..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

احتضار اﻷسد الطويل

أحمد الشامي

١٠ ديسمبر ٢٠١١ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3753

احتضار اﻷسد الطويل
222342.jpg

شـــــارك المادة

يبدو النظام الذي خلّفه الرئيس "حافظ اﻷسد" كالسائر إلى حتفه بظلفه، فحاكم دمشق الوريث يسير بخطى وئيدة، لكنها ثابتة، على طريق استنّه من قبله النظام الصدامي الشقيق. نقاط الشبه بين النظامين أكثر من أن تُعَد.

 

فالنظامان البعثيان الشقيقان ولدا من رحم واحد ديدنه الاستبداد والقمع. هذان نظامان رفعا لواء الوحدة والقومية لتغطية تسلط أقليّة طائفية على أكثرية مسحوقة، ومارسا الحكم المطلق دون شريك. كلا النظامين ارتهن البلاد للخارج، وبدد مواردها لمصالح ضيقة وفي خزعبلات قومجية لا تسمن ولا تغني من جوع.
مع ذلك، هناك فوارق بين النظامين نابعة أساساً من شخصيتي مؤسسيهما، ففي حين تورط صدام في حروب عبثية وبدا وكأنه يصدق أنه فعلاً خليفة صلاح الدين اﻷيوبي، مارس اﻷسد سياسة قائمة على المراوغة و"التقية". اﻷسد ألقى الخطابات الملتهبة في قوميتها دون أن ينفذ حرفاً واحداً مما قاله في صالح الموضوع القومي العربي، بعكس صدام الذي مارس سياسة مغرقة في التطرف القومي إلى حد الجنون، حين قام بغزو إيران "لحماية البوابة الشرقية" للعالم العربي من "الخطر المجوسي".
قبل الغزو الأمريكي، كان العراق قد تعرض لضربات عسكرية قاتلة منذ حرب تحرير الكويت: بعد تدمير القوات العراقية المنسحبة تحت النار بفضل "حنكة " سيد البلاد في "أم المعارك " تعرض العراق لانتفاضة شيعية في الجنوب تم قمعها بدموية وبتواطؤ قوات التحالف التي سمحت للطيران العراقي بقصف المتمردين، من حينها ظل جنوب العراق يغلي غضباً. في الشمال العراقي، أتاح منع الطيران والغطاء الجوي الغربي ٳقامة منطقة كردية مستقلة عملياً مع حرمان العراق من موارد الشمال الطبيعية بما فيها النفط. فترة الحصار الطويلة مع دخول المراقبين الدوليين وتفكيك أسلحة التدمير الشامل العراقية في ظل عقوبات اقتصادية... الخ، كل هذا قضى على ما تبقى من مكامن قوة النظام وفككه عملياً. مع أن نظام البعث العراقي خضع عملياً لكل ما طلب منه، ٳلا أن هذا لم ينج "صدام" من مصيره المحتوم.
بالنتيجة، حين أطلت دبابات "أبرامز" اﻷمريكية على مشارف بغداد، كان صدام حسين ونظامه قد "نضجا" بما فيه الكفاية لكي يتم انهيار النظام بسرعة ودون كلفة بالنسبة للقوات الغازية. هكذا سقط العراق بأسرع من تقدم قوات المارينز!
لو كان جورج بوش اﻷب أكمل الطريق إلى بغداد عام 1991م لاستقبل فيها استقبال الفاتحين المحررين لكن جيشه كان سيواجه مقاومة أكثر من تلك التي لقيها بعد اثني عشر عاماً من الحصار، فهل ينتظر الغرب اهتراء نظام اﻷسد أو قيامه بخطأ فادح ليوجه له ضربة الخلاص؟
النظام السوري سبق له وأن نجا من محاولة أولى لتفكيكه حين انسحب ذليلاً من لبنان فور أن أدرك أن لعبته هناك قد شارفت على الانتهاء. هذا الفرار أطال في عمر نظام الشبّيحة في دمشق وكان مقدراً له أن ينجيه من التهلكة لولا لطف الله ثم الربيع العربي والذي كان متوقعاً على عكس ما يعتقد الكثيرون.
منذ عام 2010م ومراكز البحوث الغربية تتنبأ باحتمال حدوث قلاقل عنيفة في المنطقة العربية. أسباب هذه القلاقل موضوعية قبل كل شيء وليست فقط البحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية.
تعتبر هذه المراكز أن الناس تثور حين تجوع أو حين تدرك أنها ضحية عملية سطو منظم وأن لا حل سياسياً لمشاكلها. انسداد اﻷفق هو أول أسباب الثورات ومهارة أي نظام سياسي تتجلى في قدرته على التطور واستشراف آفاق جديدة لمواطنيه، وهذا ما يعزّ في المنطقة العربية.
في البلاد العربية أزمة فقر وسوء ٳدارة وفساد إضافة إلى الطغيان والتسلط مع وجود أجيال جديدة منفتحة على العالم، ذكية ومثقفة، انسدت أمامها أبواب التقدم والنجاح وحتى إمكانيات الهجرة. في حال ارتخاء قبضة النظام أو وقوع حدث جلل، تتعاظم احتمالات الثورة وتصبح أمراً واقعاً.
مع حلول الربيع العربي، فهم بعض الأنظمة العربية سريعاً أن سقوطه صار محتوماً بفعل عجزه عن مجاراة العصر والارتقاء إلى مستوى يمكنه من الرد على حاجات شعبه.
"بن علي" كان أول من فهم وتبعه "حسني مبارك"؛ فأظهر الاثنان في النهاية حساً وطنياً "ولو بالمقلوب"، ورحلا غير مأسوف عليهما. ملوك المغرب والأردن ثم البحرين سارعوا للقيام بخطوات توفر عليهم وعلى بلادهم مصيراً أسود، أو تؤخر هذا المصير. حتى حاكم اليمن بدأ بالتصريح "أنه راحل ولكنه يريد أن يرحل في ظروف معقولة".
هناك استثناءان لهذه القاعدة؛ أولهما: ليبيا وعقيدها الذي انتهى كما نعرف جميعاً، و ثانيهما: الرئيس الوريث ﻷعتى وأدهى نظام قمعي عرفه الشرق اﻷوسط.
على علاته وجنونه، لم يفسد نظام القذافي شعب ليبيا بقدر ما أفسد نظام اﻷسد سوريا وشعبها الذي أوسعه قمعاً وتنكيلاً وتدميراً أخلاقياً. حين دقت ساعة القذافي، كان في قلب السلطة الليبية وضمن صفوف جيش العقيد عدد من الشرفاء وأنقياء الضمير ممن منعتهم أخلاقهم من مجاراة الطاغية في غيّه. بهذا المعنى كان نظام العقيد أقل سوءاً وأكثر أخلاقية وإنسانية من نظام اﻷسدين.
انطلاقاً من انشقاقات العسكريين الواسعة ومن تفكك الجهاز الدبلوماسي الليبي، واعتماداً على من بقيت لديهم أخلاق ونتفة من ضمير داخل اﻹدارة الليبية، بدأ تشكيل المجلس الوطني الليبي وقواته المسلحة، وهو ما سيصبح نواة الدولة الليبية المقبلة والتي سيكون مطلوباً منها أن تتطور، تحت نوع من الوصاية الغربية، حتى تصبح دولة قادرة على القيام بواجباتها تجاه مواطنيها والعالم ولو بعد حين.
ٳن شيئاً من هذا لم يحدث في سورية، ولا يبدو أنه وشيك الحدوث. انشقاقات العسكريين محدودة ومحصورة بصغار الضباط وبالمجندين مع سلاح خفيف لا يسقط نظاماً. لم ينشق أي دبلوماسي سوري في العالم و إعلان انشقاق سفيرة سوريا في فرنسا انتهى إلى مهزلة، حيث اتضح أن اﻷمر ليس سوى ألعوبة من أجهزة النظام بتواطؤ السفيرة نفسها. كذلك اﻷمر على مستوى الأجهزة اﻹدارية والحزبية والقضائية، حيث سجل انشقاق يتيم هو للمحامي العام اﻷول في حماة والذي انقطعت أخباره من حينها.
هل النظام السوري ٳذا عصي على السقوط، وهل كل أفراده هم من زبانية اﻷسد؟
النظام السوري عصي ليس فقط على اﻹصلاح بل على مجرد التغيير، وليس هناك من حل غير " تفكيك" مجمل النظام. حتى لو غاب رأس النظام، فهذا لن يكون حلاً مرضياً وهو ما يفسر خطاب رئيس وزراء العراق "نوري المالكي" المحذر لمن تسول له نفسه اختصار عذابات الشعب السوري بقتل اﻷسد قائلاً: "ٳن مقتل اﻷسد لن يحل الأزمة في سوريا، بل ربما يلقي بها في أتون الحرب الأهلية ". المالكي الذي عاصر حكم البعث الصدامي وشارك في تفكيك نظام البعث العراقي الشقيق يعرف عما يتحدث.
لتجنب مصيره المحتوم، يراهن النظام على تخويف المحيط مما سيحصل حال انهياره، ويعرف أن الغرب لن يتورط عسكرياً ٳلا مضطراً، وفي آخر لحظة خشية وجود كلفة مرتفعة للتدخل وفي غياب موارد نفطية تعوض كلفة هذا التدخل.
رهان النظام اﻷسدي الحالي يتخلص في الآتي:
ٳذا كان نظام صدام لم يسقط حتى وصلت الدبابات الأمريكية لبغداد، بعد أن صمد لاثني عشر عاماً إثر حرب ضروس مع إيران وبعدما تلقى ضربات عسكرية ساحقة منذ حرب تحرير الكويت وعاش في ظل عقوبات دولية صارمة وعزلة شاملة، ومع خروج مناطق واسعة من العراق شمالاً وجنوباً عن سلطة حاكم بغداد، فكم سيعيش النظام اﻷسدي في دمشق وهو لا زال بكامل قوته ومستنداً على دعم ٳيراني وروسي وتواطؤ إسرائيلي؟
خوف النظام من التدخل الخارجي يفسر ابتعاده عن التحرش الجدي بجواره الإقليمي وحرصه على تجنب القيام بمجازر كبرى تستدر التدخل الدولي القادر على جعل اﻷسد يتذوق طعم الكأس المرة التي شربها قبله القذافي وصدام.
هذا يفسر أيضاً حذره في استعمال سلاح الطيران الحربي الذي سيحث العالم على فرض حظر جوي فعلي أو التدخل عسكرياً؛ فالملاحظ أن النظام لا يستخدم حالياً الأسلحة الثقيلة ٳلا على نطاق محدود فلماذا؟
لو كان النظام واثقاً أن العالم لن يسمح بسقوطه لكان دك درعا وحماه وحمص وإدلب بالطائرات وبمدفعية الميدان على النمط الهتلري، تماماً كما سبق له أن فعل في الثمانينات. لكن النظام أدرك أن الزمن قد تغير وأن ساعته قد دنت، وليس فقط بفضل شجاعة مصوري ممارساته اللاأخلاقية وفاضحي جرائمه.
في الحقيقة، لا يبدو مقنعاً تفسير قلة الانشقاقات بالخوف من القصف من الجو. من اﻷفضل الاعتراف بأن القطاعات العسكرية في أغلبيتها الساحقة "ممسوكة" جيداً من قبل قياداتها الممالئة للنظام، وأن الانشقاقات العسكرية ستبقى محدودة وفردية حسب رأي تقرير المجموعة الدولية للأزمات. نفس التقرير يستخلص أن أكبر تهديد للنظام يأتي من خروج مناطق واسعة عن سلطته وبحماية منشقين يحملون أسلحة خفيفة ومضادة للدروع دون الحاجة لمهاجمة مراكز قوة النظام خارج المناطق "المحررة ". النظام لن يستطيع استعادة هذه المناطق دون اللجوء للأسلحة الثقيلة و للطيران مما يستتبعه مجازر واسعة ستجعل التدخل الدولي لإسقاطه أمراً مفروغاً منه.
قبل أعدائه، يدرك نظام اﻷسد أن أيامه صارت معدودة، وهو يناور لإطالة زمن احتضاره غير مبال بعذابات شعبه وحتى مناصريه. ككل نظام نرجسي شرس، يتصرف اﻷسد على مبدأ "أنه لن يذهب للجحيم وحيداً"، بل سيقاتل لآخر رمق، وسيصطحب معه أكبر عدد ممكن من اﻷبرياء، من سوريين وربما غير سوريين. هذا هو تفسير قيامه بمناورات صاروخية وتهديداته الموجهة لمحيطه الأقرب، مثله مثل حليفه حزب الله الذي يلجأ لردع صاروخي ذي طبيعة إرهابية ولا يشكل وزناً استراتيجياً في أي معركة حقيقية بين جيشين.
على كل حال فقد بدأ تفكيك نظام اﻷسد، لكن على يد السوريين الأحرار، وعلى يد الشرفاء من المنشقين دون انتظار الناتو ودون منّة أحد، وهو ما يجب على الثائرين أن يدركوه فخلاصهم في يدهم قبل أن يكون في يد الآخرين. ٳن كان الثائرون يريدون فعلاً التدخل الخارجي فعليهم أن يستكملوا الشروط الموضوعية المؤهلة لهذا التدخل والتي ستكفل له النجاح؛ وأولها:

أن يبدؤوا بإقامة مناطقهم الآمنة قبل كل شيء، ثم أن يضعوا العالم أمام مسؤولياته في حماية هذه المناطق أو مساعدتهم للدفاع عن أنفسهم.
نظام اﻷسد قد دخل في نفق لا خروج منه دخله قبله اثنان من الطغاة؛ القذافي وصدام، ولم يخرجا منه أحياء.
احتضار اﻷسد ربما يكون طويلاً لكنه قد بدأ وهذا هو المهم.

 

المصدر: موقع العمق

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع