عبد المجيد البيانوني
تصدير المادة
المشاهدات : 4393
شـــــارك المادة
العظماء الأخفياء يقول الناس عنهم: الجنود المجهولون، وأقول عنهم: إنّهم العظماء الأخفياء.. إنّهم الذين أحكموا صلتهم بالله ، وتجرّدوا عن أهواء النفس ومطامع الدنيا، فلا يحبّون الظهور، ولا يسعون إلى الأضواء ، ولا همّ لهم إلاّ العمل بطاعة الله ، وبلوغ مرضاة الله .. العظماء الأخفياء هم الذين تأبى عليهم هممهم أن يشتغلوا بالسفاسف والدنايا ، لا يدّعون ولا يتبجّحون ، ويعملون أكثر ممّا يتكلّمون ، ويعملون بصمت ، ولا يشغلون أنفسهم ولا أوقاتهم بالجدال ، وكثرة القيل والقال ، وتسليط أسهم النقد بغير بيّنة ولا برهان ..
العظماء الأخفياء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويصبرون على أشدّ البلاء ويحتسبون ، ويتجلّدون ولا يستكينون .. ويحملون الأمانة بصدق ، ويتحمّلون المسئوليّة باقتدار ، ويكثرون عند الفزع ، ويقلّون عند الطمع .. لقد علّمنا التاريخ أنّ ثورات المبادئ الحقّة لا بدّ لها أن تقدّم نماذج فذّة من المواقف الإنسانيّة والأخلاقيّة ، التي تكشف عن شرف مبادئها ، وسموّ مقاصدها .. ولقد دأب أكثر الناس على أن تبهرهم الصور الظاهرة ، التي تبرز للعيان ، والمواقف التي تسلّط عليها الأضواء ، ولا يكلّفون أنفسهم عناء البحث والتحرّي عمّا سوى ذلك .. بهر العالم وشهد وأقرّ أنّ « الشعب السوريّ هو محضن الثورة » ، وأقول : « إنّ الشعب السوريّ هو محضن الثورة .. والمرأة السوريّة هي محضن الشعب والثورة » هي محضن الطفل والشابّ ، والرجل والشيخ .. هي راعية البيت وحافظة العهد ، هي الداعمة المؤيّدة ، والصابرة المحتسبة .. تعمل بدأب بعيدة عن الظهور والأضواء ، فعملها أبعد عن حظوظ النفس والرياء .. نعم ! المرأة هي محضن الثورة والشعب .. إنّها حقيقة ظاهرة للعيان ، لا تقبل الجدل والمراء ، ومن ثمّ فقد كان حظّها من إجرام الطاغية وزبانيته ، وتسلّطهم وعدوانهم لا يقلّ عن حظّ الرجل ، وربّما فاقه في بعض المواقف .. وحقّ لهنّ أن توجّه الأنظار إلى تضحياتهنّ ، وأن تخلّد أخبارهنّ في سِفر ، وتوثّق مواقفهنّ ، ليكُنّ أسوة حسنة لمن بعدهنّ .. لقد قدّمت المرأة في سورية خنساوات ، بهرن العالم بتضحياتهنّ وصبرهنّ .. طوبى لهنّ خنساوات سورية ، وما خنساوات سورية .! حلّقت أخبارهنّ في سماء المجد ، وفاقَت أخبارَ خنسائنا الأولى ، بعدما كانت لهنّ المثل الأعلى ، وكنّا نظنّ أن لا يأتي الدهر بمثلها .. وهذه بعض المشاهدات والمشاهد : امرأة في الثمانينات من العمر، رأت في هاتين السنتين من البلاء ما لم تره في حياتها كلّها .. فقدت اثنين من أبنائها ، وخمسة من أحفادها ، وكتب عليها الخروج من قريتها ، تحت نيران القصف والقنص والدمار .. تعيش اليوم في خيمة اللجوء مع اللاجئين صابرة محتسبة ، تقضي جلّ وقتها في خيمة المسجد ، مع القرآن الكريم ، الذي حرصت على حمله في رحلتها .. تنتظر الفرج والنصر بفارغ الصبر .. سألناها : ماذا تفعلين يا خالة .؟ قالت : « كما ترون ! أقرأ القرآن ، وأدعو للثوّار ، وأدعو على بشّار .. الذي قتل رجالنا ، وخرّب ديارنا ، وشرّدنا عن بلادنا .. » . وبنات في عمر الزهور، لم يتجاوز عددهنّ أصابع اليد الواحدة ، يشكّلن تجمّعاً خاصّاً بهنّ ، يسمّينه: « فتيات سورية الحرّة » ، يكتبن الشعارات الثوريّة على الأوراق ، ويصنعن الأعلام ، ويرسمن الصور المعبّرة عن الثورة والمظاهرات ، ويقدّمن ما يصل إليهنّ من الأموال للإغاثة وللجيش الحرّ .. والسؤال الذي اختلفن فيه: ما هو أثوب لنا عند الله: دفع المال للإغاثة، أم للجيش الحرّ؟ وقالت إحداهنّ بكلّ صدق وبراءة: كلّما رأيت طفلاً من أطفال سورية مقتولاً تمنّيت أن أكون مكانه . فقلت لها: لماذا .؟ فقالت : لأنّه سيدخل الجنّة .. فقلت في نفسي : ما أصدق ـ والله ـ قول الشاعر الجاهليّ في أطفالنا : إذا بلغَ الفِطامَ لنا صَبيٌّ *** تَخِرُّ له الجبابِرُ سَاجدينا وليتعلّم الأذلاّء الخانعون معنى العزّة والرجولة ، والشرف والمروءة .. وأمّ تحثّ أبناءها السبعة على الخروج في المظاهرات السلميّة، واحداً بعد الآخر، وتعلن لهم أنّها على استعداد أن تتقبّل التهنئة كلّ يوم بشهيد منهم ، ولكنّها يصعب عليها أن يستشهدوا في يوم واحد .. وأمّ لا تقبل التعزية باثنين من أبنائها ، وتقول: إنّ الله شرّفني بشهادتهم ، وقد تكرّر مثل هذا الموقف من عدّة أمّهات .. وزوجة كانت ناعمة مترفة ، لا تعرف إلاّ البحث عن الزينة ورفاهية العيش ، يحدّثها زوجها عن فضل الجهاد في سبيل الله ، ورغبته فيه ، لنصرة الدين والدفاع عن المستضعفين ، فتنقلب حياتها إلى امرأة لا همّ لها إلاّ الله والدار الآخرة ، وتشجّع زوجها على الجهاد وتحثّه ، وتقول له : امض لما تريد ، ولا تحمل أيّ همّ عليّ أو على أولادك، فسأقوم عليهم بما يرضي الله ، ويقرّ عينك .. ومواقف كثيرة من زوجات صالحات شجّعن أزواجهنّ على المضيّ في طريق الجهاد ، وكنّ خير عون له على ذلك .. وهل للرجل أن ينجح في عمله ويبدع ، إن لم يكن وراءه سند يؤّيده ، ويشدّ من أزره .؟! إنّا لنرجو من الله أن تكون هذه الثورة مبتدأ ثورة حضاريّة لهذه الأمّة ، تضع قدميها على سكّة السبيل القويم ، والمنهج الحقّ ، وتعيدها سيرتها الأولى في حمل لواء الهدى والرحمة للعالمين ، وتلك أعظم مهمّة في حياة البشريّة ، فلا عجب أن تكون دونها ابتلاءات كبرى ، وتضحيات جسام .. وقد كانت هذه الأمّة على مدار تاريخها ، بعقيدتها الحقّة ، ومنهجها النبويّ الرشيد ، محور تلك الابتلاءات والتضحيات ، وقدّمت أروع النماذج في الذود عن حياض الحقّ ، وصون الحرمات .. ولا يعني هذا الكلام أنّي أبرّئ هذه الثورة من الأخطاء، وأتجاهل السلبيّات ، ولكنّني أريد أن أقول لأولئك المتجاهلين لصورتها الوضيئة ، المتصيّدين لعثراتها ، الذين يبحثون عن الأخطاء والسلبيّات ليضخّموها ، وينشروها على الناس، وليبرّروا لأنفسهم التقاعس عنها ، والقعود عن نصرتها ، أقول لهم : رويدكم أيّها الناس! فالثوب الأبيض لا يغيّر لونه بضعة نقط سوداء، والماء العذب لا يعكّر صفوه بعض الأقذاء ، والمصلح المهديّ لا يصدّه عن الإصلاح العلل والأدواء.. أيّها الناس ! لقد هبّت ريح الإيمان على بلاد الشام ، فطوبى لمن تعرّض لنفحاتها ، وحمل لواءها ، أو كان من جندها .. فإنّ جند الله هم الغالبون ..
المصدر: رابطة العلماء السوريين
محمد لطفي الصباغ
عماد الدين خيتي
مجاهد مأمون ديرانية
عبد المنعم زين الدين
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة