مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 9592
شـــــارك المادة
الحديث عن "سياسة للنظام" في هذا الأمر يوحي بأن الاعتقال والتعذيب ليس سلوكاً عشوائياً تقوم به الأجهزة الأمنية. وهو لا يمكن أن يكون عشوائياً؛ لأن النظام يخوض أقسى معركة فاصلة في تاريخه، معركة البقاء أو الفناء، ولا بدّ أن يكرس كل دهائه وعبقريته لتطبيق ما يتصوره خطة محكمة للنجاة. سأحاول في هذه المقالة أن أبحث عن منهج موحد في عمليات الاعتقال والتعذيب، وأحسب أن فهم هذا المنهج يمكن أن يساعدنا على امتصاص خطة النظام أو إحباطها، وسوف أطلب منكم هذه المرة أيضاً -كما طلبت في المقالة السابقة- أن تصبروا على طولها.
(1)
أول ملاحظة في هذا الموضوع هي أن الاعتقال انتقل خلال الأيام التسعين الماضية من درجة إلى أخرى في تصاعد مطّرد وكأنه خط بياني صاعدٌ أبداً، وذلك على ثلاثة محاور: أ) كانت الاعتقالات قليلة بالعشرات كل أسبوع، ثم بالمئات، ثم صارت بالآلاف. (ب) كان المعتقلون يُمضون في الاعتقال ما بين خمسة أيام وأسبوع، ثم زادت مدة الاعتقال باطراد حتى صارت بين ثلاثة أسابيع وأربعة بالمتوسط حالياً، وعندما نقول: "بالمتوسط"، فمعنى هذا أن البعض يمكن أن يمضوا أسبوعين مثلاً وسواهم، قد يمضون ستة أسابيع أو سبعة أو أكثر. (ج) لم يعانِ المعتقلون الأوّلون من تعذيب يُذكر، وفي مرحلة لاحقة صار التعذيب شديداً، ومع نهاية الأسبوع السابع بدأ الناس يستلمون جثثاً لشهداء قضوا تحت التعذيب، كانوا قلة قليلة جداً في البداية ثم تكاثرت أعدادهم مع مضي الوقت. التفسير: ارتفاع وتيرة الضغط الأمني المتمثل في تزايد الاعتقال والتعذيب يترافق بشكل حتمي مع ارتفاعَين آخرَين؛ أولهما: الارتفاع في مستوى الثورة، وازدياد أعداد الثائرين، واشتداد عزائمهم، وارتفاع سقف مطالبهم، والثاني: ارتفاع وتيرة التوتر والقلق داخل الأجهزة الأمنية نفسها، من قيادات وأفراد، وهو قلق مزدوج على النظام وعلى الذات -لا بدّ أن كل ضابط أمن وعنصر أمن بدأ يحس بالقلق الشخصي على نفسه وعلى مستقبله في هذه المرحلة المتقدمة من الثورة-.
(2)
الملاحظة الثانية: بدأ الاعتقال عشوائياً في الأيام الأولى، وغالباً كان يستهدف بعض المتظاهرين الذين أمكن القبض عليهم خلال المظاهرات نفسها، ومع دخول الثورة شهرَها الثاني تحول إلى اعتقالات تتم من البيوت، وما تزال الغالبية العظمى من المعتقلين حتى الآن تتكوّن من أولئك الذين يُعتقَلون من بيوتهم في عمليات مداهمة محدودة أو تمشيط جماعي. والملاحَظ بشأن هذه الاعتقالات أنها على نوعين؛ نوع عشوائي يستهدف الذكور بالأساس وضمن شريحة عمرية معينة، تمتد غالباً من أوائل المراهقة -نحو (15 سنة)- إلى الكهولة -(60 سنة)-، ونوع مستهدَف ضمن قوائم معَدَّة سلفاً، وهذا النوع الأخير غير محدد بجنس أو سن بل يمكن أن يستهدف حتى النساء، وإن كنّ قلة حتى الآن. الذين يُعتقلون بناء على قوائم مسبقة أقليةٌ بالنسبة لمجموع المعتقلين، لا أستطيع أن أحدد نسبتهم بدقة كاملة ولكن ربما كانت تتراوح بين الخُمس والعُشر، أي أن واحداً أو اثنين من كل عشرة معتقلين يُبحَث عنهما بالاسم، والباقون يُعتقلون عشوائياً. التفسير: الاعتقال في بداية الثورة -أيام الانتفاضة الأولى- لم يعتمد على معلومات بل على الحركة نفسها، فمَن ضُبط متلبساً "بجريمة" التظاهر وأمكن اعتقاله من الشارع تم اعتقاله. لاحقاً بدأت تتجمع معلومات عن أشخاص محددين، ومع استمرار اعتقال كثيرين غير مطلوبين بالاسم -لمجرد شبهة مشاركتهم في المظاهرات السابقة، أو احتمال مشاركتهم في المظاهرات اللاحقة-، فقد زاد التركيز على المطلوبين الذين يتضح أنهم من النشطاء، أو الذين تثبت مشاركتهم في المظاهرات. القوائم التي تحدد مطلوبين معيّنين تأتي من مصدرَين؛ الأول: مصدر طبيعي لا لوم على صاحبه، وهو اعترافات بعض المعتقلين أثناء التعذيب. الثاني: مصدر خطير شرير هو المخبرون والعواينية من الخونة والعملاء، وهم –حالياً- أثمن مصدر معلومات بالنسبة للنظام وأكبر تهديد بالنسبة للناشطين والفاعلين في الثورة، وقد تحدثت عنهم في المجموعة الأولى من النصائح والأفكار التي وجهتها إلى المتظاهرين، وسوف أتحدث عنهم في المجموعة الثانية التي ستأتي بعد هذه المقالة -بإذن الله-.
(3)
بتتبّع ما أُتيح الاطلاع عليه من حالات حتى الآن نجد أن مصير النوعين السابقين ليس واحداً، فالمعتقَلون العشوائيون يخضعون لفترة اعتقال قصيرة نسبياً، ويعامَلون بقسوة متوسطة، بعكس المعتقلين المستهدفين بالاسم الذين يتعرضون إلى ضغط شديد، والذين تطول فترات اعتقالهم، وبعضهم لم يُفرَج عنه إلى اليوم رغم مرور ستين يوماً على اعتقاله أو أكثر. التفسير: يعتمد مستوى الضغط على المعتقَل -مدة سجنه ودرجة تعذيبه- على مدى تأثيره في الثورة، فإذا كان ضمن شباب منطقة ثائرة واعتقل عشوائياً؛ فسوف يتعرض إلى بعض الضغط قبل إطلاق سراحه، وإذا كان من المتظاهرين فسوف يعذب لمدة أطول على أمل ردعه عن المشاركة في المستقبل، أما لو كان ناشطاً فإنه سيصبح عرضة للملاحقة بمجرد انكشافه. أما تعريف الناشط فيمكن أن يصاغ بعبارات بسيطة بأنه: "الشخص الذي يساهم في تحريك الثورة". مثلاً: الشخص الذي يندفع للمشاركة في مظاهرة نسميه عنصراً فاعلاً في الثورة، أما الذي يصمم المظاهرة نفسها أو يحركها منذ البداية فهو ناشط. الشخص الذي يهتف في المظاهرة بعاطفة وانفعال هو عنصر فاعل، أما الذي يجهز اللافتات ويصمم الشعارات فهو ناشط. وبالطريقة نفسها نسمي ناشطاً كلَّ من يخطب في المظاهرات أو يصوّر ويرفع الصور والأفلام أو يتصل بوسائل الإعلام أو ينقل الأخبار وينسّق بين المناطق، إلى غير ذلك من الفعاليات الثورية. إن الناشطين هم أهم كتائب الثورة، وهم فدائيّوها وأبطالها الذين يستحقون أن يقبّل كل سوري رؤوسَهم، ولو جاز في شرعتنا أن نصنع للناس تماثيل لقلت: إن علينا أن نصنع لهم تماثيل، لكن لا تماثيل في سوريا بعد اليوم -بإذن الله-... كفانا ما عانينا منها في أربعين عاماً. هؤلاء الناشطون يكونون عادة على رأس قائمة الملاحقين لأنهم من مفاتيح تحريك الثورة، ولأنهم كذلك فعليهم أن يتجنبوا الاعتقال بأي ثمن، وقد ذكرتهم في واحدة من النصائح والأفكار التي وجهتها إلى المتظاهرين تعقيباً على الحلقة الأولى من هذه السلسلة -سياسة قمع المظاهرات-، وقلت: إن عليهم تجنب المشاركة في المظاهرات دفعاً لخطر الاعتقال، وسوف أخصّهم بمجموعة أخرى من النصائح في مجموعة "أفكار واقتراحات خاصة بالاعتقال والتعذيب" التي سأنشرها بعد هذه المقالة -بإذن الله-.
(4)
يوجد نوع ثالث من الاعتقال عثرت على قصص تشير إليه في بعض المناطق المحيطة بدمشق، ولأني لم أستطع أن أثبته بشكل منهجي؛ فأنا أعتبره حالات فردية أو سلوكاً خاصاً ببعض المناطق الثرية وليس قياسياً على مستوى سوريا، وهو الاعتقال من أجل المال. حالات الاعتقال التي تدخل في هذا النوع تذكرنا بروايات وأفلام تحكي قصة عصابة تختطف ابن عائلة ثرية ثم تطلب من أهله فدية مقابل إطلاق سراحه! ضحايا هذا النوع من الاعتقال كانوا -غالباً- من المحايدين الذين لم يشاركوا في أنشطة الثورة، ولم يتعرضوا إلى أي أذى أو تعذيب أثناء فترة اعتقالهم القصيرة التي انتهت بخروجهم بعد دفع بعض الإتاوات لعناصر الأمن. هذا النوع من الاعتقال غير مهم في بحثنا وغير شائع أيضاً، لذلك سوف أهمله في هذه الدراسة.
(5)
التعذيب في المعتقلات ممارسة منهجية لكل المعتقلين، وغالباً يتم على مرحلتين: الفروع الأمنية، والسجون. يُمضي المعتقَل الأيامَ الأولى من الاعتقال في أحد الفروع الأمنية، ويخضع للتحقيق المصاحب للتعذيب بهدف انتزاع معلومات، فإذا لم تدل المعلومات على أن المعتقل من ناشطي الثورة فسوف يُنقل بعد انتهاء أسبوع التحقيق إلى أحد السجون ليمضي فيه عدة أسابيع أخرى يتعرض أثناءها -غالباً- إلى تعذيب غير مترافق مع تحقيق قبل إطلاق سراحه. ما هي أهداف التحقيق؟ غالباً تنحصر في أمرين؛ أولهما: كشف حسابات الفيس بُوك والبريد الإلكتروني للمعتقل، والثاني: معرفة مَن دفعه إلى التظاهر أو شارك معه في المظاهرات. فقد دلّت غالبية الروايات التي أمكن تجميعها عن المعتقلين العشوائيين على أنهم يطالَبون باعترافات عامة غير محددة؛ كتقديم أسماء لعناصر فاعلة شاركت في المظاهرات. مثلاً: يمكن أن يشترط المحقق حصوله على عشرة أسماء لأشخاص كانوا معك في المظاهرة، وسوف يصرّ على فتح بريدك وحساباتك التويترية والفسبوكية لفحصها، ويمكن أن يستدل منها على آخرين لك بهم علاقة ويضغط عليك لتوضيح طبيعة تلك العلاقة، ويمكن أن يعثر على نشاطات ضد الدولة -من نوع تعليقات ثورية على بعض الصفحات مثلاً أو مناقشات ثورية مع البعض-، وهذه كلها يمكن أن يدفع المعتقل ثمنَها بعض التعذيب قبل الإفراج عنه، إلا إذا ظهر ما يثبت أنه "ناشط" وليس مجرد متفاعل مع الأحداث الثورية. لم يقتصر التعذيب في أماكن الاعتقال -الفروع الأمنية، والسجون بشكل عام، وفي بعض الأحيان منشآت تم تحويلها إلى معتقلات مؤقتة؛ كالمدارس والملاعب الرياضية-، لم يقتصر على الضرب والتعذيب الجسدي فقط، بل شمل -غالباً- الإهانة المتعمدة والمبالَغ فيها بتجريد المعتقلين من ملابسهم وشتمهم وسب أعراضهم والبول عليهم، وكثيراً ما يُجبرون على الهتاف بتأليه بشار في سبيل تخفيف عذابهم. ويمكننا أيضاً أن نقرر أن إكراه المعتقل على مشاهدة جلسات التعذيب التي يخضع لها غيره من المعتقلين هي ممارسةٌ شائعة أو أنها قاعدة عامة. التفسير: التعذيب المصاحب للتحقيق مهمته حمل المعتقل على الإدلاء باعترافات عن علاقته بالثورة والمظاهرات. في أكثر الحالات تدلّ المعلومات التي يحصل عليها المحقق على مشاركة عادية للمعتقل دون أي أنشطة قيادية أو تنسيقية، وفي تلك الحالة فإنه لن يطول به التحقيق طويلاً، وسوف ينحصر الهدف الأساسي من تعذيبه وإهانته خلال الفترة المتبقية له في السجن في تحطيم إرادته وترهيبه حتى لا يعود إلى التظاهر مرة أخرى.
(6)
أجمع المعتقَلون الذين استطعت الاطّلاع على شهاداتهم أن أحداً لم يطلب منهم الصمت وعدم التحدث عن تجربتهم في المعتقل، بل لعل العكس هو القاعدة، فقد بدا على العناصر الأمنية التي مارست على المعتقلين التعذيبَ والإهانات خلال مدة احتجازهم أنها راغبة في أن يخرجوا ويحدّثوا الآخرين بما تعرضوا له هم شخصياً أو بما شاهدوه من تعذيب لغيرهم. التفسير: باستثناء حالات التعذيب التي تهدف إلى انتزاع معلومات؛ فإن ما تهدف إليه الأجهزة الأمنية من ممارساتها الإجرامية هو نشر الخوف. لا شك أن فيما تصنعه من اعتقال وتعذيب نوعاً من العقاب، ولا شك أن النظام القمعي في بلادنا معتاد على الانتقام ولا يعرف الرحمة والتسامح، لكن من المؤكد أنه لا يجد فسحة من الوقت والطاقة ليمارس هذه الهواية حالياً. قطعاً سوف يصنع ذلك لو أنه انتصر -لا سمح الله-، أما الآن فإنه يعاقب من يشارك في الثورة ليردعه عن الاستمرار في المشاركة فقط، ويعذبه ثم يطلقه ليحدّث الآخرين عمّا لاقاه من العذاب لينتشر المزيد من الخوف. هذا الهدف يتأكد عندما نجمع مع قصص التعذيب التي يحرص النظام على نشرها ممارسةً أخرى أكثرَ إجرامية، وهي تسليم الأهالي جثثاً تحمل آثار التعذيب الشديد، سواء أكانت لرجال كبار، أم لأطفال صغار.
عبد المنعم زين الدين
أحمد أبو الخير
عماد الدين الرشيد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة