامات طائفية (إعلامياً على الأقل) لإيجاد ذريعة لسحب الشرعية عن الثورة وتحويلها إلى صدام مسلح أو حرب أهلية أو طائفية، تمهيداً للتدخل الخارجي وتأسيس دولة علوية منفصلة في الساحل السوري. وقد تعمّد النظام ارتكاب مجازر فظيعة مؤخراً ليعزز المشاعر الانتقامية عند الثوار، ويجرهم إلى ردود فعل غير محسوبة تساويهم بالأسد في الاعتبار السياسي والأخلاقي (فليحذر الثوار!).
الثاني: الضغط على الثوار عن طريق خلق ساحة حرب موازية للمعارك العسكرية، يُستعمل فيها القوت والوقود لكسر إرادة الشعب السوري، وفرض خيارات مخزية عليه، وإلجائه ـ تحت ضغط المعاناة ـ إلى تسريع الحسم بأية كلفة ومهما كانت الأثمان، وابتزازه بآلام الناس لتحقيق مكاسب سياسية. وقد صرح الشيخ معاذ الخطيب رئيس الائتلاف السوري بهذا حين قال: ".. وإذا بدأ تجويع شعب سورية لإجباره على قبول أية إملاءات فليتحمل الجميع النتائج ..".
ولكن الغرب الذي بدا في تعامله مع الثورة السورية مطمئناً إلى قوته مغتراً بها، يكرر أخطاءه ولا يعتبر بها، لم يدرك أن العقاب الجماعي وسياسة التجويع والحصار التي استعملها من قبلُ في العراق وغزّة لم يكن لها أن تُخضع الشعب السوري، وأن الإذلال الممنهج لن ينجح في كسر إرادة السوريين، وذلك للأسباب التالية: - أنه حين لم ينجح الحصار في كسر إرادة الفلسطينيين في غزة، وقد سُدّت عليها كل المنافذ، فإنه لا يتوقع أن ينجح الحصار في كسر إرادة السوريين، والثوار ينتزعون منافذ حدودية لهم في كل الاتجاهات بتسارع يثير الدهشة والإعجاب. - أنه إذا كان المقصود من الحصار أن يساعد في تأخير الحسم، فإن الواقع أن الثورة السورية لم تعتمد أساساً على مقومات مادية في حدوثها، بل استمدت وقودها من عدالة قضيتها، وستزداد هذه القضية وضوحاً وتمكيناً وانتشاراً في ظروف المعاناة المشتركة. - ثم إن تراكم العوامل المادية ليس هو ما يضمن الحسم في الثورة السورية، فقد يتحقق الحسم فجأة بمقتل الأسد، أو السيطرة على موقع حساس، أو بانشقاق جماعي كبير.. - وهذا يعني أن قطع الإمدادات الإنسانية قد لا يضمن تأخير الحسم كذلك. - أن الحصار لن يحقق هدفه في الضغط على الثوار، ولا في تحقيق تغيير حاسم في مسار الثورة، ولا في التوجه الشعبي العام.
إذ يمكننا أن نصنف الشعب السوري اليوم في ثلاث فئات: - فئة الثوار الذين رصدوا أنفسهم لحرب طويلة الأمد لا تنتهي إلا بتحقيق أهدافها الواضحة المجمع عليها، وهم عاشوا الكارثة الإنسانية قبل أن تصبح شأناً عاماً ومصاباً جماعياً بما تعرضوا له من حصار وملاحقة وإبادة طالت أنفسهم وعائلاتهم وما ملكت أيمانهم، ولم يثنهم ذلك كله عن هدفهم ولم يزدهم إلا إصراراً وثباتاً. ولن يكون الحصار الجماعي اليوم إلا جولة جديدة في معركة الصمود والمواجهة.
- الفئة الصامتة المدجّنة التي تنشغل بهمومها الخاصة ولا تؤثّر مواقفها في الأحداث ولا في مجرياتها، أو بالأحرى لا يؤْثَر عنها مواقف أصلاً، فقد استطاع ظلم الأسد وقمعه الطويل تدجينها، وهي تعرف كيف تتعايش مع أي ضغط وتعتاد أي شكل من أشكال الظلم، ولن يُنتظر منها بسلبيتها وقوة احتمالها أن تتدخل في الأحداث، ولن يؤثّر الحصار في موقفها أو يجرها إلى تغيير ميزان القوى.
- فئة منتفعة من مؤيدي الأسد وتجار الحروب سيفتح لها الحصار باباً جديداً للاستغلال والاحتكار وابتزاز الناس ومحاربتهم في أقواتهم ولقمة عيشهم. وهذه الفئة تعمّق الشقة بين النظام الأسدي والناس، وتشيع بينهم آمال الخلاص منه، فهي الواجهة المباشرة لمعاناتهم، والخلاص من الأسد يعني نهاية هذه المعاناة.
- إن ظروف القلة تعوّد الإنسان على الصلابة والتماسك، ووحدة الهمّ تحرّك فيه خلُق البذل والتكافل، وحين تتوحد المعاناة تضعف الفوارق الطبقية ويعيش الغني هم الفقير ويسخو له بما في يده. - بذلك المستوى يغدو الحصار معسكراً جبرياً شاملاً لإعداد المجتمع المسلم وتأهيله على خلق التكافل والتناصر والتواصي بالصبر والمرحمة.
- واضح أن السوريين تأقلموا فعلاً وبسرعة مذهلة مع ظروف الحصار، وبدؤوا يتعايشون معه كأمر واقع أو كثمن واجب السداد لاستحقاق النصر، مطلقين كل قوى الخلق والإبداع لديهم لتوفير وسائل بديلة تعينهم على تأمين ضروراتهم وتحقيق كفايتهم، لا يضرهم تذمر المتذمرين ولا يعيقهم اعتراض المعترضين الذين لن ينفعهم اعتراضهم ولا تذمرهم في تغيير واقعهم المرير.
إن هذه العوامل مجتمعة تبين أن معركة الرغيف قد ترهق الشعب ولكنها لن تخضع الثوار،وأن سلاح الحصار قد يؤخر الحسم بيد أنه لن يحرفه عن مساره. وإن كان ذلك كله لا يخلي الثوار من مسؤوليتهم المباشرة للتخفيف من المأزق الإنساني، وواجبهم لتقليص مخاطر الحصار الخانق وتحييد آثاره ما أمكن على مصير الثورة وعلى عموم المستضعفين، وذلك على ثلاثة مستويات:
المستوى المعيشي: يفرض الظرف الخانق على الثوار السعي لإيجاد بدائل؛ محلية أو مستوردة للمواد الأساسية تمنع احتكار شبيحة النظام وتجار الحروب لها وابتزاز الناس بها، وتلبي حاجات الناس الضرورية. كما ينبغي عليهم العمل على نشر ثقافة الإيثار والتشارك والالتزام بحد الكفاف على مبدأ "أرخصوها بالترك"، وتشجيع الابتكار لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ويمكن الاستفادة كثيراً من التجربة الفلسطينية في غزة في هذا المجال.
المستوى النفسي: على الرغم من أن الحسم سيكون عسكرياً، فإنه ينبغي ألا يجعلنا هذا نغفل عن الحرب النفسية التي يشتغل عليها النظام، ويحسن الخارج استغلالها لتحقيق مآربه الوصائية. وإن الثورة السورية قد دخلت مع بداية الحصار مرحلة جديدة وخطرة في الصراع تعتمد على طول النفَس وقوة الصبر، فالمعركة القادمة هي معركة صبر يفوز فيها الأطول نفَساً، والأقدر على الصمود أمام الضغوط وعدم الخضوع لها. ومهما ضاقت الظروف، واشتدت المحن، وتكاثر الأعداء فلا يجوز أن يهزّ هذا إيمان الثوار بحتمية النصر، والأمل بقربه، مستلهمين قدوتهم وحبيبهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام الذين صبروا على مرّ الحصار وابتلاءاته ثلاث سنين من دون أن تُكسر إرادتهم، أو تهتزّ عقيدتهم.
المستوى السياسي: إنه من الضروري عدم توقع الدعم من الغرب، وعدم استجداء هذا الدعم، وعدم الخضوع لأي ضغط في سبيل الحصول عليه، فمصير الثورة لن يحسمه إلا الداخل، وسيخضع الغرب لشروط الأكثر سيطرة ونفوذاً على الأرض. ومع بدء الحصار دخلت الثورة السورية مرحلة جديدة صار فيها الغرب طرفاً مباشراً في النزاع، بعد أن ظل طوال المرحلة الماضية مراقباً خارجياً يعتمد على الأسد في ضرب الثورة، ويقدم له الدعم والتيسير اللازمين. وهذا يقتضي من الثوار فهم طبيعة الصراع، وميزان المصالح المتحكم به، ووعي عناصر قوة الثورة، وما لديها من وسائل الضغط، والندّيّة في المفاوضة، والجرأة في اتخاذ المواقف، والسعي لتحييد الغرب عسكرياً وسياسياً عن طريق الضغط عليه بمصالحه وبشروط الأمر الواقع، وإلزام مؤسساته الإنسانية بواجبها تجاه الكارثة الإنسانية التي يعيشها الشعب السوري بغض النظر عن طبيعة الصراع القائم. ما أردنا أن نقوله أن المرحلة القادمة من الثورة ليست معركة مع النظام الذي لم يبق منه إلا مفاصل هشة وشيكة الانهيار، ولكنها معركة مع إرادات دولية عظمى تتصارع على الغنائم والنفوذ، وخطط غربية تخشى المدّ الإسلامي وتريد ضمان مصالحها وأمن إسرائيل في المنطقة، وعدة هذه المعركة تختلف عن عدتها ضد النظام، وتلقي على الثوار مسؤوليات جساماً عليهم أن ينهضوا بها، متحلين بالصبر وقوة الإرادة، والإيمان بالقدرة على الصمود أمام القوى الخارجية، لأن هذه القوى لا تملك الأرض ولا تضمن أي شيء فيها، وإذا لم يسمح الثوار لها بذلك، وهم أصحاب النفوذ، فمن يضمن لها ذلك!
سعد محيو
مركز التأصيل للدراسات والبحوث
مجاهد مأمون ديرانية
طارق الحميد
جزى الله أخانا الحبيب أشهب الحلبي كل خير ، وبارك فيه ، أوافقه على معظم ما ورد في المقال ، ولي بعض الملحوظات الصغيرة ، وأدعو الله أن يجزيه خير الجزاء، فهذه ثاني مقالة أقرؤها له منذ بدء الثورة وكلاهما فيهما فكر وفهم ودراية بحقيقة الحال،وأرجو إن تيسر وضع رابط صفحته في الفيس بوك أو غيره فأنا ممن يسعدني صداقته ومتابعته وجزاكم الله خيرا.
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة