..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

بعد عام من الثورة: هَنيئا لنا وبُؤساً لهُمْ

محمد أبو الهدى اليعقوبي

١٦ ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7161

بعد عام من الثورة: هَنيئا لنا وبُؤساً لهُمْ
0066045.jpeg

شـــــارك المادة

جميع الناس يقولون: قد مر عام على الثورة اليوم الخامس عشر من آذار، وأنا أقول: قد مرت سنة وأحد عشر يوماً؛ لأننا نؤرخ بالتقويم الهجري لا بالتقويم المسيحي في كل شأن عام أو خاص فكيف بالأحداث العظام!


لكنّ عاماً في حق الثوار هو أشبه بيوم، إذ ليل أهل الوصال قصير وليل أهل الهجر طويل. وهذا هو الحق في شأن المحب إذا نال المراد واجتمع بحبيب الفؤاد، ولا يزال ليل المحب طويلاً مادام مبتلى بالهجر مرمياً بالنوى، وهو ما جرى عليه الشعراء في وصف أشجان المحبين قبل الوصال، كما في قصيدة المتنبي الشهيرة:

لياليّ بعد الظاعنين شُكول *** طوال وليل العاشقين طويل

حتى إذا نال المحب الوصال قصر الليل في حقه وهرب الزمان من حوله. وكما يُطوى الزمان للمحبين فإنه يطوى للعابدين ويُطوى للمجاهدين، فالليالي عند ثوارنا في بلاد الشام ليال قصارٌ ما أسرع ما تمر إلى الصباح وكأن آخر الليل متصل بأوله. ولذلك أسباب متعددة سوى الطاعة لله وصلاة الليل والمناجاة والتفكر، هي الشوق لليوم الآتي لما يحمل من العطايا للأحرار والبلايا للفجار، كل يوم تطلع الشمس تزداد بشائر النصر فتجعل الزمان يقف للثوار أو يختصر: فالسنة في حق الثوار أيامٌ معدودات وهي عند زبانية النظام حقب طِوال.
والفرق بيّنٌ ظاهر، إذ كل ساعة تمر على الرئيس تمر كأنها سنة، تأتي عليه وهو غير مصدق ما يجري فقد كان الرئيسَ المطاع، تفتح له القصور، وتفرش له الزرابيّ، ويسعى إليه الملوك، فإذا بكل شيء قد تغير. ماذا جرى؟ يسأل نفسه طول الليل وهو يقلب النظر في السقف بدل النجوم، ثم يعزي النفس بأنه مازال رئيساً حاكماً لدولة ذات سيادة، وأنه سينجو كما نجا أبوه، ولكنه سرعان ما يكفهر إذ يتنبه إلى أن الظروف قد تغيرت وأن صوت الشعب قد علا أصوات الحكام في هذا العصر. وهكذا لا يزال يدور كل ليلة في دوامات من الأوهام وتخبط في الأفكار لا نهاية له إلا بالموت. تمر عليه كلُّ ليلة وهو يعلم حق العلم أن الليلة التي بعدها ربما لا تمر عليه إلا وهو قتيل أو طريد أو أسير. ولا يكاد الليل ينقضي إلا وهو يتوقع انقلاباً في الصباح أو انشقاقاً في المساء، وهو يحسب ألف حساب لما سيحدث له إذ ذاك، بعد أن اتسع الخرق على الراقع، وامتدت ثورة الشعب إلى كل مدينة وقرية وشارع وحي ومدرسة ومصنع.
كل يوم من أيام الثورة يمر على الثوار كأنه فَلْكَة مِغزَل ما أسرع ما يعود آخره على أوله بالسلام، وكل ليل يمر على النظام كموج بحر، وكأنه أعوام وقرون لا تنتهي، يأتي بما لم يكونوا يتوقعون أن ينزل بهم من البلايا والهموم لعل أشدها عليهم أن نعمة الأمن قد سُلبت منهم، فما ينام أي مجرم مسؤول من أركان هذا النظام إلا وهو يخاف أن ينشق عليه البواب أو الحارس فيقتلَه أو تنشق به الأرض عن قنبلة فتبلعَه.
نعم... الثوار لا ينامون، ولكن لذةً وحماساً وشوقاً، والمجرمون لا ينامون ولكن... هلعاً وقلقاً وخوفاً. أبطال الشعب في نعيم، وأذناب الحكم في جحيم، فهيهات هيهات أن يكونا سواء كما قال الله - تعالى -: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون}. فالثوار يتلذذون بانتظار الفرج، وانتظارُ الفرج عبادة، ويتنعمون بترقب النصر وهو وعد الله - تعالى - للمؤمنين والمظلومين، ولن يخلف الله وعده. إنهم يعلمون حق اليقين أن النصر غداً أو بعد غد وإن غداً لِناظره قريب، ومن نظر إلى الوراء وعد ما مضى من الأيام طالت عليه، ومن نظر إلى الأمام وعدّ ما بقي له إلى النصر قصرت عليه المسافات. فكل يوم يمتد ويطول فيه عمر الثورة يُقَرّب موعد الفرج والنصر كما قال السموأل:

يقَرّب حب الموت آجالَنا لنا *** وتكرهه آجالهم فتطول

فالثقة بالنصر تقرب المواعيد وتختصر الأزمان، وتُذهب العناء، فتحلو الأوقات وتصير أعياداً، وهذا حال الثوار إذا نظروا إلى ما تحقق فيما مضى أو تطلعوا إلى ما سيحدث فيما يُستَقبَلُ. لكن معرفة المجرم بنفسه وما تولده من ترقب القصاص والموت تجعل كل ساعة تمر عليه كأنها أعوام من العذاب والأرق والقلق. والأيامُ حُبالى وستلد نصراً مؤزراً للشعب وهزيمة نكراء للقتلة بقدرة القادر الجبار، وعزة القوي القهار. {ويُحق اللهُ الحقَّ بكلماته ولو كره المجرمون}، {ويريد اللهُ أن يُحق الحق بكلماته ويقطعَ دابرَ الكافرين * ليحقّ الحقّ ويُبطلَ الباطلَ ولو كرهَ المجرمون}.
نعم.. إنها سَنة لكن في التاريخ فحسب، بل سنة وأحد عشر يوماً، وهي عندنا كأنها يوم أو نصف يوم، وعند الرئيس ومن معه من جنده وعبدته أعوام طوال. إنهم يعذبون أشد العذاب في كل ساعة تمر أو يوم ينقضي؛ {كذلك العذابُ ولَعذابُ الآخرةِ أكبرُ لو كانوا يعلمون}. ومهما طال الزمان فإنه لن يقصر عن إفلات الطغاة.
بعض الناس ينوح بعد انقضاء عام على الثورة، وسمعت من يقول قد مضى عام ولم نحقق شيئاً، وأرى هذا خطأ، إذ الوقت لكل شيء مقدر، والنصر مؤقت لا يتقدم ولا يتأخر، وإنما يطول أو يقصر ويقرُب أو يبعد بقدر الصدق والإخلاص، والتوكل على الله - تعالى - والثقة به والالتجاء إليه. ولم ينل أهل بدر من الصحابة النصر إلا من بعد ما صاروا أذلة، ولذلك قال الله - تعالى - خطابا لهم: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}.
نحن نستقبل عاماً جديداً من عمر هذه الثورة بالتهاني والبشائر، لأن الشعب ثبت عاماً بعد الثورة ولم ينكُص على عقبيه ولم يرتد على أدباره. هذا طريق الحرية الذي اختار أن لا يرجع عنه، وقد وطّن النفس على ما يَحُفّ به من الشدائد. وإذا كانت الجنة قد حُفّتْ بالمكاره، كما روي عن النبي - عليه الصلاة والسلام -، أوَ يُستغرَب أن يُحَفّ طريق التحرر من العبودية لغير الله - تعالى - بالمهالك؟
نعم.. إن المناسبة عندنا تدعو للتهنئة لا للمَرْزِِئَة: إنه طريق النصر، ولكل طريق بداية ونهاية ووسط، وقد تجاوزت الثورة بداية الطريق ووسطه وصارت على أكناف النهايات، وهي تحقق المزيد من الإنجازات. ومن سار على الدرب وصل كما قال ابن الوردي:

لا تقل قد ذهبتْ أربابُه *** كل من سار على الدرب وصلْ

يطيب لبعض المتهورين عند النظر إلى حمص وإدلب اليوم ودرعا وبانياس واللاذقية ودير الزور ودوما وغيرها أن يتحدثوا عن إنجازات الثوار وكأن انسحاب الثوار من بقعة هزيمة للثورة، وهذا خطأ لأن الثوار ليسوا عدوا يجتاح البلاد من خارج وإنما هم الشعب، هم منا بل هم نحن. وإنما انطلقت الثورة أولاً وأخيراً لتحرير الإنسان من العبودية للطواغيت، واسترداد الكرامة التي سُلبَتْ والحقوق التي اغتصبت وهذه معان كانت قد استقرت في النفوس وأعمت بصائر الناس حتى جاءت الثورة فأطلقت القيود وحررت الفكر من العبودية للطغاة. ولو لم يكن للثورة إنجاز إلا دفع الآلاف من الشباب إلى الشوارع يتحدون جبابرة الدنيا بجرأة لم تعرف من قبل متوكلين على جبار السماوات والأرض لكفى، ولو لم يكن للثورة إنجاز إلا كشف ما يخفيه النظام من حقد على الشعب لكفى ذلك. هذا سوى ما حدث من انشقاقات، وما يُطبخ الآن من انقلابات وتحركات. ولذلك نرى أن أمور الثورة بخير ومآل الثورة إلى خير إذ هي في تنامٍ وتسارع تُسابق فيهما الزمان فيبدو لذلك قصيراً.
لقد ثبت أن النبي - عليه الصلاة والسلام - تعوّذ من الحَور بعد الكَور، أي من النقص بعد الزيادة، ومن لم يكن في ازدياد فهو في نقصان، ومن نظر إلى ثورة شعبنا بعد عام لا شك أنه سيرى الكَور لا الحَور، والزيادة لا النقص، وهي زيادة في قوة الثورة، واتساع في رقعة الثورة وازدياد في عدد الثوار، وازدياد في عدد الشهداء. وقد يُقال: أتجعل من ازدياد عدد القتلى والموتى علامة نصر وفأل خير، وفي الجواب أقول: هؤلاء ليسوا قتلى ولا موتى بل هم شهداء، ولعل خير جواب هو قول الله - تعالى -: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شَُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِيْنَ}. نعم إن الله - تعالى - أراد أن يرفع أقدار أهلنا وإخواننا في سورية باتخاذ الشهداء منا، إنه اختصاص وتشريف للفرد والأمة تصل بركتهُ إلى أهل الشهيد وجواره وأصحابه وأهل بلده، نعم هكذا يقول الحق - سبحانه -: {ويتخذ منكم شهداء}. واجبنا أن نثور على الظلم ونأبى الذل استجابة لأمر الله - تعالى -، وواجبنا أن ندافع عن الحرمات وأن نحمي الأهل والنساء والأولاد، فإذا عجزنا سلمنا أمورنا لله ورضينا بما قدره علينا وقضاه فينا، وقد رُفع الإثم عنا فيما لا نملك بعد أن بذلنا الجهد والطاقة واستفرغنا الوسع والإمكان، إنما الإثم على المثبطين والمتخاذلين.
أنا لا أحب أن أنشد هاهنا في عيد الثورة من كلام أبي الطيب المطلع الشهير:
عيد بأية حال عدت يا عيد
وإنما أحب أن أنشد المطلع الآخر من شعره:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظم في عين الصغير صغارها ***  وتصغر في عين العظيم العظائمُ

وقد رأينا عزائم الشعب كالسيوف المواضي لا تتردد في الإقدام ولا تفكر في الإحجام، وقد فتح باب الحرية والانعتاق، من ظلم هؤلاء الذين -الرفاق وهم مجرمون- تسموا بالرفاق من تسمية الشيء بالضد تفاؤلا بالنجاة كالمفازة للصحراء والسليم للّديغ.
أجل فالنفوس طاهرة، والعزائم صادقة، والجباه ساجدة، وقد صار الأمر بين حياة مع الذل أو موت بعز، ولو لم يُردِ الإنسان أن يدفع عن نفسه، فقد وجب عليه أن يدفع عن أهله وولده وجاره. فلا مناص من النفير، ولا عذر في القعود. وكما قال قَطَريّ بن الفُجاءة:

وما للمرء خير في حياة *** إذا ما عُدّ من سقَط المتاعِ

وقد قلت قديماً من قصيدة لي:

وكيف ولِمْ نعط الصغارَ وعندنا *** نفوسٌ أبيّاتٌ ترى الموتَ مولدا
إذا نطقتْ فالموتُ حرفٌ يخطه *** شبا السيف يهوي للظلام مبددا

هكذا يمضي عام ويمرّ ونحن نرى آيات النصر والغلبة، ويرى المجرمون علامات الهزيمة والخذلان، فيحزنون ونفرح ويشقَون ونسعد فالميت منا إلى الجنة، والحي إلى النصر، والميت منهم إلى النار والناجي إلى السجن.
أما ما الناس فيه من شدة وكرب وبلاء، نسأل الله العافية منه واللطف فيه، فلا شك أن أوقات الشدة هي أوقات القرب من الله - تعالى -: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء}، وفي الحديث القدسي: ((يا عبدي مرضت فلم تعدني قال: كيف أعودك يا رب وأنت رب العباد! قال: مرض عبدي فلان فلم تَعُدْهُ ولو عدتهُ لوجدتني عنده)).
فهنيئاً للشهداء تلك المراتب العالية في الجنان، وهنيئاً لأهل الشهداء ما ينالون بالصبر على البلاء والرضا بالقضاء. هنيئاً للجرحى والمرضى ما هم فيه من القرب من رب العباد، وإن كان ظاهر ذلك ألماً وسؤال العافية واجب، ولكننا يجب أن ندقق في حقائق الأشياء، فحال المؤمن دائماً خير كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)). وألم العدو الذي يقاتلك ينبغي أن يكون سبباً للتخفيف عنك الإحساس بالألم، وقد جعل الله - تعالى - ألم العدو عزاء وسلواناً للمؤمنين إذ قال: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}.
ورضي الله - تعالى - عن سيدنا عمرو بن معدي كرب فقد دفع إلي والدي - رحمه الله - بقصيدته التي مطلعها: "ليس الجمال بمئزر"، وهي من عيون الشعر دفعها إلي لأحفظها وأنا في نحو السابعة، لأحمل بعض ما فيها من معاني الشجاعة والإباء، وهذا بعض ما قصد إليه، وأختم هذه الشجون ببيت منها يناسب هذا الحال، وهو قوله:

كلّ امرئ يجري إلى *** يوم الهياج بما استعدّا

وشعبنا تهيأ لمعركة طويلة لن يؤوب منها إلا منتصراً، وقد تسلح بالإيمان، وتدرع بالصبر، وهو صاحب حق، سفكت دماؤه، وانتهكت حرماته، ونهبت أمواله، وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الله - تعالى - يستجيب دعاء المظلوم ولو كان كافرا)). فبماذا استعد النظام للمواجهة؟ أبقتل الأطفال وهتك الأعراض، وتعذيب الكبار والصغار استعد؟ أبمثلِ هذا تُحكَم الشعوب وتدار البلاد؟!!! يا لَشُؤم ما جناه على الرئيس حمقُه وعناده، ويا لَهول ما سيؤول إليه عن قريب حالُه.
أفترون لماذا نستحق التهنئة ويستحق المجرمون المَرْزِئَة بعد انصرام عام من عمر الثورة، وسواء طال الزمان أم قصر، فسيأتي يوم يختصر فيه الزمان وتطوى فيه الأيام، إنه يوم سقوط النظام، فهنيئاً لنا وبؤساً لهم، وبُشرى لنا وتعساً لهم.

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع