..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

أما آن أوان الجهاد؟

مجاهد مأمون ديرانية

٢٤ يناير ٢٠١٢ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 8352

أما آن أوان الجهاد؟
jehad.jpg

شـــــارك المادة

استأثر حديث الجهاد باهتمام جمهور الثورة على الأرض وفي الفضاء الثوري، فحمل الثوارُ لافتات تدعو إليه وهتف به المتظاهرون داعين إلى إعلانه وفتح بابه، وامتلأت به الصفحات والمواقع والمنتديات، فإنك لَتجد الجدل بشأنه حيثما ذهبت بين مؤيد ومعارض. وكتب إليّ بعض الفضلاء يسألون: ما هو موقفي من ذلك كله؟ الجواب يحتاج إلى تفصيل والتفصيل إلى تطويل، وهو أمر قد نُهيت عنه، حيث طلب مني كثيرون في مناسبات عديدة أن أختصر ولا أطوّل المقالات، فاستجبت لمطلبهم وصارت هذه عادتي الجديدة منذ حين. فاسمحوا لي أن أخرج على العادة الجديدة وأن أقول في هذه المقالة ما أريد قوله دون اختصار ودون إخلال، وسوف ألخّص محتوى المقالة في آخرها ليقفز إلى الختام على الفور من لا يحب تضييع الوقت في قراءة التفصيلات.
-1-
يتجادل الناس اليوم: هل ينبغي أن نعلن الجهاد أو لا نفعل؟ أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أتابع هذا الجدل هو: ماذا كان الثوار يصنعون في كل أنحاء سوريا في ثلاثمئة يوم خلت؟ إذا لم يكن ما يصنعونه جهاداً فماذا يكون؟ وإذا لم يكن قتلاهم شهداء فماذا يكونون؟
ألا يكون الجهاد جهاداً إلا بالسلاح؟ نعم، الأصل أنه كذلك، لكنّ قَصْره على السلاح دون غيره من “أدوات المقاومة” يضيّق واسعاً؛ ألسنا نقرأ في القرآن: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}؟ فالجهاد هنا ينصرف بوضوح إلى المال والنفس، وأيضاً: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً عند الله}،{لكنِ الرسولُ والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وأولئك لهم الخيراتُ وأولئك هم المفلحون}، {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون}، {فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة}. تلك خمسة مواضع في القرآن اقترن فيها جهاد المال بجهاد النفس، بل قُدّم عليه ذكراً لأنه لا يكون جهادٌ بلا مال.
والجهرُ بالحق والمقاومةُ السلمية بابٌ من أبواب الجهاد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبرها من أعظم الجهاد وجعل شهيدَها خيرَ الشهداء؛ في الحديث: “ألا وإن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر”، وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الجهاد أحب إلى الله؟ فقال: “كلمة حق عند إمام جائر”، وقال: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”. وحَكَم النبي عليه الصلاة والسلام بالشهادة لكل من مات في سبيل دفع الظلم عن نفسه، قال (من حديث النسائي وصحّحه الألباني): “من قُتل دون مَظلمته فهو شهيد”، ولَعمري إن كل من سقط في الثورة إلى اليوم يشملهم هذا الحديث؛ إنهم شهداء في سبيل الله، وإن جهادهم من أعلى وأعظم مراتب الجهاد إن شاء الله.
إن الجهاد أوسع بكثير من أن يُحصَر في حمل السلاح، فكما رأينا: بذل المال في سبيل الله جهاد، والجهر بالحق في وجه الحاكم الظالم جهاد، ودفع الظلم ومقاومة الظالمين جهاد، وكل دعم للجهاد جهاد. ولقد فهم السلف ذلك المعنى، فإنه لما خرج سعيد بن المسيّب إلى الجهاد وهو كبير عليل وقد ذهبت إحدى عينيه قيل له في ذلك، فقال: “استنفرَ الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنّي الحرب كثّرتُ السواد وحفظت المتاع”، فعَدّ حفظ المتاع جهاداً مع أنه لا قتال فيه، بل عدّ مجرد تكثير عدد الناس من الجهاد، وهذا ما يفعله كل متظاهر في سوريا، ينضم الواحد إلى الواحد حتى يصبح الجميع بساطاً بشرياً يغطي الأرض ويزلزلها برعود الغضب.
بهذا المعنى العام والواسع للجهاد يكون كل مشارك في الثورة مجاهداً إن شاء الله، ولو كان خروجه فقط لإسقاط النظام الظالم المجرم ودفع الظلم عن نفسه وعن الناس، فإنه عمل  يُرضي الله. إن المشاركة في المظاهرات جهاد، وتصويرها ونشرها جهاد، وحمل اللافتات والجهر بالهتافات جهاد، والكتابة على الجدران جهاد، والتخطيط للثورة وقيادتها جهاد، ودعمها بالمال جهاد، والتفرغ لنشر أخبارها في صفحات وشبكات الإنترنت جهاد… هذا ما أحسبه ولا أتألّى على الله، والله أعلم بالنوايا وهو يتولى الحساب برحمته الواسعة وكرمه العظيم.
-2-
على أن المعنى الأصلي الذي يرتبط بمصطلح الجهاد هو الجهاد بالقتال والسلاح، وهو ما يقصده الذين يدعون إليه ويحملون شعاراته، سواء من جماهير الثورة العريضة المنتشرة على أرض سوريا أو من كتّاب الثورة ومفكّريها، وهو المعنى الذي يثور الجدل بشأنه بين الناس في هذه الأيام.
لا أستطيع -ابتداءً- إلا أن أعبّر عن ابتهاجي بانتشار الروح الجهادية في أوساط الأمة؛ هذه واحدةٌ من بركات الثورة السورية، وإن بركاتها لكثيرة بفضل الله. إن من جوامع الكلم النبوي الذي رأيت ترجمته واقعاً عاشته الأمة خلال السنوات المئة الأخيرة الكئيبة من عمرها قوله صلى الله عيه وسلم: “ما ترك قومٌ الجهادَ إلا ذَلّوا”. أنا اليوم في الخامسة والخمسين من عمري، اطرحوا خمس سنين لم أعقل فيها، فالباقي نصفُ قرن عشته وشهدت فيه ذلّة الأمة وانكسارها، وأشهد بأن ترك الجهاد كان السبب الأكبر في تلك الذلة وذلك الانكسار.
الأمم كلها تدافع عن كرامتها وحريتها وتحارب إذا احتُلّت أرضها، لولا ذلك لكانت ألمانيا تحكم اليوم فرنسا وبلجيكا مثلاً واليابان تحكم كوريا والصين، فهل يصبح هذا القتال محرّماً إذا كان الطرف الذي احتُلّت أرضه مسلماً وكان للقتال اسم محدد هو “الجهاد”؟ لماذا سكتت الأمة يوم احتلت أميركا العراق ولم يتحرك إلا النفر القليل من المخلصين الصادقين الذين حاربتهم حكوماتهم وسماهم العالم إرهابيين؟ إنكم تدركون اليوم -متأخرين- أن احتلال العراق وفتح الباب للتمكين والعلوّ الإيراني جعل صعوبة إسقاط النظام الأسدي المحتل في سوريا صعوبتين، وكذلك الأمر في كل احتلال أجنبي لقطعة من أرض المسلمين، فإن الكوارث يجر بعضُها بعضاً، ومنذ سكتت الأمة عن احتلال فلسطين ورضيت به أمراً واقعاً صارت المنطقة كلها رهينة للغرب وصارت جزءاً من مشروع حماية دولة إسرائيل. هذه الحلقة الشريرة لن تنكسر إلا بالجهاد، ولن تعود للأمة كرامتها إلا بالجهاد، وصدق رسول الله عليه من الله الصلاة والسلام.
-3-
إذن فإن الذين يحملون اليوم شعار الدعوة إلى الجهاد إنما يقصدون هذا النوع من أنواعه تحديداً، الجهاد بمعناه الأصلي الذي هو القتال بالسلاح، وبشأنه يتناقشون ويختلفون. ولكن إلامَ يدعون وفي أيّ شيء يتناقشون؟ أليس الجهاد قائماً في سوريا منذ شهور، منذ أول طلقة أطلقها مقاتلون أحرار شرفاء على العصابات الأسدية المحتلة؟ بلى، لقد صار الجهاد بالسلاح أمراً واقعاً منذ تشكلت كتيبة الضباط الأحرار، ثم صار أكثرَ واقعية مع ولادة الجيش الحر واتساعه وانتشار عملياته على كامل الأرض السورية.
إنه جهاد مسلح تقوم به جماعة عسكرية محترفة لها صفة رسمية، فهي جيش نشأ من جسم جيش، وبما أن الجيش الأصلي سقط تحت الاحتلال منذ أن سطا عليه حزب البعث ثم ورثه حافظ الأسد فقد صار جيشاً غير شرعي ولا يمثل الشعب السوري، ومن ثم فإن الجيش الوليد الجديد هو الجيش الشرعي الوحيد، هو جيش سوريا الوطني الذي ينبغي أن يحمل السلاح وأن يدافع عن الشعب والوطن.
-4-
إذن فإن الجهاد أمر واقع وحالة قائمة، ومن ثم فإن الدعوة إلى إعلانه لا تُحمَل على البدء فيه وإنما تُفسَّر على أنها دعوة إلى توسيعه وإطلاق النفير العام ليشمل كل قادر، أو على الأقل كل راغب في حمل السلاح. إنهم يسألون: أما حان الوقت لإطلاق النفير العام وإعلان الجهاد؟
الجواب: بلى، لقد حان. في الحقيقة إن الجهاد ضد النظام البعثي الأسدي المجرم واجبٌ منذ الأزل، منذ اليوم الأول الذي سطا فيه حزب البعث على البلاد وسام أهلَها الذل والهوان وحارب الدين والأخلاق وحاصر الحريات وداس كرامة الخلق ببساطير العسكر وجنازير الدبابات. منذ ذلك اليوم وجب الجهاد لتحرير البلاد من الاحتلال والاستبداد، ولكن الشعب لم يملك القوة اللازمة، وهو لم يكن قد اهتدى بعدُ إلى سلاح المقاومة السلمية الذي يستعمله اليوم. وحينما قامت فئة من السوريين لإسقاط النظام قَصَمها النظام، فهي كانت فئة قليلة ضعيفة ولم تساندها قوةُ الشعب الهائلة التي تساند الثورةَ اليوم، ولو أنها فعلت لتغير تاريخ سوريا ولوفّر الناس على أنفسهم ثلاثين سنة من القهر والعذاب.
ولم يسحق النظامُ تلك الفئةَ المؤمنة فقط، بل لوّث تاريخها وسوّد سمعتها وسخّر لحربها آلتَه الإعلامية الحقيرة ذاتها التي يواجه بها الثورة الشعبية اليوم، ولأن تلك الآلة الجبارة لم يكن لها منافس في زمن لم تكن قد وُلدت فيه بعدُ وسائل الاتصال والتوثيق التي يملكها كل واحد من عامة الناس في هذه الأيام، لأنها كذلك فقد نجحت -للأسف- في غسل عقول ملايين السوريين الذين تربوا في مدارس النظام على مناهج النظام وأكلوا وشربوا وتنفسوا إعلامَ النظام خلال ثلث قرن، وما يزال هؤلاء الملايين إلى اليوم (أو جلّهم) مقتنعين بأن الثورة المسلحة التي قامت ضد نظام حافظ الأسد كانت عملاً تخريبياً مفسداً وأن ثوارها -من الإخوان ومن الطليعة المقاتلة- كانوا مفسدين ومخرّبين، مع أنهم لو نجحوا في ثورتهم لمنحهم الشعب السوري أرفع الأوسمة ولصار شهداؤهم -كالشيخ مروان حديد رحمه الله- من أعظم الأبطال.
وها قد دار الزمان دورته ورأينا كيف يزوّر هذا النظام الأثيم الحقائقَ وكيف يجعل الضحايا مجرمين. إن ثوّار اليوم سعداء الحظ لأنهم عاشوا في زمن الإعلام المفتوح والاتصالات المتاحة، فاستطاعوا توثيق جرائم النظام ونقلها إلى العالم، وهزموا خطة النظام الشريرة فلم يصدق روايتَه عن العصابات المسلحة إلا السذّجُ من الناس، وهم قليل، أما ثوار الزمن الأول فقد دفعوا الثمن مرتين: آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من المعتقلين الذين غابوا وراء الشمس عشرين سنة يعانون في كل يوم من أيامها العذاب الأليم، وعشرات الآلاف من المهجّرين الذي غادروا الوطن وحُرموه إلى هذا اليوم، حتى إن عامّتهم فقدوا العدد العديد من الأحباب ولم يستطيعوا أن ينظروا إليهم نظرة وداع… عشرات الآلاف دفعوا الثمن الغالي ثم حملوا الملامة من الطرفين، من الشعب ومن النظام، هل تجدون هذا من الإنصاف؟
-5-
حسناً، لقد وجب الجهاد في ذلك الوقت المبكر وبقي واجباً طالما استمر الاحتلال البعثي الأسدي للشام، ولكن الجهاد ليس رحلة كشفية ولا نزهة خلوية؛ إنه مشروع كبير له شروطه الموضوعية التي لا يصحّ إعلانُه إلا بتوفّرها، وهي لم تتوفر طوال السنين العجاف من يوم انقلاب البعث إلى اليوم الذي بدأت فيه الثورة الشعبية العظيمة قبل عشرة أشهر، لذلك لم تنجح الثورة المسلحة التي استمرت عدة سنوات من أواسط السبيعنيات انتهاء بمجزرة حماة الكبرى، ولذلك يستطيع المؤرخون الذين يؤرخون لأحداث سوريا أن يحكموا على تلك الثورة بأنها كانت قراراً خاطئاً اتُّخِذ في الوقت الخطأ ونُفّذ بالطريقة الخطأ. نقول ذلك بلا مواربة ولا مجاملة لأحد، مع إصرارنا على عدم تغيير المسمّيات، فنصرّ على القول بأن الذين قاموا بالثورة مجاهدون صادقون يستحقون أفضل الذكر من أهل الأرض وأعظم الأجر من رب السماء، ونصرّ على القول بأن تلك الثورة المسلحة من الجهاد المشروع، وأن النظام الأسدي البعثي نظام محتل، وأن حافظ الأسد مجرم كبير، ومثله أخوه رفعت وسائر قادة الأجهزة الأمنية الذين مارسوا في تلك الحقبة كل الرذائل والبشاعات التي يمارسها تلاميذهم في الثورة الحالية هذه الأيام.
إن من أعجب ما قرأت مقالة لكاتب لا أسمّيه، يطلب فيها من الإخوان تقديم اعتذار لشعب سوريا ولأهل حماة تحديداً لأنهم هم السبب في محنة الثمانينيات برأيه. يا للعجب! أيُلام المخذول ولا يُلام الخاذل؟ ذلك المقال ذكّرني بما لا أزال أسمعه عن قوم فقدوا المروءة والحياء من أهل سوريا في هذه الأيام، يلومون الثورة لأنها حَرَمتهم ما كانوا فيه من مراءة وهناءة العيش، فهم يتحسرون على النزهات الضائعة والرخاء المفقود ولا يبالون بالضحايا والمعذبين… ويلٌ لهم من حساب الله ومن حساب الشعب ومن حساب الضمير! أليس منطق أولئك القوم مماثلاً لمنطق كاتب تلك المقالة الحمقاء؟
هل تقبلون بي حَكَماً محايداً؟ لقد أخطأت الجماعة الصغيرة لأنها استأثرت بقرار الجهاد ولم تستشر عامة الشعب ولا هيّأته للمعركة، وأخطأت الجماعة الكبيرة لأنها تخلّت عن المجاهدين وأدانتهم اعتماداً على رواية الطرف القوي المجرم. وهكذا ينتهي الجدل بشأن تلك المحنة بتعادل الطرفين بنقطة لكل منهما ويُطوى الملف إلى الأبد، يطوى فيه الفصل الخاص بالتلاوم ، أما الفصل الخاص بالعِبَر والفوائد فيُنشَر حتى يقرأه كل واحد من الناس، من أهل سوريا ومن غيرها، لكيلا يتكرر الخطأ مرتين، وما سقت الكلام الطويل كله وأتعبتكم بقراءته إلا من أجل هذه الغاية.
-6-
لماذا فشلت الثورة المسلحة الأولى ضد النظام؟ يجب أن نعرف الأسباب لكي نتجنب تكرار المأساة، وربما كانت الأسباب كثيرة ومتداخلة بحيث يُعجزنا حصرها، ولكنّا لن نعجز عن الاهتداء إلى أهمها وأعظمها أثراً.
المشكلة الكبرى في تلك الثورة، ثورة السبيعنيات، أن الذين قاموا بها لم ينجحوا في تحويلها إلى مشروع شعبي، فاقتصرت على فئة قليلة محدودة العدد، وبذلك صارت صيداً قريباً وفريسة سهلة نجح النظام في افتراسها. هذه المشكلة ليست موجودة حالياً لأن الجيش الحر ولد ولادة طبيعية من رحم الثورة الشعبية، ولأنه يحمي الثورة ويساعدها على تحقيق هدفها، فهي التي تقود المرحلة وهي التي تصنع الحدث وهو تابعٌ لها وجندي من جنودها. هذا الفرق العظيم يمنح التجربةَ الجهادية في الوقت الحاضر ميزةً حُرمت منها التجربة الأولى، وهي ميزة فاصلة تفصل ما بين النجاح والإخفاق لأن من بديهيات حرب العصابات أنها لا تعيش بلا حاضنة سكانية ذات كتلة كافية وتعاطف كبير.
هذه الحاضنة السكانية تُدعى “العمق الداخلي” للثورة المسلحة، ويوازيها في الأهمية “العمق الخارجي”، حيث تحتاج حرب العصابات إلى امتداد وراء الحدود، ولا يكاد التاريخ يذكر لنا حرباً واحدة من حروب العصابات نجحت في البقاء بلا عمق من ذلك النوع. العمق الخارجي يحتاج إلى تعاطف دولة مجاورة وتعاونها، وهي تقدم الأرض الآمنة اللازمة لإيواء ضحايا الثورة من المدنيين أو قياداتها وعناصرها من المسلحين، وهذا العمق موجود حالياً في تركيا بصورة شبه نموذجية.
ثورة السبعينيات فقدت العمق الخارجي كما فقدت العمق الداخلي، بعكس الثورة الحالية التي كسبت الاثنين، وهما -أقولها بكل وضوح وتأكيد- من ثمرات الثورة السلمية التي صبر عليها جمهورها الأعزل وثابر حتى حصد تلك المكاسب العظيمة. إذن فإن العائق الأكبر لم يعد موجوداً، ومن ثم فإن بوسعنا أن ننادي: حي على الجهاد. أليس كذلك؟
-7-
ليس بعد، فما زالت تنقصنا بعض الشروط التي ينبغي ضمانها قبل الاندفاع في ذلك الطريق ذي الاتجاه الواحد، وأهم تلك الشروط هو تأمين موارد الحرب، وهو الأمر الذي غفلت عنه الثورة الأولى ففقدت زخمها وتلاشت قوتها، واستطاع النظام محاصرتها وخنقها واستئصالها من الوجود. لقد كان الرجال فيها قلة، عدة مئات من الثوار كُتب عليهم أن يواجهوا قوة أمنية تزيد على نصف المليون عدداً، وها قد صرتم تعرفون اليوم ما معنى تلك القوة وما مقدار همجيتها وشراستها وإجرامها. وكان السلاح عزيزاً، فربما تناوب على البندقية الواحدة العددُ من الرجال، ولم يكن للثوار ملاذ ومأوى ولا مال ولا أي من الموارد اللوجستية اللازمة للحرب (التموين والعلاج والإعلام والاستخبارات والاتصالات).
لنقارن ظروف الثورة القديمة بظروف ثورتنا الحاضرة: بعكس الماضي، الرجال الآن موجودون؛ إن نفيراً عاماً واحداً يمكن أن يجمع مئة ألف متطوع للقتال، لكن أين يقيمون؟ أين يتدربون؟ من أين يأكلون؟ ماذا يلبسون؟ إن مئة ألف مقاتل يحتاجون إلى مئة ألف بسطار قيمتها أربعة ملايين دولار، هل جمعتم هذا المبلغ أولاً؟ والسلاح؟ أقل السلاح بندقية رشاشة، لو اشتريناها من أسواق السلاح البيضاء لا من الأسواق السوداء التي تستغل حاجتنا وصعوبة حصولنا على السلاح، لو اشتريناها بلا استغلال ولا مغالاة في الأسعار لاحتجنا إلى مئة مليون دولار. وماذا عن الذخائر؟ وأين القذائف المضادة للدروع؟ لا نكاد نملك أي فرصة لكسب الحرب لو لم نحصل على الآلاف أو عشرات الآلاف من تلك القذائف التي تتكلف كل اثنتين منها أو ثلاثٌ ألفاً من الدولارات.
قرأت ذات يوم كتاباً عن معركة العلمين، وهي واحدة من المعارك الفاصلة في تاريخ الحروب وقد كان لها أثر كبير في تغيير موازين القوى في الحرب العالمية الثانية، قاد جيشَ الحلفاء فيها الجنرال البريطاني مونتغمري وهزم القائدَ الألماني الأسطورة، رومل، هزيمة منكرة. الأمر المهم في تلك المعركة هو أن مونتغمري لم يبدأ بها إلا بعد الإعداد الكامل، فقد كان من القادة الذين يؤمنون بأهمية التفاصيل الصغيرة وليس الخطط العامة الكبيرة فقط، فحسَبَ موارده الحربية حساباً دقيقاً حتى آخر رصاصة، ويقول المؤرخون إن هجومه على رومل كان محسوباً إلى آخر علبة من اللحم المحفوظ!
-8-
نعم، لقد وجب الجهاد، لكن الحالة الموجِبة للجهاد لا تعالَج بأن يحمل أفرادٌ السلاحَ ويخرجوا من فورهم إلى ميدان الحرب، بل لا بد لهم من جامعة تجمعهم وقيادة موحدة تقودهم، وإلا صار أمرهم شتاتاً ضائعاً ولم يصلوا إلى شيء، وهذه الجامعة هي الجيش الحر الذي ينبغي أن نقدم له مقداراً كافياً من الدعم بحيث يستطيع استيعاب المتطوعين وتوفير ما يلزم للحرب من سلاح وعتاد. عندما ذُكر الخروج إلى الجهاد في القرآن سبقه ذكر الإعداد، فقال تبارك وتعالى: {ولو أرادوا الخروجَ لأعدّوا له عُدّة} وقال {وأعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة}. الإعداد للجهاد يسبق إعلان الجهاد، لكيلا يبدأ بإعداد ناقص فتنقطع بالمجاهدين السبلُ وتفشل حملتهم وتذهب ريحهم ويظهر عليهم عدوهم لا قدّر الله.
إننا لا نحتاج الآن إلى الجدل بشأن الدعوة إلى الجهاد بقدر ما نحتاج إلى الإعداد والاستعداد، على أن يكون هذا الإعداد سريعاً وجاداً لأن كل تأخير ومماطلة يزيد الضغط على المدنيين الثائرين ويزيد الكرب والمعاناة. أمامنا مهمة عاجلة، هي دعم الجيش الحر ومدّه بالمال والسلاح ليصبح مهيئاً جاهزاً لاستقبال الرجال. هذه المهمة هي الواجب الذي يطالَب به كل سوري في كل مكان، ويطالَب به المسلمون على العموم. وهي مهمة ينبغي أن تبدأ الآن، في اللحظة الحاضرة، بل ينبغي أن تكون قد بدأت منذ شهور، لأن الثورة الشعبية وحدها لن تستطيع إسقاط النظام؛ إنها تُضعفه وتنهكه باستمرارها وقوتها وانتشارها، ولكن الضربة القاضية ستأتي من جهة تملك القوة، وهي الجيش الحر. لذلك قلت في المقالة الماضية (ثلاثيّة النصر) إن أطراف الثورة الثلاثة يحتاج بعضُها إلى بعض ويكمل بعضها بعضاً، وإنها سوف تُسقط النظام باجتماعها وتوحيد جهودها إن شاء الله.
ويبقى بعد ذلك كله شرطٌ من أعظم الشروط وأهمها، وهو وَحدة العمل العسكري جسماً وقيادة، والحديث عن هذا الأمر الخطير يأتي في المقالة الآتية إن شاء الله.
-الخلاصة-
(1) الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، كان كذلك وسيبقى إلى قيام الساعة، وما ذلّت الأمة إلا حينما تخلت عنه ورضيت باحتلال قطع غالية من أرضها، فبدأ في تاريخها عهدٌ غير مسبوق من الذلة والهوان.
(2) الجهاد كان واجباً ضد نظام الأسد من يوم سطا البعث والأسد على سوريا، وما يزال واجباً إلى اليوم وحتى تحرير سوريا الكامل من هذا النظام.
(3) ليس الجهاد فقط جهادَ القتال والسلاح، هذا هو معناه الخاص، أما معناه العام فيشمل الجهادَ بالمال والجهرَ بالحق ودفعَ الظلم ومقاومة الظالمين، وبهذا المعنى الواسع نرى أن الجهاد بدأ من يوم خرجت أول مظاهرة في سوريا، وكل من شارك في الثورة بأي عمل فقد شارك في الجهاد بمعناه الواسع، وكل من سقط فيها فهو شهيد إن شاء الله.
(4) أما الجهاد المسلح فقد بدأ منذ شهور طويلة مع أول طلقة رصاص أطلقها جنودٌ أحرار من الجيش الحر، وما يزال قائماً ويتوسع باطراد.
(5) النفير لدعوة القادرين إلى الجهاد مطلوبٌ بشرط أن ينضمّوا إلى الجيش الثوري النظامي (الجيش الحر) حتى لا يتحركوا فُرادى ويتسببوا في فوضى السلاح التي تشتت المعركة وتضرّ بالثورة حاضراً ومستقبلاً.
(6) الدعوة إلى الجهاد ينبغي أن يسبقها إعدادٌ كاف واستعدادٌ لاستيعاب المتطوعين في الجيش الحر، ويشمل ذلك توفيرَ مرافق التدريب وما يلزم للقتال من أسلحة وذخائر، ولا يكون شيء من ذلك كله إلا بالمال، وهو بابُ الجهاد المفتوح على مصراعيه للسوريين خاصة ولعامة المسلمين.

المصدر : مدونة الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع