عماد الدين خيتي
تصدير المادة
المشاهدات : 4900
شـــــارك المادة
صحراء سيناء ومدرسة التَّيه: أرسل الله نبيه موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل في مصر لينقذهم من تسلُّط الفراعنة وظلمهم، فأقام فيهم مدة من الزمن، ثم هاجر بهم إلى فلسطين مرورًا بسيناء، وأثناء ذلك المرور كتب الله عليهم التيه والضياع في صحرائها أربعين سنة، فما السبب؟
ذكر أهل العلم أنَّ من أهم أسباب ذلك:
أنَّ حياة الشعب اليهودي في مصر تحت نَير الظلم والاضطهاد، ومصادرة الحرية، والقتل والتنكيل، واسترقاق النساء والأطفال، والعيش في ظل الخوف والرهبة والقمع لعقودٍ طويلة؛ أدى إلى تكوُّن نفسيةٍ امتازت بالانهزامية والجبن والخضوع، وذهاب الشعور بالعزة والكرامة، وعدم القدرة على التفكير في المطالبة بالحرية أو المقاومة، والاستسلام للظلم والبطش.
وقد ظهر ذلك جليًا في أول احتكاك ثقافي بعد نجاتهم من النهر، قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف: 138]، وعند أول احتكاك عسكري، قال تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 22_ 24].
ومن الطبيعي أن يترافق ذلك مع حب الدنيا، والتمسك بها، والخوف من ذهاب متعها وملذاتها، مهما كانت مغموسةً بالذل والصَّغار. مع ما رافق ذلك من رفضٍ لطاعة الأوامر الربانية، والتَّكبُّر على الأنبياء عليهم السلام، والعديد من الأمراض الاجتماعية من: تحاسدٍ وتباغضٍ وتفرق وغيرها. فأراد الله تعالى أن يصطنع شعبًا يكون فتح فلسطين _الوثنية آنذاك_ على يديه، فكان أن كتبَ عليهم التَّيه في صحراء قاحلة، ليس فيها من متع الحياة الدنيا ولا الرفاهية إلا الضروري، مع ما في حياة الصحراءِ من فروسيةٍ وتحمُّلٍ للمشاق والمصاعب، ومواجهة الأخطار، والأَنَفةِ والعزة والكرامة.
فما إن انقضت مدة التيه حتى كان جيلٌ جديدٌ قد نشأ في تلك الصحراء: قوي الإيمان، عزيز النفس، يأبى الظلم والخضوع للباطل، يهدف إلى إقامة العدل والأخذ على يد الظالم، لا يهتم بمتاع الدنيا وزخرفها، فكان أهلاً لحمل الرسالة السماوية، والجهاد في سبيلها لإقامة دولة الحق والإيمان.
ولعلَّ هذا ما يحدث في العالم العربي! الثورات العربية، وإعادة التاريخ: ففي العصر الحالي: شهدت دول العالم الإسلامي والعربية منها على وجه الخصوص تسلَّط حفنة من الطغاة الظلمة على مقدرات الأمة وشعوبها، فساموها سوء العذاب: فأضاعوا هويتها، وحاربوها في دينها، وداسوا على كرامتها، وقعدوا بالمرصاد للمخلصين من أبنائها، باذلين في سبيل ذلك أشد أنواع الظلم والتسلط، ومصادرة الحريات، وإهانة النفوس والكرامات، وفتح البلادِ لكل عدو داخليًا كان أو خارجيًا، حتى غدت البلدان العربية مضربًا للتخلف في العالم في جميع المجالات، مع ما تحويه من ثروات وإمكانيات بشرية وطبيعية هائلة، وأصبح المفكرون في حيرةٍ من أمرهم في كيفية استنهاض الهمم والعودة بالأمة إلى سابق مجدها، فضلاً عن العودةِ للريادةِ على المستوى العالمي.
ثم وبشكلٍ مفاجئ دون تخطيطٍ من البشر: اندلعت الثورات في أجزاء عديدة من الوطن العربي، رافضةً لهذا الظلم والتسلط، مطالبة بالعزة والكرامة والحرية، وإنهاء الظلم والاستبداد.
وعلى الرغم من اختلاف ظروف كل ثورة ونهايتها: إلا أنَّ أطول الثورات الحالية وأكثرها تضحية: الثورة السورية، التي لاقى الشعب السوري خلال أشهرها المنصرمة الكثير من الظلم والتعسف في القتل والاعتقال والتهجير، ومحاولة إذلال النفوس وكسر إرادتها بالتعذيب والتنكيل، ومحاولة الإخضاع بتدنيس المقدسات والأعراض.
إلى متى الثورة؟ وعلى هامش الثورات العربية المباركة: يطرح سؤال: إلى متى ستستمر الثورة؟ ومتى نجني ثمارها؟ ألم يتأخر النصر؟ إنَّ كل من يعرف الظروف التي عاشت فيها مختلف الشعوب العربية، والشعب السوري على وجه الخصوص، من الظلم والبطش، والقتل والتشريد، ومحاولة تشويه ثقافة الأجيال وتدميرها بثقافة حزب البعث، وقطع الأمة عن ماضيها: دينيًا وثقافيًا، وما أشاعته هذه السياسة على مدى عقودٍ من الزمن من خوفٍ ورعبٍ شديدين رافق الناس حتى في بلدان مهجرهم، بل في دواخل نفوسهم، وتفككٍ في النسيج الاجتماعي، وضعفٍ عامٍ في الروح الدينية، يدرك أنَّ ما قدمته الثورة لهذا الشعب أمرٌ في غاية الأهمية، لم تكن لتنجزه سنوات طويلةٌ من الإصلاح الاجتماعي والسياسي.
ولعل من أهم تلك المنجزات: 1_ سقوط جدار الخوف والخشية من النفوس والقلوب، وهو الخوف الذي طارد السوريين في شتى بقاع العالم؛ بحيث لم يتمكنوا من تجميع أنفسهم وتنظيم صفوفهم على الرغم من البعد عن البلد؛ لما للأجهزة الأمنية والاستخبارية من سطوة وجبروت. وسقوط النظرة التقديسية للحاكم ومؤسسته، تلك النظرة التي عمل النظام جاهدًا طول عهودٍ من الزمن زرعها في النفوس وإكراه الناس عليها، والذي تمثل في تكسير أصنام الرئيسين الحالي والسابق، وتمزيق صورهما، والشعارات والهتافات المطالبة بتنحي الرئيس ومحاكمته. 2_ عودة التلاحم بين أفراد الشعب، واختفاء مظاهر الجفاء الاجتماعي سواء بين أبناء المنطقة الواحدة، أو بين أبناء المدن والمناطق المختلفة على امتداد الوطن. ومن صور هذا التلاحم: عودة دفء مشاعر العلاقات الاجتماعية بين الناس، والإسهام في تخفيف آثار الحرب الظالمة التي يشنها النظام، بالمال، والنفس، والمشاركة في تشييع الجنائز ومناسبات العزاء، والوقوف إلى جانب الأسر المصابة بما هو متوافر وموجود. كما ظهر ذلك في شعارات وهتافات مناصرة مختلف المناطق لبعضها الآخر، وتفديتها بالنفس والدم وخاصة أوقات اشتداد الحصار. 3_ ظهور ثقافة المقاومة بشتى صورها، والتنافس بين الأفراد والمجموعات والمدن في كافة الجوانب: إعلاميًا، واجتماعيًا، وصحيًا، واقتصادياً، إلى درجة التفنن في اختراع الشعارات، والعبارات الإنشادية الطيارة، والطرائف، حول الأحداث الجارية، ومختلف شخصيات النظام وتصريحاته، بل وغزو العديد من المؤسسات الحكومية في عقر دارها بأنواعٍ شتى من المقاومة وإظهار كراهية الحاكم وأنصاره، حتى أصبحت الثورة السورية مدرسةً مستقلةً للمقاومة الاجتماعية السلمية بحدِّ ذاتها. وجميع هذه الصور هي من المقاومة تنكأ في النظام وتوهنه، وتسبب له الأذى الشديد، وكل من اشترك فيها بأي مشاركة هو على ثغرٍ جهادي ينبغي أن يحرص عليه ويعمل على تطويره، قال صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) رواه مسلم. 4_ إسقاط ثقافة حزب البعث التي عمل النظام على زرعها في نفوس الأمة بالقهر وقوة السلطة وجبروتها، وقناعة الناس باستحالة التعايش معها، والمطالبة بإلغائها من الدستور، والمجتمع، والتعليم، وغيرها. 5_ عودة الأمة إلى دينها وأخلاقها، وهو ما ظهر جليًا في ارتباطِ الكثيرِ من المظاهرات بالخروج من المساجد، والهتافات والشعارات التي تنفي الحول والقوة عن الشعب إلا بالله، وتعلن الولاء له والبراءة من كل من يعاديه. وظهر كذلك في رفض عبادة الطاغوت أو السجود لصورته أو المناداة بألوهيته رغم التعذيب أو القتل الذي ينتظر من لا يستجيب لذلك. مما اضطر النظام إلى المزايدة على الثوار في ذلك الجانب الديني أو تهدئته ببعض القرارات: كإعادة المعلمات المتنقبات إلى التعليم، وإطلاق قنوات دينية، وإفساح المجال أمام مشايخ النظام في التحدث باسم الإسلام ...إلخ . 6_ ظهور عظمة هذا الشعب في استعداده لبذل التضحية بالمال والنفس في مقابل إسقاط النظام الفاجر الكافر، وعادت صورٌ من البطولات كنا نقرؤها في الكتب ونظن أن زمنها قد ولى إلى غير رجعة، فمن كان يصدق أنَّ أمهات يرفضن تلقي العزاء في أبنائهن الشهداء بل يتقبَّلن التهاني بهذه المناسبة؟ وأخريات يدفعن بفلذات أكبادهنَّ إلى ساحات العزة والكرامة بدلاً من العيش في عار الجبن والذل؟ إنَّ نموذج الخنساء الصابرة المؤمنة قد تجلَّى في عددٍ من بلدان الربيع العربي _ليبيا على سبيل المثال_ وظهر في أجمل صوره وأبهاها في عدة مناطق من سورية الحبيبة. 7_ إسقاط محاولات النظام لاختلاق الفتنة بين الغالبية المسلمة، والأقليات التي تعيش بينها، وما ينبني عليه ذلك من أثرٍ عظيم في نفوس تلك الأقليات في الحاضر والمستقبل، وفي بناء سورية الحديثة. 8_ امتداد آثار تلك الثورة المباركة إلى فئة المثقفين أنفسهم بالتقارب فيما بينهم، وجلوسهم للحوار المباشر، والاعتراف بالطرف الآخر وحقه في المشاركة في القرار، بعد أن قطَّعت سياسات النظام الأواصر بين مختلف طبقاتهم وفئاتهم. 9_ لم تقتصر تلك الآثار المباركة على الشعب السوري: بل امتدت خارج الحدود للتلاحم مع بقية الثورات العربية في ليبيا واليمن، والتي بادلتها الشعور نفسه، مما يبشِّر بعودة روح الأمة الواحدة إلى مختلف الشعوب العربية.
إنَّ هذه المرحلة التاريخية المهمة التي يمر بها المجتمع السوري _وبقية الشعوب العربية الثائرة_ بكل آلامها ومآسيها: بمثابة مدرسةٍ تربويةٍ للمجتمع في صحراء تيه النظام وزبانيته، وتهيئة الأسباب لإعادة بنائه وبعث الروح فيه من جديد في شتى المجالات، وكل ذلك بتقدير من الله ولطفه، كما فعل مع بني إسرائيل في تيه صحراء سيناء، فالحمد لله من قبل ومن بعد: (حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62_ 63].
إنَّ إعادة إحياء المجتمع بحدِّ ذاته إنجازٌ عظيم بكل أبعاده ومدلولاته، وهو مرحلةٌ مهمةٌ لما بعدها من بناء الدولة بعد سقوط النظام بمشيئة الله، وبقدر ما تكون الاستفادة من هذه المرحلة أكبر وأكثر تنظيمًا، وتسليط الضوء على إيجابياتها وتعزيزها، ونقد السلبيات ومحاولة التقليل منها: ستكون المرحلة التي تليها أكثر سلامةً وتحقيقًا لمطالب الشعب وأهدافه.
لماذا الاهتمام بالمنجزات السابقة والتأكيد عليها؟في خضم الصراع مع السلطة، والمطالبة بإسقاط النظام، والرغبة بالإسراع في تخليص الشعب من آلام هذا الصراع: ينبغي الاهتمام بهذه المنجزات، وتوضيح أثرها على المجتمع، وكيفية الاستفادة منها للأسباب التالية: 1_ التأكيد على أهمية ما تحقق على أيدي الثورة إلى الآن، فمع أنَّ النظام لم يسقط، إلا أنَّ جملة المكتسبات التي استفادها المجتمع في الداخل والخارج لا تُقدَّر بثمن، ولم يكن يخطر في ذهن أفضل المتفائلين تحقيقها والوصول إليها، وبالتالي فهي مكتسباتٌ وأهدافٌ بحدِّ ذاتها بغض النظر عن سقوط النظام وعدمه. 2_ حماية الثوار من حصول اليأس أو القنوط بسبب طول الثورة؛ فقد يتسرب إلى نفوس بعض المشاركين أو المراقبين شي من اليأس أو القنوط بسبب عدم تحقق هدف إسقاط النظام سريعًا، والغفلة عن المكاسب المحقَّقة على أرض الواقع. 3_ إعداد النفوس لمعركة قد يطول أمدها، فالنظام متمرِّسٌ في القمع والظلم والتحايل، وانتهاك جميع الأديان والأعراف، والكذب والخيانة والغدر، وليس من السهولة الظن بأنَّه سوف ينهار أو يتخلى عن بطشه وجبروته بهذه السهولة، فلا بد من إعداد النفوس لحقبةٍ من المقاومة بشتى أشكالها، والبناء على الإنجازات السابق ذكرها. 4_ تشجيع الثوار على الاعتماد على أنفسهم، وإدارة معركتهم بأيديهم، وعدم انتظار يدٍ خارجية قد يكون لها حساباتها الخاصة، أو أثمانها الباهظة التي تطالب بها. إنَّ ما أنجزه الشعب على مدى الشهور السابقةِ بسواعد أبنائه الطاهرة، وصدورهم العارية، وإمكاناتهم اليسيرة، معتمدين في ذلك على الله تعالى، مخلصين له نيتهم وعملهم، ومفوضين أمورهم له: لهو أعظم الدلالةِ على أنَّ سورية على موعدٍ مع العزة والنصر والتمكين بعد تربيها في مدرسة الثورة بإذن الله. وإن غدًا لناظره قريب.
مجاهد مأمون ديرانية
أبو طلحة الحولي
محمد بسام يوسف
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة