إبراهيم السكران
المرفقـــات
تصدير المادة
المشاهدات : 4243
شـــــارك المادة
-رابطة ذهنية:
سبق أن استعرضنا في الحلقة الماضية، ضمن سلسلة هذه الدراسة، أن تنظيم الدولة يكرر المطالبة بالرجوع لوثائقه الرسمية كقوله (فمن أراد الإنصاف فليتَّقِ الله فينا، وليحكم علينا من خلال بياناتنا وإصداراتنا وخطاباتنا)[العدناني، بيان بعنوان: لك الله أيتها الدولة المظلومة، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 13]
وفي بيان رسمي آخر يقول: (ومن أراد أن يعرف منهج الدولة وسياستها وفتاويها فليرجع إلى قادتها وبياناتها وخطاباتها ومصادرها)[العدناني، بيان بعنوان: إنما أعظكم بواحدة، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 30].
وهذا معنى رائج بين أتباع التنظيم حتى كان بعضهم يردد شعار "اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا".
ولما كان هذا مطلب موضوعي وعلمي لا يسوغ رده، فقد التزمنا في هذه الدراسة أن يكون المصدر الأساس الحجة هو وثائق التنظيم نفسها، واستخلصنا في الحلقة السابقة موقف تنظيم الدولة في التنصيص على تكفير قطاع واسع من عوام المسلمين وعلمائهم، وسنكمل في هذه الحلقة موقف تنظيم الدولة من الحركات الجهادية.
-ظهور جبهات المقاومة وتشكّل الحركات الجهادية في العالم الإسلامي:
مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ظهرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وذراعها العسكري كتائب القسام، ثم مع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق ظهرت عدة حركات مقاومة في هذين البلدين، ثم مع الثورات العربية في الشام وليبيا واليمن ظهرت كتائب ثورية وفصائل جهادية كثيرة أيضاً، ويختلف الراصدون والدارسون في تقييم وقراءة أداء هذه الحركات الجهادية اختلافاً عريضاً، وقد سلختُ من هذه الدراسة أي وجهة نظر شخصية لي في تقييم وقراءة هذه الحركات الجهادية، لئلا يشوش الغرض الرئيس من هذه الورقة وهو "فهم واستيعاب موقف تنظيم الدولة من الحركات الجهادية الإسلامية"، بل إنني اجتهدت قدر الطاقة والإمكان أن أقف من كل هذه الحركات الجهادية أثناء عرضها نفس المسافة، دون فتح باب مفاضلة لحركة على الأخرى، كل هذا لئلا ينعطف البحث عن هدفه الأساس وهو سؤال: كيف ينظر ويتعامل تنظيم الدولة مع الحركات الجهادية في العالم الإسلامي من خلال وثائقه الرسمية؟
وسنعرض فيما يلي تفصيلاً موقف تنظيم الدولة من المجاهدين والحركات الجهادية في العالم الإسلامي، في الشام وأفغانستان وليبيا وفلسطين وغيرها، وعمدتنا الأساسية هي "وثائق تنظيم الدولة الرسمية" فقط كما سبقت الإشارة، فلا نعتمد على كلام خصم ومناوئ، بل ولا مشايع ومناصر لهم، وإنما بياناتهم وإصداراتهم الرسمية لا غير، مع التأكيد مجدداً على الوقوف بمسافة متساوية من كل هذه الحركات الجهادية وعزل أي تقييم شخصي لها هنا، وأما ترتيب استعراضها فهو أمرٌ فرضه اعتبارات تسلسل العرض الفني فقط:
-استباحة دماء وأموال مجاهدي أحرار الشام:
أحرار الشام فصيل جهادي إسلامي معروف تخلّق في ظروف الثورة الشامية، وقد أعلن تنظيم الدولة مراراً ردة مجاهدي أحرار الشام وخروجهم من الإسلام واستحلال دمائهم وأموالهم، ومن اللافت أن تنظيم الدولة لا يعتبر تكفير مجاهدي أحرار الشام مسألة اجتهادية سائغة، بل ردة أحرار الشام عند تنظيم الدولة من المسائل التي يُغلّظ فيها الإنكار على المخالف، ومن ذلك أنه في شهر ذي القعدة لعام 1435هـ وقع انفجار غامض استهدف اجتماعاً لقيادات الحركة أسفر عن مقتلهم بصورة جماعية تفطرت لها قلوب المحبين للجهاد الشامي على اختلاف أطيافهم، فنشر تنظيم القاعدة في اليمن بياناً وعرض فيه لذكر قيادات أحرار الشام المقتولين وترحّم عليهم، فغضب تنظيم الدولة من هذا الموقف، واعتبره ترحّم على مرتدين، وجعله من جملة المآخذ على تنظيم القاعدة في اليمن، كما يقول تنظيم الدولة في سياق نقده لقاعدة اليمن: (وفي بعضها –أي بياناتهم- الترحّم على مرتدي الصحوات السلولية، قادة أحرار الشام)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص23]
فأنت تلاحظ هنا أن تنظيم الدولة يعتبر مجاهدي أحرار الشام مرتدين، ولذلك ينزل عليهم أحكام المرتدين الكفار الخارجين من الإسلام، ومنها عدم جواز الترحم على الميت الكافر كما قال الله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ).
ويذكر النص السابق أيضاً الوصف الذي بسببه حكم بردتهم، وهو وصف الصحوات، وهو الوصف الكفري الأكثر تداولاً في خطاب تنظيم الدولة كما سبقت الإشارة في الجزء الأول من الدراسة، فكل من تم تصنيفه عندهم بأنه صحوات فهو مرتد خارج عن الإسلام مباح الدم والمال، ولذلك يكثر في خطاب تنظيم الدولة وصف مجاهدي أحرار الشام بأنهم صحوات، كما يقول تنظيم الدولة مثلاً (جيش الإسلام، وأحرار الشام، اثنان من فصائل الصحوات الرئيسية في الساحة الشامية)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص36] .
وسيأتي نماذج وشواهد أخرى لذلك أيضاً.
-استباحة دماء وأموال مجاهدي جيش الإسلام:
جيش الإسلام من الفصائل الجهادية الإسلامية الكبيرة، وهو حصيلة اندماجات متوالية لعدد كبير من فصائل المجاهدين الصغيرة، يُقدّرها بعضهم بخمسين فصيل، ويذكر بعض أهل الخبرة من أشهر أعماله عملية "خلية الأزمة" التي قُتِل فيها قيادات النظام الأمني النصيري دفعة واحدة، وزعيمه هو القائد زهران علوش.
وقد لاحظت أن تنظيم الدولة شديد التوتر والتشنج ضد هذا الفصيل وقائده بصورة خاصة، ويعتبر ردة هؤلاء المجاهدين وخروجهم من الإسلام واستباحة دمائهم وأموالهم من المسائل المفروغ منها أصلاً التي لا تحتاج عنده لكثرة إيضاح.
ولا يقتصر الأمر عند تنظيم الدولة على الحكم على جيش الإسلام وقائده زهران علوش بالردة فقط، بل يحرصون أيضاً على أن يسبقوا اسمه بوصف المرتد إذا عرضوا له، وهذا له نماذج، ومنها مثلاً قول التنظيم:
(المرتد زهران علوش، قائد جيش الإسلام)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص71].
وفي موضع آخر يقولون أيضاً (المرتد زهران علوش)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص6].
والوصف الكفري المتكرر الذي يرون أن زهران علوش ومجاهدي جيش الإسلام وقعوا فيه هو أنهم عندهم "صحوات"، كما يقول التنظيم (جيش الإسلام، وأحرار الشام، اثنان من فصائل الصحوات الرئيسية في الساحة الشامية)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص36]، ومثل هذا كثير عندهم، والصحوات من أشنع نواقض الإسلام لدى تنظيم الدولة كما سبق بيانه مراراً، وسيأتي شواهد أخرى أيضاً.
-استباحة دماء وأموال مجاهدي الجيش الحر:
الجيش الحر مظلة عامة يدخل تحتها طيف متنوع ومتفاوت من الأفراد والتشكيلات التي دخلت الثورة مع اندلاعها وتسلحت وواجهت النظام، وعصبهم آنذاك المنشقون عن النظام الأسدي، وهو الواجهة العسكرية الأولى للثورة، وهؤلاء المقاتلون بعيدون عن الغوص في التفاصيل العقدية والفقهية التي تختلف حولها الفصائل الجهادية المنتسبة للسلفية، ويذكر أهل الخبرة بالشأن الشامي أنه يغلب على مقاتلي الجيش الحر روح النخوة لأهل بلدهم والحمية الإسلامية العامة، وهمهم الأساس "إسقاط النظام الأسدي الظالم" وكف عدوانه على الشعب، وبسبب كون الجيش الحر مظلة عامة فقد دخل فيها بعض المرتزقة الذين شوّهوا جزءاً من صورته، وتختلف عامة الفصائل في تقييم الجيش الحر وتشكيلاته شرعياً وسياسياً وعسكرياً، مع التأكيد على التفاوت الشديد بين المنتسبين للجيش الحر، أفراداً وكتائب.
وأما تنظيم الدولة فقد حسم أمره مبكراً، واعتبر الجيش الحر طائفة مرتدة وخارجة عن الإسلام بإطلاق، ومقاتلوه تستباح دماؤهم وأموالهم، وتصريحهم بردة الجيش الحر كثير، ومنها على سبيل المثال في سياق نقدهم لأحد الفصائل قالوا عنهم (ثم بعد ذلك هو وكبار قادته يتعاونون مع الجيش الحر المرتد)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص75]
وفي موضع آخر ذكروا أنه لا شك في ردة بعض الكيانات وذكروا منها "الجيش الحر"، وذكروا أن "هؤلاء المرتدين مقرهم تركيا" [مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص53].
ووصفوهم بالردة أيضاً في محل آخر (مرتدو الجيش الحر يقاتلون في سبيل الديمقراطية)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص44]
ويرى تنظيم الدولة أن ردة الجيش الحر ليست ردة أفراد فقط، بل هي أيضاً ردة الطائفة المحاربة، والطائفة المرتدة المحاربة لها أحكام أغلظ من المرتد المنفرد، وقد سبقت الإشارة لهذا التمييز عند الفقهاء، كما يقول تنظيم الدولة: (الطوائف الممتنعة كالجيش الحر وحلفائه الذين يقاومون الشريعة وأحكامها)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص51]
وينقل أحد منسوبيهم عن نفسه وعن بعض الرموز أنهم كانوا قد اعتادوا تكفير الجيش الحر، كما يقول (حيث كنا في مجالسه جميعاً نكفّر الجيش الحر المرتد)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص75].
وموضع الشاهد هنا هو "إقراره" على نفسه باستمراء تكفير الجيش الحر، وأما دعواه على غيره فهي شهادة مردودة لما عارضها من موانع قبول الشهادة.
وأمثال هذه الإشارات لردة الجيش الحر وخروج مقاتليه من الإسلام واستحلال دمائهم وأموالهم كثيرة في إصدارات تنظيم الدولة، وهم يدّعون أن الجيش الحر "صحوات"، وهو الوصف الأكثر تردداً في أدبيات التنظيم، وأنهم ممتنعون بالشوكة عن تحكيم الشريعة، وكل هذه أسباب للردة، بل الردة المغلظة، طبقاً لتنزيلهم وتكييفهم.
-استباحة دماء وأموال الجبهة الإسلامية:
تكررت المطالبات في الشام وخارجها لاجتماع الفصائل في وعاء جامع لتحقيق هدفها، وكان من نتائج ذلك حدوث اندماجات كثيرة لفصائل صغيرة ضمن فصائل أكبر، فالفصائل الكبرى كأحرار الشام وجبهة النصرة وجيش الإسلام وأضرابها سبق أن اندمج فيها مراراً فصائل ومجاميع صغيرة ضمن تاريخ تشكُّلها، ثم تطورت المساعي إلى تحقيق تحالفات واندماجات أكبر، وكان من أشهرها تشكيل "الجبهة الإسلامية" التي أُعلن عنها في محرم 1435هـ/نوفمبر 2013م، وتضم هذه الجبهة فصائل وتكتلات سابقة، وهي كما جاء في ميثاقها: حركة أحرار الشام، ألوية صقور الشام، كتائب أنصار الشام، جيش الإسلام، لواء التوحيد، لواء الحق.[ميثاق الجبهة الإسلامية، 18/11/1435هـ الموافق 22/11/2013م، ص7].
وهذه الفصائل الموقِّعة على الميثاق هي أيضاً حصيلة تكتلات سابقة لفصائل صغيرة أخرى كما سبقت الإشارة، ويذكر أهل الخبرة أن عدد المقاتلين في هذه "الجبهة الإسلامية" قوامه يتجاوز عشرات الآلاف من الجنود المجاهدين.
ورئيس مجلس الشورى في هذه الجبهة هو أبو عيسى أحمد الشيخ، ورئيس المكتب السياسي حال إعلانها هو أبو عبد الله الحموي، ورئيس المجلس الشرعي حال إعلانها هو أبو عبد الملك الشرعي –رحمهما الله-، والقائد العسكري العام للجبهة هو القائد زهران علوش.
وهذه الجبهة بكل مكوناتها، وبكل عدد مجاهديها الضخم؛ أعلن تنظيم الدولة أنهم مرتدون خارجون عن الإسلام مباحو الدم والمال، والحقيقة أن هذا الموقف كثير جداً في إصدارات التنظيم، ومن هذه الإشارات قولهم:
(الجبهة الإسلامية المرتدة) [مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص7]
في أحد الحوارات مع أحد منسوبيهم يروي استنكار المخالفين لموقفهم في تكفير الجبهة الإسلامية فيقول (على سبيل المثال: كانوا ينكرون على الدولة الإسلامية لإعلانها تكفير "الجبهة الإسلامية"..)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص75]
وفي موضع آخر ينكرون على القائد أبي محمد الجولاني أن يتحالف مع الجبهة الإسلامية لأنهم "مرتدون" فيقول التنظيم (راجع سلسلة "حلفاء القاعدة في الشام" لتقرأ عن ردّة حلفاء جبهة الجولاني، فهل ستقيم جبهة الجولاني الشريعة مع من يحتكم إلى رغبة الشعب ("الجبهة الإسلامية" بقيادة زهران علوش)) [مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص58].
ولذلك يطلق التنظيم في خطابه الرسمي على "الجبهة الإسلامية" الألقاب التي اعتاد إطلاقها على من يكفرهم، كقول أبي محمد العدناني في بيان رسمي مثلاً (الجبهة الإسلامية، جبهة الضرار، جبهة آل سلول)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة: 8].
ومناط التكفير الأساس هو طبعاً اعتبارهم أن "الجبهة الإسلامية" هي أحد صور وأشكال "الصحوات"، والصحوات في قاموس التنظيم هي من أصرح صور الردة والخروج من الإسلام، والإشارة إلى أن "الجبهة الإسلامية" صحوات، ويقومون بدور وأفعال الصحوات كثيرة جدة في الخطاب الرسمي للتنظيم، وعلى سبيل المثال انظر المواضع التالية من مجلتهم الرسمية:
-[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص8].
-[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص7، ص22، ص23، ص59، ص60].
-[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص6، ص51].
وقد كنت وجدت أتباع تنظيم الدولة يروجون بحثاً يقع في (32) صفحة بعنوان (بيان الهيئة الشرعية حول الجبهة الإسلامية وقياداتها) موقّع باسم (الهيئة الشرعية في الدولة الإسلامية في العراق والشام) مؤرخ في 16/6/1435ه، ومكرس لبرهنة ردة الجبهة الإسلامية وقياداتها وميثاقها وفصائلها وجنودها، وذكروا فيه من ألوان الغلو في التكفير والطرائق البدعية المحدثة شيئاً مفزعاً، لكن لم أستطع الاعتماد الإضافي عليه هنا لأنني لم أستطع التحقق من إقرارهم رسمياً بنسبة هذا البحث لهم، حتى ولو كان أتباع التنظيم يتداولونه، لما سبق أن اشترطت على نفسي في هذه الدراسة، ولذلك اكتفيت بأحكام التكفير الصريحة للجبهة الإسلامية التي ذكرها التنظيم في وثائق أخرى.
حسناً، لنسجل الآن أن الجبهة الإسلامية تضم من فصائل المجاهدين (حركة أحرار الشام، ألوية صقور الشام، كتائب أنصار الشام، جيش الإسلام، لواء التوحيد، لواء الحق) وأن تنظيم الدولة يعلن رأيه بوضوح وبصورة متكررة أن كل هؤلاء المجاهدين "مرتدون" خارجون عن الإسلام مباحو الدم والمال.
والجبهة عموماً حدث لها تطورات في تشكيلها وواقعها وهي لا تعنينا هنا، وإنما يعنينا تصور تنظيم الدولة للفصائل المجاهدة فيها.
-استباحة دماء وأموال الجبهة الشامية:
وفي سياق المزيد من التكتلات والتحالفات للفصائل المجاهدة، وفي ظل ضغط الظروف في حلب والشمال السوري، أعلنت بعض الفصائل المجاهدة عن تحالف آخر يضم الفصائل (الجبهة الإسلامية بحلب، حركة نور الدين زنكي، جيش المجاهدين، جبهة الأصالة والتنمية، تجمع "فاستقم كما أُمِرت")، تحت اسم "الجبهة الشامية"، ثم انضمت لها أيضاً فصائل أخرى جديدة، ثم حدث لها تحولات جوهرية في واقعها ووجودها وحول تعيين مستوى التنسيق بين الفصائل الأعضاء ليس هذا موضع عرضها.
وهذه "الجبهة الشامية" وكل من تضمه من المجاهدين من قيادات وأفراد أعلن تنظيم الدولة عن موقفه الصريح الواضح تجاههم بأن مجاهدي "الجبهة الشامية" مرتدون خارجون عن الإسلام مباحو الدم والمال، ومن ذلك أن تنظيم الدولة استعرض في العدد الثامن من مجلته الرسمية خبر إعلان "الجبهة الشامية"، وعرض نص خطاب رئيس مكتبها السياسي، ونص على الحكم عليهم بأنهم (صحوات الردة)[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص9]
وذكر تنظيم الدولة من الاعتبارات التي تؤكد ردتها قولهم (على سبيل المثال: "الجبهة الشامية" تنطق بكلمة الكفر من خلال رئيس مكتبها السياسي والإعلامي..)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص73].
والعلة التي يذكرها تنظيم الدولة مراراً هي أن الجبهة الشامية أحد صور "الصحوات" كما يقول التنظيم مثلاً (فصائل الصحوات التي شكلت لاحقاً "الجبهة الشامية"..)[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص9].
ثم في موضع آخر ذكروا "تحالف الصحوات" وذكروا منها نصاً "الجبهة الشامية"[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص58]. وتكررت هذه الإشارة لكون الجبهة الشامية "صحوات" في مواضع أخرى [انظر مثلاً: مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص28].
وحين عرض تنظيم الدولة لـ"الجبهة الشامية" ومشروعاتها في التحالف مع قوى الثورة، قسّمهم إلى فريقين: وطنيين إسلاميين، ووطنيين علمانيين، ثم قال (هذان الفريقان يتنافسان لإظهار الردة أكثر وأكثر)[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص9].
ومن أساليب عرض التكفير، أو أساليب برهنة التكفير، التي لاحظتها لدى تنظيم الدولة أن يأتوا لجهة أو حركة أو شخص يرون أن ردته من المعلوم بالضرورة عندهم، ويقيسوا عليه من يريدوا برهنة تكفيره للقارئ، ومن ذلك مثلاً أن هذه الفصائل الجهادية التي سبقت الإشارة إليها والتي انضمت إلى الجبهة الشامية قام تنظيم الدولة لبرهنة ردتهم بنفي الفارق بينهم وبين من ردته من المعلوم بالضرورة عندهم وهو "جبهة ثوار سوريا"، فأمثال الائتلاف الوطني وجبهة ثوار سوريا ونحوها تعتبر عندهم – بحسب ما رأيت- الشاهد المثالي النهائي للردة النموذجية، فترى تنظيم الدولة يقول مثلاً:
(أخيراً، ما الفرق الحقيقي بين حركة حزم وجبهة ثوار سوريا، وبين جيش المجاهدين وكتائب زنكي وتجمع فاستقم كما أمرت وجبهة الأصالة والتنمية والفصائل المختلفة للجبهة الإسلامية؟)[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص11].
وهذا الأسلوب في خطابهم بإثبات ردة المجاهد بقياسه على مرتد آخر في نظرهم له شواهد أخرى سأعرضها لاحقاً بحول الله، وإن كان هذا النص السابق له علاقة برهانات سجالية يتوخاها تنظيم الدولة مع جبهة النصرة.
-استباحة دماء وأموال مجاهدي جبهة النصرة:
جبهة النصرة فصيل جهادي مشهور في الشام، وزعيمه القائد أبو محمد الجولاني، وقد لاحظت أن تنظيم الدولة يتعامل مع جبهة النصرة وأميرِها أبي محمد الجولاني، وتنظيم القاعدة وأميره د.أيمن الظواهري، وحركة طالبان وأميرها الملا عمر؛ باعتبارهم كلهم منظومة مترابطة، وحرص التنظيم في مواضع على استحضار هذه العلاقة الولائية وإبرازها، حيث يؤكد تنظيم الدولة مراراً أن أبا محمد الجولاني أمير جبهة النصرة مبايع للظواهري أمير القاعدة، ود.الظواهري أمير القاعدة مبايع بدوره للملا عمر أمير طالبان.
فأما عن استحضارهم لكون الجولاني أمير جبهة النصرة مبايع للظواهري أمير القاعدة فانظر مثلاً [العدناني، بيان بعنوان: عذراً أمير القاعدة، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:12، الدقيقة:15]. ونشرت مجلتهم الرسمية دابق على مدى ثلاثة أعداد سلسلة تقارير مطولة في عنوانها الرئيس (القاعدة في الشام) يقصدون بها جبهة النصرة وأميرها أبا محمد الجولاني.[انظر: مجلة دابق، العدد الثامن، ص7؛ العدد التاسع، ص6؛ العدد العاشر، ص6].
وأما عن استحضارهم لكون أمير القاعدة د.أيمن الظواهري مبايع للملا عمر أمير طالبان فمنها قول العدناني مخاطباً الظواهري والقاعدة (أنتم اليوم جنودٌ تحت سلطان المُلاّ عمر) [العدناني، بيان بعنوان: عذراً أمير القاعدة، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:12].
وفي أحد الشهادات التي نشرها التنظيم تقول (وخاصةً أن أمير تنظيم القاعدة الظواهري كان دائماً يصرح أنه مبايع للملا محمد عمر)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص46].
ويقول تنظيم الدولة في لغة تنديدية (لا بارك الله في بيعة قاعدية مزعومة للملا عمر)[مجلة دابق، العدد السادس،ص24].
ونحن هاهنا لا يعنينا بطبيعة الحال تحقيق مدى دقة تصور تنظيم الدولة عن طبيعة ونمط العلاقة العضوية بين هذه الكيانات الثلاث، وإنما يعنينا بشكل أساس فهم تصور تنظيم الدولة عن الكيانات القائمة وحكمه عليها، فغرض الدراسة الأساس هو الفهم والتصور.
فهذه المنظومة المترابطة في منظور تنظيم الدولة (جبهة النصرة، تنظيم القاعدة، طالبان) قد أعلن تنظيم الدولة مراراً أنهم ولغوا في نواقض الإسلام وارتدوا وصاروا مستباحي الدم والمال، وسنستعرض بعض شواهد هذه العقيدة التي يعتقدها تنظيم الدولة.
فأما "جبهة النصرة" فالناقض الأظهر الذي وقعوا فيه –بحسب عقيدة تنظيم الدولة- أنهم تلبسوا بوصف "الصحوات"، ووصف الصحوات هو من أغلظ مناطات الردة والخروج من الإسلام في أدبيات تنظيم الدولة، كما يعرّفه التنظيم (الصحوات مصطلح سبكته البيادق الأمريكية لتجميل مرتديهم)[مجلة دابق، العدد الأول، رمضان 1435هـ، ص20].
يتحدث تنظيم الدولة بأن جبهة النصرة مرتدة خارجة عن الإسلام بدخولها في "تحالف الصحوات" حتى لو أظهرت خلاف ذلك فيقول (الادعاء الظاهري بالانتماء للإسلام والنية المزعومة بتحكيم الشريعة، كما هو الحال في جبهة الجولاني وغيرها في هذا التحالف، لا يؤثر على هذا الحكم..، فهؤلاء بتحالفهم مع هذه الطوائف الممتنعة وبقتالهم معها ضد الدولة الإسلامية؛ فهم في الحقيقة يشنون الحرب على الشريعة القائمة مستبدلين بها غيرها، وهذا كفر وردّة)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص54].
ويرى تنظيم الدولة أن "جبهة النصرة" ليست مجرد متعاون من بُعد مع "الصحوات المرتدين"، بل جبهة النصرة في نظرهم أحد رؤوس الصحوات وأعمدتهم، كما يقول التنظيم مثلاً (الجولاني دخل كلاعب أساس في مؤامرة الصحوات الخبيثة)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص51].
بل الأمر أغلظ من ذلك أيضاً، حيث يرى تنظيم الدولة أن "جبهة النصرة" تمثل الجهاز الأمني للصحوات المرتدين، فحين تعرض تنظيم الدولة لما يراه انكشاف أعمال جبهة النصرة في حلب قال:
(المحققون في سجون الصحوات كانوا من المسؤولين الأمنيين في جبهة الجولاني، وإذا أراد المهاجر الأمان لنفسه فإن تحالف الصحوات يأمرونه بتسليم نفسه لجبهة الجولاني، وكل هذا يتم بالتعاون مع الفصائل الأخرى في تحالف الصحوات..)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص51].
والذي نفهمه من هذا التصوير أن تنظيم الدولة يعتقد أن جبهة النصرة هي قلب الجهاز الأمني لتحالف الصحوات المرتد، حيث تقوم جبهة النصرة بدور القبض والتحقيق في سجون الصحوات، أي أن جبهة النصرة –بحسب اعتقاد تنظيم الدولة- هي وزارة الداخلية لتحالف الصحوات المرتد.
ولذلك فقد صار تنظيم الدولة يحرص في خطابه على إبراز أن "جبهة النصرة" هي أحد مكونات "الصحوات" المرتدة، ومن ذلك مثلاً هذه الشواهد:
(في البداية، تحالف الصحوات الخبيث في الشام يتألف من جيش المجاهدين والجبهة الإسلامية وجبهة ثوار سوريا والجيش السوري الحر وجبهة الجولاني)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص51].
ويقول التنظيم كذلك (وأيضاً، فإن تحالف الصحوات يتألف من الجيش السوري الحر والجبهة الشامية وفيلق الشام وجيش الإسلام وجبهة الجولاني) [مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص58].
وهذه الفصائل التي تشير لها هذه الشواهد بأنها مشاركة لجبهة النصرة في الصحوات سبق أن اطلعنا سوياً على حكم تنظيم الدولة عليهم بالردة والخروج من الإسلام.
ولذلك يعرض تنظيم الدولة لجبهة النصرة باعتبارها أحد مكونات "الصحوات" ضد أهل الإسلام فيقول مثلاً (فصائل الصحوات بما فيها جبهة الجولاني تحركت ضد مجاهدي درعا..)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص58], وكرروا ذات هذا التعبير التأكيدي في نفس الصفحة مرةً أخرى (فصائل الصحوات بما فيها جبهة الجولاني).
ويعرض تنظيم الدولة صورة لشباب يمتطون مدرعة عليهم سيماء التيارات الجهادية ويرفعون بيرق جبهة النصرة ويعلق عليهم تنظيم الدولة بالقول (مقاتلون من فرع الجولاني في الصحوات)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص72].
ولأجل كون "جبهة النصرة" من رؤوس الصحوات فإن تنظيم الدولة يعتقد أن الطيران الأمريكي الصليبي من ضمن مهامه يعمل على حماية ومساندة جبهة النصرة، كما يقول تنظيم الدولة (طائرات الكفار الفجار تأتي لتقصف وتحمي تحالف الصحوات بما فيها جبهة الجولاني..)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص66].
وعرض تنظيم الدولة مرةً لشخص وذكروا أنه تاب وذكروا شيئاً من حسن إسلامه بعد توبته حيث يقولون (هذا الرجل قد تاب مما كان عليه من قبل، وانضم للدولة الإسلامية، وصرح بتكفير الجولاني لعدة قضايا شهدها بنفسه قبل مغادرته إياه)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص76].
وهذا يعني لدى تنظيم الدولة أن تكفير الرجل لجبهة النصرة أو للجماعات الجهادية من علامات حسن إسلامه بعد توبته وصدعه بالحق ومن الأعمال الصالحة التي ينوّه بها.
ومن الاعتراضات التي كان يواجهها تنظيم الدولة أن جبهة النصرة ليست متحالفة مع الصحوات المرتدين لأنها لم توقع رسمياً مع الجبهة الإسلامية والجبهة الشامية ونحوها من التحالفات، ويرى تنظيم الدولة أن هذه شبهة يجب الرد عليها، وجوابهم عنها أن "تولي الكفار والمرتدين والتحالف معهم" لا يشترط أن يكون مكتوباً أو رسمياً، بل يكفي وجوده الفعلي على الأرض، كما يقول التنظيم في عرض جوابه على هذه الشبهة:
(الدخول في تحالف يكون بالتعاون معه على هدفه، وليس شرطاً أن توقّع الطائفة على ورقة عضوية للانضمام لهذا التحالف. وبعض أدعياء الجهاد يصرون على الكذب البواح إذ يدّعون أن "جبهة الجولاني لم تشترك في الصحوات")[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص51].
وقد وظّف تنظيم الدولة هاهنا ذات الأسلوب الذي أشرنا له سابقاً، وهو نفي الفارق بين من يريد تنظيم الدولة عرض وبرهنة ردته وبين من ردته عندهم، أو عند القارئ المفترض بالنسبة لهم، باتت شديدة الوضوح، ومن ذلك مثلاً أن تنظيم الدولة سبق أن أعلن أن "الجبهة الإسلامية مرتدّة" وقد سبق نقل نصوصه قريباً في هذا الشأن، ثم جاء لجبهة النصرة ونفى الفارق بين ردة الجبهة الإسلامية وردة جبهة النصرة، حيث يقول التنظيم:
(وأما الواقع اليوم، فإن حال جنود الجبهة الإسلامية لا يختلف عن حال جبهة الجولاني، فكلاهما يتنافسان في قتال الدولة الإسلامية دفاعاً عن الفصائل الممتنعة عن الشريعة)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص73].
وهاهنا يشير تنظيم الدولة إلى صورة أخرى من صور نواقض الإسلام التي ولغت فيها جبهة النصرة بحسب نظرهم، وهو "القتال نصرة للطوائف الممتنعة عن الشريعة"، وهذا الناقض من أغلظ نواقض الإسلام، إذ يترتب عليه من الآثار أشد مما يترتب على الردة المجردة والمنفردة.
وقد لاحظت أن الشواهد والتنبيهات في خطاب تنظيم الدولة على أن "جبهة النصرة" صحوات أغزر من نصوصهم عن غيرها من الفصائل، واستغرق عرض هذه القضية من تنظيم الدولة مساحة أكثر من غيرها، حتى أن تنظيم الدولة عقد لهذا الأمر سلسلة ملفات خاصة بلغت الآن ثلاثة ملفات نُشِرت على مدى ثلاثة أعداد من مجلتهم الرسمية دابق، بعنوان (حلفاء القاعدة في الشام) نُشِرت حلقاته تباعاً في العدد الثامن (ص7)، والعدد التاسع (ص6) والعدد العاشر (ص6). كما يفردون في مجلتهم الرسمية زاوية بعنوان (من أفواه الأعداء) وقد خصصوا بعض أعدادها لنقل نصوص من المقالات الغربية في السياسة الخارجية تستهدف أن توحي للقارئ وتقذف في روعه أن جبهة النصرة صحوات موالين للقوى الغربية وأن بينهم وبين الأمريكان صفقة ضد الشريعة، وكتبوا أيضاً مواد أخرى كلها تسير بهذا الاتجاه.
وهذا الاهتمام والغزارة في النصوص عن صحوية جبهة النصرة لا يمكن أن يكون حكماً عابراً، أو تفاوت اهتمام عشوائي، ولابد له من تفسير، وبحث في بواعثه ومحركاته، والذي يبدو لي الآن أن غرض تنظيم الدولة من تكثيف عرض وبرهنة صحوية جبهة النصرة تحقيق هدفين:
الهدف الأول: هو الحرص على استقطاب واستمالة الشريحة التي مازالت مترددة بين الجبهة والدولة، وهو خط من الغلاة لم يحسم أمره بعد، بحيث يتم إغلاق الشكوك والارتيابات لكل التيار الجهادي محل الخطاب في أن جبهة النصرة والقاعدة مرتدون، ذلك أنني لمست في خطاب تنظيم الدولة شعورهم أن جبهة النصرة هي التي تنافسهم في استقطاب كوادر التيار الجهادي التقليدي.
والهدف الثاني: تقوية قلوب جنود تنظيم الدولة في قتال جبهة النصرة وتنفيذ العمليات الانتحارية بين صفوفهم، والإمعان في تكفير المخالف واستحضار شناعاته لتقوية قلوب الأتباع في قتاله من مسالكهم التي أشاروا لها في موضع آخر في بعض وصايا أمرائهم وسيأتي بيانه بإذن الله.
وأما استقطاب الأعضاء المنتمين لجبهة النصرة فالذي يظهر لي الآن أن تنظيم الدولة لم يعد يعنيه هذا الأمر كثيراً، فقد طلّق مداراة أتباع جبهة النصرة منذ انطفاء لحظة الانقسام، ومن ذلك مثلاً قول التنظيم:
(أما بعد أن تركهم -أي جبهة الجولاني- من كان في قلبه حبة خردل من خير مِن الجنود، والتحقوا بصف الدولة الإسلامية، فلم يبق من جنودهم إلا أولئك الذين أُشرِبت قلوبهم عجل الإرجاء والحزبية، بل موالاة المرتدين ضد المسلمين)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص72].
فمثل هذا الثلب والقدح من تنظيم الدولة في جنود جبهة النصرة الحاليين، والحكم عليهم بأن قلوب جنود جبهة النصرة أشربت موالاة المرتدين ضد المسلمين، لا أظنه يعلنه من لايزال يأمل في استقطابهم والاستحواذ عليهم، وإنما يقوله من لبس لأمته لقتلهم.
ومن المؤكد أن القارئ لم يفته في هذا الشاهد الانتباه إلى احتراز تنظيم الدولة في الحد التاريخي لتكفير جبهة النصرة، فقبل إعلان تنظيم الدولة كانت جبهة النصرة غير مرتدة، وبعد إعلان تنظيم الدولة والانفصال بين الدولة والجبهة وانتهاء مرحلة هجرة بعض منسوبي النصرة للدولة، ابتدأت مرحلة الردة لدى النصرة، وصار كل من فيها مرتدين، باعتبارهم وقعوا في الناقض الثامن وهو تولي الكفار ضد المسلمين، بل "أُشرِبت قلوبهم موالاة المرتدين ضد المسلمين" على حد تعبير التنظيم.
هذه بعض الشواهد حول الأوصاف الكفرية التي وصف بها تنظيم الدولة جبهة النصرة، وسيأتي شواهد أخرى إضافية بإذن الله في سياقات أخرى.
-استباحة دماء وأموال مجاهدي "جيش الفتح":
جيش الفتح هو أحد مظاهر التكتلات والتوحدات بين بعض الفصائل المجاهدة في الشام، ومنطلقه من إدلب، ويضم جيش الفتح عدة فصائل منها (جبهة النصرة، أحرار الشام، جند الأقصى، جيش السنة، فيلق الشام، لواء الحق، أجناد الشام)، وقد صرّح تنظيم الدولة أن هذا التحالف بكل مكوناته هو صورة من صور "الصحوات" المرتدة، وأنه ممن يتولى الكافرين ويظاهرهم على المسلمين، وأنه يحكم بغير ما أنزل الله، ومن ذلك مثلاً:
يتحدث تنظيم الدولة عن "جيش الفتح" وأنه وقع في هذين الناقضين من نواقض الإسلام: تولي الكافرين والحكم بغير ما أنزل الله، فيقول:
(هذا "جيش الفتح" الذي تم تشكيله مؤخراً، والمدعوم من قبل طواغيت قطر وتركيا وآل سلول، والذي تغلّب مؤخراً على بعض المناطق من ولاية إدلب: فهل حكمها بالشريعة؟ أم أنهم ما يزالون ممتنعين عن الكثير من أحكام الشريعة..، وواقع ولايتي إدلب وحلب، وهما المنطقتان اللتان يسيطر عليهما تحالف الصحوات، أنها غابات وحشية تحكمها قوانين الفصائل..، وحتى لو حكموا في بعض المسائل بالشريعة، فما تزال كثير من الأحكام القطعية الظاهرة خارجة عن شريعتها)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص54-55]
ويوضح تنظيم الدولة بعض سياقات كون "جيش الفتح" جزء من الصحوات فيقول (ثالوث الردة، وهم تركيا وآل سلول وقطر، سرّبوا معونات إلى "جيش الفتح" وهو التحالف المشكل حديثاً من فصائل أدمنت معونات الطاغوت..)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص58].
ويشرح تنظيم الدولة في موضع آخر الآلية التي توزع بها معونات الطاغوت –كما يصفها- على جيش الفتح الذي يمثل أحد صور الصحوات، وكيف تصل المعونات إلى الفصائل المكونة لهذا الجيش، فيقول:
(طواغيت تركيا وقطر وآل سلول يدعمون فصائل "جيش الفتح" بالدعم المشروط..، ثم يوزع هذا الدعم بين كل الفصائل المشاركة في "جيش الفتح" بما فيها جبهة الجولاني)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص66].
وتحدثوا أيضاً عن هذا الدعم في مواضع أخرى.
حسناً، دعنا نسجل الآن هذه النتيجة، حيث أعلن تنظيم الدولة أن "جيش الفتح" أحد صور الصحوات، وأنه يتولى الكافرين ويتلقى دعمهم ويحكم بغير ما أنزل الله، وأن هذا الدعم الطاغوتي يصل لكل الفصائل المشاركة في جيش الفتح، وبعض الفصائل المشاركة في "جيش الفتح" سبق أن حكم عليها تنظيم الدولة بالردة بعينها مثل أحرار الشام وجبهة النصرة، كما سبق عرض شواهده، وهذه الشواهد تفيد تأكيداً جديداً على تلك الأحكام السابقة.
ونحن هاهنا إزاء حكم إضافي ضمني على الفصائل المشاركة في جيش الفتح، مثل "جند الأقصى"، فمادام أن تنظيم الدولة حكم على جيش الفتح بكل فصائله بأنه يتلقى الدعم من الطواغيت وأنه تغلب على إدلب وحكم بغير ما أنزل الله، فهذا يعني أن "جند الأقصى" بحسب قواعد تنظيم الدولة هو أحد فصائل "الصحوات".
وهذا الحكم طبعاً ينسحب أيضاً على بقية الفصائل المشاركة في جيش الفتح (جيش السنة، فيلق الشام، لواء الحق، أجناد الشام).
ومن الشخصيات القريبة من جيش الفتح د.عبد الله المحيسني، رئيس مركز دعاة الجهاد في سوريا، وله علاقة مشاركة مع جيش الفتح وعلاقة جيدة مع بقية الفصائل، وقد عُرِف من خلال مساعيه في حسم النزاع بين الفصائل بالمحكمة الشرعية المستقلة، وقد لفت انتباهي تصريح تنظيم الدولة بأن د.عبد الله المحيسني هو أيضاً من رؤوس الصحوات في الشام، كما يقول التنظيم (داعم الصحوات عبد الله المحيسني)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص59].
-استباحة دماء وأموال تنظيم القاعدة:
أفصح تنظيم الدولة مراراً عن اعتقاده أن تنظيم القاعدة وأميرها د.أيمن الظواهري وقعوا في نواقض الإسلام، وتحديداً الناقضين الأكثر دوراناً في خطاب تنظيم الدولة وهما: تولي الكافرين والحكم بغير ما أنزل الله.
يتحدث تنظيم الدولة في سياق عرض أن د.أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة وقع في هذين الناقضين "تولي الكفار" و "الحكم بغير ما أنزل الله"، فوالى الصليبيين والطواغيت والمرتدين والرافضة، وترك الحكم بالشريعة، فيقول:
(الظواهري تبنى سياسات جديدة معارضة لسياسات المجاهد الشيخ أسامة بن لادن، لذلك فإن الظواهري جعل أراضي الصليبيين في أمان، وجعل الطواغيت في أمان، وجعل طواغيت ما بعد الربيع العربي في أمان، وجعل طواغيت جماعة الإخوان في أمان، وجعل جيوش الردة في أمان، وجعل عوام الرافضة وهمجهم في أمان..، بل تجاوز الأمر ذلك إلى أن صارت المصلحة الظاهرة هي في ترك تطبيق الشريعة)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص67].
تحتوي هذه الإدانة على محاولة لإثبات ناقضين من نواقض الإسلام طبقاً لأدبيات تنظيم الدولة، وقاموسهم ونمط تفكيرهم، الأول أن د.أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة ظاهر الصليبيين والطواغيت وجيوشهم والمرتدين والبرلمانيين والرافضة، أي كل أنواع الكفار المعاصرين بحسب خطابهم، والناقض الثاني أنه ترك الحكم بما أنزل الله تحت ذريعة المصلحة.
وفي بيان رسمي لتنظيم الدولة يتلوه أبو محمد العدناني صرّح التنظيم بعدة نواقض للإسلام وقع فيها تنظيم القاعدة وأميرها د.الظواهري، منها عدم الكفر بالطاغوت، وعدم تكفير المشركين، وحاكمية الأكثرية بدلاً من الحكم بما أنزل الله، وموالاة النصارى وأهل الأوثان، كما يقول تنظيم الدولة:
(القاعدة انحرفت وتبدّلت وتغيّرت، إن الخلاف بين الدولة والقاعدة ليس على قتل فلان أو بيعة فلان أو قتال صحوات..، ولكن القضية قضية دين اعوجّ ومنهج انحرف، منهج استبدل الصدع بملة إبراهيم والكفر بالطاغوت والبراءة من أتباعه وجهادَهم؛ بمنهج يؤمن بالسلمية ويجري خلف الأكثرية، منهج يستحي من ذكر الجهاد والصدع بالتوحيد، ويستبدل ألفاظه بالثورة والشعبية والانتفاضة..، وأن الرافضة المشركين الأنجاس فيهم أقوال وهم موطن دعوة لا قتال، لقد أصبحت القاعدة تجري خلف ركب الأكثرية وتسمّيهم الأمة فتداهنهم على حساب الدين، وأصبح طاغوت الإخوان المحارب للمجاهدين الحاكم بغير شريعة الرحمن يُدعى له ويُترفَّق به، ويُوصف بأنه أمل الأمة وبطل من أبطالها..، وأصبح النصارى المحاربون وأهل الأوثان من السيخ والهندوس وغيرهم: شركاء الوطن؛ يجب العيش معهم فيه بسلام واستقرار ودعَة، كلا والله!) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: ما كان هذا منهجنا ولن يكون، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:11].
فتنظيم الدولة في هذا البيان الرسمي يؤكد قضية وقوع تنظيم القاعدة في تولي الوثنيين وأهل الكتاب المحاربين والتعايش معهم، وترك الكفر بالطاغوت، وتحكيم الأكثرية بدلاً من تحكيم الشريعة، وتعظيم الطواغيت الحاكمين بغير الشرع، وعدم تكفير المشركين، وواحد من هذه النواقض فقط مسوغ لتكفير تنظيم القاعدة، فكيف باجتماعها؟!
وثمة إشارة في هذا البيان لا أظنها إشارة عابرة، ذلك أن العدناني بعد أن فرغ من عرض هذه النواقض التي وقع فيها تنظيم القاعدة، والتنديد بها وبيان أنهم سيخالفونها قال:
(هذا منهجنا الذي لن نحيد عنه إن شاء الله، حتى ولو قاتلتنا القاعدة عليه)[ أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: ما كان هذا منهجنا ولن يكون، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:14].
والحقيقة أن الإشارة للاستعداد لقتال "القاعدة" باعتبار وقوعها في نواقض الإسلام وردتها وكفرها يبعُد أن يُحمَل على القتال بين القاعدة والدولة في الشام، لأن هذا سبق له أحداث ووقائع في الشام أصلاً، فإذا كان ذلك كذلك، فالذي أتوقّعه أن هذه الإشارة من تنظيم الدولة إنما هي تمهيد لإعلان مقاتلة "تنظيم القاعدة" في كل بلدان العالم التي سيصلونها، أو التي يكون لتنظيم القاعدة فرع فيها.
ومما يعزز أن هذه الإشارة هي تمهيد لقتال تنظيم القاعدة في كل فروعه في العالم أن تنظيم الدولة بعد هذه الإشارة ببضعة أسابيع أصدر بياناً جديداً تضمن رسالة تهديدية لفروع القاعدة في العالم لكي تحدد موقفها وإلا فإنها ستدخل في هذا الحكم، ففي بيان رسمي لتنظيم الدولة ذكروا فيه لمز د.الظواهري لهم بأنهم خوارج أحفاد ابن ملجم، ثم قالوا:
(نُطالب جميع أفرع القاعدة في كل الأقاليم ببيانٍ رسميٍّ وموقف واضح صريح: ما هو اعتقادكُم في منهج الدولة الإسلامية؟ وما هو حكمكم عليها؟ هل هيَ من الخوارج الحروريّة بل أشَرّ؟ تنافق الناسَ وتستخدم التقيّة وتُقاتل لأجل الحُكم والمناصِب وحالُها مع قادة الجهاد كحال ابن مُلجِم؟ وأنَّ منهجَها ظلامي واجب على المسلمين حربه واستئصاله من الشّام؟ بياناً تُكتبُ فيهِ شهادتكُم..، واعلَموا أنَّ صمتكم كلام).[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: عذراً أمير القاعدة، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة:29].
هذا يعني أن فروع تنظيم القاعدة في العالم ليس لها أمام هذا المطالبة التهديدية من تنظيم الدولة إلا ثلاثة أحوال: أن تعارض موقف د.الظواهري علناً فتسلم، أو أن تؤيد موقف الظواهري فينسحب عليها الحكم بالردة، أو أن تصمت فلا تصرح بموافقة ولا مخالفة، وفي هذه الحالة الثالثة فإن تنظيم الدولة لم يعذر الصامت، بل ألحق الصامت بالموقف الرسمي للقاعدة، ونص صراحة بلغة فيها شيء من الإنذار الاستعلائي بقوله "واعلموا أن صمتكم كلام"! أي أن من صمت من فروع القاعدة في العالم فإن تنظيم الدولة سيعامله معاملة المرتد طبقاً لنواقض الإسلام التي ذكر أن د.الظواهري أمير القاعدة وقع فيها، أي سيعاملهم معاملة من ظاهر الكفار على المسلمين وحكم بغير ما أنزل الله.
وقد أكثر تنظيم الدولة من الإشارة إلى أن منهج د.أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة يؤدي إلى تمكين الكفار والطواغيت وموالاتهم وعدم البراءة منهم، والحكم بغير ما أنزل الله، ومن نماذج هذه الإشارات:
في شهادة لأحد منسوبيهم نشروها في مجلتهم الرسمية يقول فيها (أوقع الظواهري الكثير من الناس في حبائل فكره المعوج المضاد للجهاد وحمل السلاح، ودعوته إلى منهج السلمية واتباع الحاضنة الشعبية، والتي أدت إلى تولي فراعنة جدد لبلاد الكنانة وغيرها من البلدان)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص51]
وفي ذات هذه الشهادة أيضاً (ممارسين سياسة جديدة يدعو إليها الظواهري ومن هم على شاكلته..، فلم يعد يرى الحق من الباطل، فأصبح يثنى على الطاغوت ويدعى له، ويذم الحق وأهله، مدمّراً بذلك تنظيم القاعدة) [مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص51].
وذكر هذا المنتسب لتنظيم الدولة أنه كان مبايعاً للدكتور الظواهري أمير القاعدة إلا أن البيعة انتقضت لأن الظواهري يحكم بغير ما أنزل الله ولأسباب مماثلة، كما يقول في شهادته (كنت مبايعاً للدكتور الظواهري، ولكن لانتقاض شروط البيعة..، أما الظواهري فبرفضه لإقامة الأحكام الشرعية، بحجج واهية كالمصلحة المزعومة..) [مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص53].
وقد ذكر هذا الشاهد –أيضاً- أن القاعدة لا تنكر الحكم بالطاغوت "الجرقا" (العدد6ص44) وأن القاعدة تعمل بالمصلحة الشرعية في نواقض التوحيد (العدد6ص45).
وفي تعليق آخر لتنظيم الدولة ينقلون فيها شهادة أخرى لأحد منتسبيهم يذكرون فيها أن الظواهري سبق أن أمر الجولاني بالالتحاق بالمرتدين، والأمر بالانضمام للمرتدين ردة في ذاتها، حيث يقول التنظيم في نقل هذه الشهادة (الظواهري أمر الجولاني بالانضمام إلى الجبهة الإسلامية المرتدة)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص7].
وهذه الأمور التي ينسبونها للدكتور الظواهري أمير تنظيم القاعدة كلها تقريباً تدور حول هذين الناقضين من نواقض الإسلام: تولي الكفار، والحكم بغير ما أنزل الله.
وكثرة هذه الإشارات تدل على إرادة جادة وواعية لدى تنظيم الدولة لحسم الاعتقاد لدى شريحته محل الخطاب بأن تنظيم القاعدة تنظيم مرتد خارج عن الإسلام مباح الدم والمال.
-استباحة دماء وأموال طالبان والملا عمر:
طالبان حركة جهادية معروفة ظهرت في أفغانستان عام 1994م، وحكمت كابول عام 1996م، ثم شنّت الولايات المتحدة الأمريكية الغزو عليها عام 2001م، في أحداث مشهورة ذائعة، وانسحبت الحركة إلى مواقع محدودة، ثم سعت لاستعادة المناطق وتقع لها بعض الاشتباكات، وتقوم الحركة ببعض الأدوار السياسية الدبلوماسية حالياً.
وقد نشر تنظيم الدولة أن طالبان وقعت في ناقضين من نواقض الإسلام، وهما تولي الكافرين والحكم بغير ما أنزل الله.
يصف التنظيم موالاة طالبان للطواغيت بقوله (الملا عمر الذي دعا لحمد وتميم آل ثاني، ونصح "الحكام المسلمين" الطواغيت، بلسانه ولسان إمارته..)[مجلة دابق، العدد السادس، ، ص24]
وعرض تنظيم الدولة مشهد افتتاح المكتب السياسي لطالبان في الدوحة وعلّق قائلاً (طالبان تحت ظلال الطواغيت)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص62].
وفي شهادة لأحد منسوبيهم أوردها التنظيم فيها أن الملا عمر أمير طالبان يحترم المواثيق الطاغوتية ويتبنى الوطنية والقومية الوثنية، كما ورد فيها (أصدرت مجلة الصمود الناطقة بالعربية على لسان الأمير الملا محمد عمر بياناً يخاطب الأمة بمناسبة عيد الفطر 1433هـ..، وينادي بلهجة وطنية قومية، وكذلك احترام المواثيق الدولية والحدود)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص46].
والحقيقة أن وصف الملا عمر أمير طالبان بأن قتالهم هو قتال وطني وقومي، وهذا القتال رايته كفرية عندهم، فإن هذا كثير في الخطاب الرسمي للتنظيم.[انظر مثلاً: مجلة دابق، العدد السادس، ص24-25].
وفي ذات هذه الشهادة عن "القاعدة في وزيرستان" ينقل شاهدهم أن الأحكام المطبقة ليست هي أحكام الشريعة بل الأحكام الجاهلية الطاغوتية كما ورد في مجلتهم (وللأسف الشديد فقد كانت الأحكام العشائرية هي السائدة، تَسوسُ القومَ أصحابَ الأرض، على حساب الأحكام الشرعية)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص43]
وفي ربيع الثاني 1436هـ/يناير 2015م أعلن تنظيم الدولة تمدده إلى أفغانستان وإنشاء "ولاية خراسان" وعيّن عليها حافظ سعيد خان والياً، ونائبه أبا طلحة عبد الرؤوف خادم، ثم بعد أسبوعين بالضبط من هذا الإعلان قُتِل عبد الرؤوف خادم أبو طلحة هذا، وكان قبل الالتحاق بتنظيم الدولة زعيماً في حركة طالبان، فنشر تنظيم الدولة ترجمة تفخيمية له ذكروا فيها شيئاً من سيرته وعرضوا فيها بعض المثالب والطعون في عقيدة طالبان، حيث يقول تنظيم الدولة:
(بعد أن أفرج عن أبي طلحة عبد الرؤوف خادم من سجنه في كابل التحق مجدداً بحركة طالبان وأصبح عضواً في مجلس شوراهم، وتم تعيينه والياً على أربع عشرة ولاية أفغانية، وكان نشيطاً في الدعوة إلى الله، يدعو الناس إلى عقيدة التوحيد، ونتيجةً لذلك تم فصله لاحقاً من منصبه كوالٍ باعتبار أن عقيدة التوحيد تتعارض مع العقيدة الديوبندية التي تتبناها أغلبية القيادة الطالبانية..)[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص30].
هذه طبعاً رواية تنظيم الدولة، وهي أن عبد الرؤوف خادم تم فصله من حركة طالبان برغم أنه ذو وزن فيهم بسبب دعوته إلى عقيدة التوحيد، وأن عقيدة التوحيد تتعارض مع عقيدة طالبان، بينما متابعون آخرون ذكروا أنه سبق أن ثار نزاع بين عبد الرؤوف خادم وقيادة طالبان بسبب تهميشه وتقليص مناصبه، فانشق عنهم وبدأ بتشكيل كتلة جديدة واتصل بتنظيم الدولة واتفق معهم أن يكون نائباً في الولاية المزمع إنشاؤها وكان أكثرهم فاعلية في استقطاب الأعضاء لمبايعة تنظيم الدولة، ونحن لا يهمنا هاهنا البتة تحقيق بواعث أبي طلحة عبد الرؤوف خادم في علاقته مع طالبان، وإنما يعنينا هنا فهم موقف تنظيم الدولة من طالبان، وأنهم يعرضونهم باعتبار أن "عقيدة طالبان تتصادم مع عقيدة التوحيد".
وينقل تنظيم الدولة في هذه الشهادة أيضاً أن أفراد طالبان واقعون في الشركيات، وأن حركة طالبان لا تعتني بتصحيح ذلك، وأن هذه الحالة ماتزال موجودة إلى الآن، كما ورد في هذه الشهادة (كنا نرى جماعة الطلبة في أفغانستان مقصّرين في تعليم أفرادهم التوحيد، ووقوع الكثير منهم في مسائل شركية، كالطواف بالقبور والتمائم والتعويذات، والتي مازالت موجودة إلى الآن)[مجلة دابق، العدد السادس، ربيع الأول، 1436هـ، ص41].
ولما أعلن تنظيم الدولة ولايته في أفغانستان وكان بعض المائلين لهم في أفغانستان يرغب في بيعتهم لكنه استشكل أن يبايعهم وثمة إمارة وبيعة للملا عمر في نفس البلد، فبعثوا لمجلة دابق بالسؤال، فكتب أحد منسوبي التنظيم جواباً ضمّنه ما يراه تأصيلاً شرعياً لانتقاض بيعة وإمارة الملا عمر، ووجوب بيعة من يرونه الخليفة أبا بكر البغدادي في أفغانستان، وسمى هذا الجواب "الفتوى الخراسانية"، ونُشِر في مجلتهم الرسمية دابق في العدد العاشر منها، وجعل المُجيبُ الاعتبارَ الأساس في انتقاض هذه البيعة عدة أمور منها: أن الملا عمر ليس قرشي والبغدادي قرشي ومن شرط الخلافة القرشية، وأعاد المجيبُ الكلامَ حول أهمية هذا الشرط، وذكر أيضاً أن إمارة الملا عمر قُطْريّة في بلد خاص وإمامة البغدادي عامة لكل الأرض، وأن إمارة الملا عمر إمارة اضطرارية مؤقتة لغياب الإمامة العظمى، وأشار المجيب إشارة عابرة إلى أن بيانات الملا عمر التي يصرح فيها بقُطريّة مشروعهم تعارض البراءة من المشركين والتصريح بعداوتهم وجهادهم.
والحقيقة أنه بالرغم من أن المجلة نشرت هذا الجواب إلا أن الفريق العلمي المشرف على تحرير المجلة لم يرُق له هذا الجواب تماماً، حيث رآه تقصيراً في عرض الأولويات إذ تحدث المُجيب بشكل مركزي عن شرط القرشية وهو شرط فروعي، وترك القضايا الكبرى وهي ردة طالبان والملا عمر ووقوعهم في نواقض الإسلام، ولذلك فإن الفريق المشرف على التحرير علّق على موضع الإشارة إلى البراءة من المشركين والتصريح بعداوتهم بقوله (الحقيقة أن هذه القضايا أعظم أهمية من كون إمارة الملا عمر قُطريّة أو غير قرشية)، ثم أحالوا القارئ إلى مصدر إضافي لتوضيح هذه النواقض الكبرى لإمارة الملا عمر فقالوا (للقراءة الإضافية انظر مقالة: فاضحة الشام وكسر الأصنام)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص20].
لا أخفي القارئ الفاضل أنني تلهفت كثيراً للاطلاع على هذه المقالة التي أحالنا إليها تنظيم الدولة للاطلاع على هذه النواقض الكبرى في إمارة الملا عمر وطالبان التي يرونها، وقد رجعت إلى هذه المقالة المحال لها، والحقيقة أنني لم أجد فيها معنى جديداً، وإنما زيادة تفصيل لما سبق أن عرضه التنظيم عن ردة وكفر طالبان وتنظيم القاعدة، حيث اعتبر كاتب المقالة المُحال لها أن أمراء طالبان يتولون المرتدين وأن جنود طالبان مشركون شركاً أكبر، ويحكمون بغير ما أنزل الله، كما يقول الكاتب:
(وأكثر أمرائهم –أي طالبان- لهم علاقات مع طوائف التجسس المرتدة في باكستان (الـ "آي إس آي")، وكثير من جنودهم على شرك أكبر مخرج من الملة بدعاء الأموات والاستشفاع بهم والنذر والذبح لهم والسجود لقبورهم، وكثير من طوائفهم يحكمون الآن بالفصول القبلية دون الأحكام الشرعية في مناطق يدّعون فيها التمكين..)[مقالة "فاضحة الشام"، المحال لها في مجلة دابق، العدد العاشر، ص20].
واعتبر الكاتب أن بعض أنصار تنظيم الدولة يخطئون حين ينتقدون إمارة وبيعة الملا عمر وطالبان بمسألة القرشية والقُطريّة وموت الأمير باعتبارها مسائل فقهية فروعية، وأن الأصل والأساس في انتقاض بيعة وإمارة الملا عمر وطالبان هو ردتهم وكفرهم وخروجهم من الإسلام، وقاس الكاتب خطأ بعض أنصار تنظيم الدولة هاهنا على رجل مسلم يريد أن يتزوج امرأة مرتدة ولها شبهة رضاع به، فأخذ المفتي يبحث شبهة الرضاع وترك الأعظم وهو كون المرأة مرتدة أصلاً، كما يقول الكاتب:
(من الخطأ المكرر بين أنصار الدولة الإسلامية أن يطعنوا في شرعية "إمارة" طالبان بأمور فرعية ويتركون الأصول! فيذكرون حقا أن الملا عمر غير قرشي..، وأن الملا عمر لم يدّعِ الإمامة العظمى..، وأنه مقتول والكلام المنسوب إليه مكذوب عليه..، فهذه الأمور كلها فرعية، كما لو قيل: هل يجوز للرجل أن يتزوج امرأة مرتدة من قريته علما أن أمه تشهد أنها قد أرضعت امرأة من القرية خمس رضعات، ولا تعرف إن كانت هي الرضيعة أو غيرها، ولا تذكر إن كانت الرضعات مشبعات أو لا، فيتكلم المفتي ويدخل في مسائل فرعية حول عدد الرضعات والشك والظن وغلبة الظن واليقين وشهادة المرأة وشهادة الأم وصفات القرية وصفات الرضاعة إلخ... ويترك أهم ما في السؤال وهو أن المرأة مرتدة!) [مقالة "فاضحة الشام"، المحال لها في مجلة دابق، العدد العاشر، ص20].
ثم قاس الكاتب استعدادهم لمقاتلة تنظيم القاعدة وطالبان في أفغانستان على قتال تنظيم الدولة للصحوات، كما يقول الكاتب:
(لا تَعارُض بين قتال الصليبيين وقتال الموالين للطواغيت، فكما أن الدولة الإسلامية قاتلت الصليبيين في العراق وقاتلت الصحوات..، كذلك ستقاتل الصليبيين في خراسان وتقاتل طوائف طالبان) [مقالة "فاضحة الشام"، المحال لها في مجلة دابق، العدد العاشر، ص20].
ومع أن تنظيم الدولة أشار مراراً إلى احتمال موت مبكر وغير معلن للملا عمر، إلا أنه استدرك أنه حتى على فرض موته "فإن الأقوال المنسوبة إليه أخيراً لها أصل في رسائله القديمة ولكن ليس بالدرجة التي نراها اليوم"[مجلة دابق، العدد السادس، ص25].
-هل بقي فصيل مجاهد في الشام يُستثنى من الحكم بالردة واستباحة الدم والمال؟
مع كثرة أحكام تنظيم الدولة بكفر المجاهدين في الشام وردتهم واستباحة دمائهم وأموالهم إلا أنها أحكام على أعيان من الفصائل والتكتلات، فلذا قد يتساءل الباحث: هل هناك فصائل جهادية في الشام خارجة عن هذه الأحكام؟ هل هناك مشروعات جهادية في الشام استطاعت النجاة من نواقض الإسلام طبقاً لرأي تنظيم الدولة؟
الحقيقة أن تنظيم الدولة لم يدع الأمر للاستنتاج والتوقع، بل أعلن أحكاماً عامة تشمل "كل" المشروعات الجهادية في الشام، وكل الفصائل في الشام، وأن كل المجاهدين في الشام من غير تنظيم الدولة واقعون إما في تولي الطواغيت أو الحكم بالطاغوت، أو يجمعونهما، ولهذا شواهد متعددة وإشارات كثيرة، ومن ذلك مثلاً أن تنظيم الدولة يحصر كل المجاهدين المخالفين له في الشام في أحد مشروعين: إما مشروع علماني كافر أو مشروع استخباراتي مرتد، كما يقول التنظيم في بيان رسمي يتلوه أبو محمد العدناني:
(إن مشروعنا هذا يقابله مشروعان، الأول : مشروع دولة مدنية ديمقراطية، مشروع علماني تدعمه جميع ملل الكفر قاطبة..، ونقول لأهل هذا المشروع.. لتعلموا أن بينكم وبين دولة لا تحكم بشرع الله في الشام بحار من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء..، وأما المشروع الثاني: فمشروع دولة محلية وطنية تسمى إسلامية، تدعمها أموال وفتاوى علماء آل سلول وحكومات الخليج، وتهندسُ مشروعَها المخابراتُ، ولا ضير أن تكون حكومتها طويلة اللحى قصيرة الثوب..، إن هذا المشروع ظاهرُه إسلامي، وحقيقته مشروع دولة وطنية، تخضع للطواغيت في الغرب وتتبع لهم في الشرق) [أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: لن يضروكم إلا أذى، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 22].
والنتيجة التي نستخلصها من هذا التوصيف الذي يذكره تنظيم الدولة في بيانه الرسمي أن كل المشروعات الجهادية في الشام هي مشروعات ردة وكفر وخروج عن الإسلام، إما جهاد علماني صريح يدعمه الغرب الكافر، أو جهاد علماني غير صريح يُظهِر اللحية ويضمر حكم الاستخبارات المرتدة، وهذا توصيف شمولي لا يخرج منه أي مشروع جهادي في الشام.
وهذا التقسيم الثنائي لأصناف الدول المرتدة إلى: دولة ديمقراطية صريحة في علمانيتها، ودولة وطنية تظهر الحكم بالشريعة وتبطن الردة عن الإسلام؛ ليس توصيفاً عابراً، بل رأيته يتكرر في الخطاب الرسمي للتنظيم، ففي بيان رسمي آخر للتنظيم يتلوه أبو محمد العدناني يقول:
(إن أمريكا واليهود يحاربونكم بورقتين، إذا ما احترقتا ستجدون أنفسكم في مواجهة اليهود والصليبين بلا وكلاء؛ الأولى: دولة مدينة ديمقراطية على غرار دول الطواغيت في بلاد المسلمين، والثانية: دولة وطنية تسمى إسلامية على غرار مملكة خائن الحرمين وآل سلول)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: والرائد لا يكذب أهله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة:5].
وهكذا عرضت المجلة الرسمية للتنظيم "دابق" لهذين النمطين مراراً، انظر مثلاً [مجلة دابق، العدد العاشر، ص58].
وقد اعترض عليهم بعض المعترضين بأن الفصائل الجهادية التي تسمونها صحوات لديها هيئات ومحاكم شرعية، فيجيب تنظيم الدولة بأن كل الفصائل تحكم بالطاغوت، حتى من لديها هيئات شرعية، كما يقول التنظيم (أراضٍ فيها هيئات يطلقون عليها اسم "هيئات شرعية" للإيهام بشرعيتها، بينما هي في الحقيقة هيئات مفتونة لا تحكم بالشريعة إلا في أحكام قليلة..)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص52].
والخلاصة من هذا التوصيف أن تنظيم الدولة يعتقد أن كل الهيئات الشرعية والمحاكم الشرعية التي أقامتها الفصائل الجهادية في الشام أنها كلها تحكم بالطاغوت، بلا استثناء.
ويوضح تنظيم الدولة صراحة وبكل وضوح وشفافية مع القارئ أنه لا يوجد في الشام أي جماعة جهادية سلمت من هذين الناقضين من نواقض الإسلام، وهما تولي الكفار ومظاهرتهم على المسلمين، والحكم بغير ما أنزل الله، فكل الجماعات والفصائل الجهادية في الشام إما واقعة في أحد هذين الناقضين أو تجمعهما، كما يقول التنظيم على سبيل الفرض الجدلي:
(لو كان يوجد طائفة تحكم بالشريعة، وهي خارج تحالف الصحوات، منعزلة عنه متبرئة منه، تحمل العداوة تجاهه..، وقاتلت الدولة الإسلامية زاعمة أنها دولة جائرة، فإن هذه الطائفة حكمها من جنس حكم البغاة، ولكن هذه حالة افتراضية لا توجد في الشام)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص54].
والمهم في الأمر أن تنظيم الدولة يعتقد أن كل الفصائل الجهادية وكل المشروعات الجهادية في الشام والغة في نواقض الإسلام، إما في تولي الطواغيت، أو في الحكم بالطاغوت، ولا يستثنى منها أية جماعة جهادية.
أي باختصار شديد: بحسب اعتقاد تنظيم الدولة فإن كل المجاهدين في الشام كفار.
-استباحة دماء وأموال ثوار ومجاهدي ليبيا:
أعرف أن بعض القراء غير متابعين لتطورات الأحداث الأخيرة في ليبيا، لذلك سأضطر لعرض موجز مكثف للمشهد الإجمالي القتالي والسياسي في ليبيا، ثم سنستعرض سوياً مواقف تنظيم الدولة.
في منتصف فبراير 2011م اندلعت الثورة في ليبيا، وتشكّلت خلال ذلك كتائب للثوار كثيرة تتوزع في مدن ليبيا، وما زالت كتائب الثورة المنتشرة تجاهد النظام حتى أسقطته، وقُتل القذافي في أكتوبر 2011م، ونشأت آنذاك أول مؤسسة سياسية للثوار وهي "المجلس الوطني الانتقالي"، ثم سلّم بدوره السلطة إلى "المؤتمر الوطني العام" في أغسطس 2012م، ثم تم تشكيل "مجلس النواب الليبي" في أغسطس 2014م ليكون خلفاً للمؤتمر الوطني العام، ثم في نوفمبر 2014م قضت "المحكمة العليا" في ليبيا بحل مجلس النواب، فرفض مجلس النواب قرار الحل، وعاد "المؤتمر الوطني العام" للحضور، ودخلت ليبيا في أزمة سياسية ما تزال عالقة انقسمت فيها إلى سلطتين، سلطة موالية للمؤتمر الوطني العام في العاصمة طرابلس، وسلطة موالية لمجلس النواب المنحل يعترف بها الغرب ومركزها طبرق.
وخلال الثورة وما بعدها بدأت كتائب الثورة المنتشرة في المدن تلتحم في تكتلات أكبر وأعم، ومنها: قوات (ثوار فجر ليبيا) وهو تكتل يضم كتيبة درع ليبيا الوسطى وغرفة ثوار ليبيا في طرابلس وثوار مصراتة وغيرها، ومنها كذلك: قوات (مجلس شورى ثوار بنغازي) الذي يجمع عدة فصائل مثل أنصار الشريعة ودرع ليبيا-1 وكتيبة السحاتي وكتيبة شهداء 17 فبراير، ومنها أيضاً: (مجلس شورى ثوار درنة) وهو تحالف يضم عدة كتائب ركنها الأساس هو "كتيبة شهداء أبو سليم".
ومن أقدم الجماعات الجهادية المشهورة في ليبيا (الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا) ولها تاريخ طويل قبل الثورة، حيث تأسست في التسعينات مكونة من الشباب الليبي الذي قاتل في أفغانستان، وسُجِن أكثرهم، ثم بعد سلسلة حوار مع السلطة أفرِج عنهم على دفعات، ولما قامت الثورة شاركت كوادر هذه الجماعة في الثورة بسبب خبراتهم القتالية، بل إن أمير "الجماعة الليبية المقاتلة" عبد الحكيم بلحاج هو الذي كان قائد المجلس العسكري في طرابلس أثناء الثورة حتى تحريرها، وهو ممن قاتل في أفغانستان، وسُجن في ليبيا ست سنوات منذ 2004م إلى 2010م .
وكل هذه الكتائب والتكتلات ذات طابع إسلامي، وكتلتها الصلبة مرتبطة بهويات جهادية وحركية معروفة ولسنا في موضع تفصيلها وتقييمها.
وبتاريخ مايو 2014م أعلن اللواء خليفة حفتر –الموالي لمجلس النواب الليبي المنحل- بدء حملة أسموها "عملية الكرامة"، والتي أعلن أن هدفها تطهير البلاد من المتطرفين والجماعات المسلحة، فيما رأى مخالفوه أن هذه العملية هي محاولة انقلابية على الثورة من فلول النظام السابق، وأنها محاولة لتكرار ما وقع في دول الربيع العربي من طرف المهندسين التقليديين للثورة المضادة.
وقد نشب القتال فعلاً بين اللواء حفتر، ومعه قوى تابعة يرى خصومهم أنهم من فلول النظام مثل (كتيبة القعقاع والصواعق وقاعدة بنينة)، وبين هؤلاء الثوار، وعلى رأسهم ثوار "فجر ليبيا" و"مجلس شورى ثوار بنغازي"، فأعلن مفتي الديار الليبية الشيخ د.الصادق الغرياني مساندته لقوى الثورة ضد اللواء خليفة حفتر والقوى التي معه، ونشر مقالاً مشهوراً في موقعه الشخصي (التناصح) وجاء في المقال:
(أحيّي ثوارَ فجر ليبيا الشجعان، وثوار شورى بنغازي الأبطال..، والقتال الجاري بين القعقاع والصواعق وقوات حفتر من جهة، وبين ثوار "فجر ليبيا" و"مجلس شورى ثوار بنغازي" من جهةٍ أخرى؛ ليس صراعًا على السلطة، ولا هو تناحرٌ كما تسميه الحكومة..، وإنّما هو قتالٌ بين الثوار، وبين أعداءِ الثورة مِن الانقلابيين في بنغازي وبقايا النظام السابق من كتائب القذافي..)[د.الصادق الغرياني، لا تسووا بين الفريقين في ميدان القتال، أغسطس 2014م].
وفي ثنايا هذه الأحداث كان تنظيم الدولة يسعى ليؤسس له وجوداً في ليبيا، واستقطب موالين له، وبدأ يحاول فرض سيطرته على هذه المناطق المحررة من نظام القذافي، مبتدئاً بمدينة درنة (شمال شرق ليبيا)، فحدثت بينه وبين الثوار الموجودين مسبقاً في هذه المناطق مواجهات، فبدأ تنظيم الدولة يعلن أن الجماعات الجهادية في ليبيا هي أحد صور "الصحوات" المرتدة، وبدأ أنصار تنظيم الدولة في ليبيا ينشرون على شبكات التواصل مقالات وموضوعات لإثبات أن مجاهدي درنة "صحوات"، ويستشهدون على ذلك بصور ونقول يحتجون بها على أن المجاهدين لهم علاقات مع الطواغيت فهم موالون لهم وبالتالي هم "صحوات".
يقول تنظيم الدولة مبيّناً أن قوات "فجر ليبيا" ومجاهدو "الجماعة الإسلامية المقاتلة" الذين كانوا مشاركين في الجهاد الأفغاني، أنهم كلهم ارتدوا عن الإسلام، بسبب علاقتهم بالديمقراطيين، كما يقول التنظيم: (بعض الفصائل المنتمية لقوات "فجر ليبيا" هم أدعياء جهاد سابقين، بما فيهم الإسلامي الديمقراطي عبد الحكيم بلحاج وأعضاء آخرين سابقين من "الجماعة الإسلامية المقاتلة" بليبيا، أدعياء الجهاد السابقين هؤلاء ارتدوا، والتحقوا بدين الديمقراطية)[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص26].
بل يعتبر تنظيم الدولة أن "ثوار فجر ليبيا" نموذج للردة يقاس عليهم بغرض التشنيع، حتى أن تنظيم الدولة يعيّر جبهة النصرة بأنها ستصبح مثل "ثوار فجر ليبيا"، وهذا هو نهاية طريق الردة عندهم، كما يقول التنظيم:
(جبهة الجولاني وأشباهها سيجدون أنفسهم، عاجلاً أو آجلاً، بين أحد خيارين: إما أن يندمجوا في كيان واحد مع الفصائل المختلفة المدعومة من قبل الطواغيت بأسلوب مشابه لـ "فجر ليبيا"، أو ينتظروا الغدر على أيدي حلفائهم)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص64].
ويشرح تنظيم الدولة كيف أن ظهورهم في ليبيا مِنّة من الله سبحانه إنقاذاً لأهل الإسلام لما اجتمعت فصائل الثوار على الردة والخروج من الدين فيقول:
(مع تصاعد حدة الأوضاع واستمرار فصائل الردة في قتال بعضها، فإن الله سبحانه يسّر ظهور "الدولة الإسلامية" في المشهد الليبي) [مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص26].
وبعد أن عرض تنظيم الدولة لواقع القتال بين كتائب الثوار واللواء خليفة حفتر، ذكر أن تنظيم الدولة سيقاتل الفريقين كليهما لأنهما كليهما مرتدّان عن الإسلام:
(تحت راية الخلافة المجاهدون في ليبيا كثّفوا حملتهم ضد كلا فريقي الردة، بعد أن خانت هذه الفصائل دينها وأمتها، ولا يحتاج المجاهدون أن يميّزوا بين أولئك الذين خانوا الإسلام بتبني كفر العلمانية، وأولئك الذين خانوا الإسلام بتبني كفر الديمقراطية، ذلك أن كلا الفصيلين دخلوا معسكر الكفر، قال الله "وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً")[مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص26].
وعرض تنظيم الدولة لعبد الحكيم بلحاج أمير "الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا"، وقائد المجلس العسكري بطرابلس أثناء الثورة، وقالوا عنه (المرتد عبد الحكيم بلحاج) [مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص25].
وبما أن العالم اليوم كله –بالنسبة لتنظيم الدولة- هو أرض كفر وردة إلا مناطق نفوذهم؛ فقد اقترح التنظيم على أولئك الذين لا يستطيعون الهجرة إلى أرض الإسلام في الشام –أي مناطق نفوذ التنظيم في الشام- أن يهاجروا إلى مساحات نفوذهم الجديدة في ليبيا كما يقول التنظيم: (ليبيا اليوم أصبحت أرضاً مثالية للهجرة لأولئك الذين يواجهون صعوبة في أن يجدوا طريقهم إلى الشام، وخصوصاً لإخواننا وأخواتنا في أفريقيا) [مجلة دابق، العدد الثامن، جمادى الآخرة، 1436هـ، ص26].
وختموا هذا العرض بدعاء جاء من ضمنه سؤالهم الله أن يضع المرتدين تحت أقدامهم.
وفي بيان رسمي لتنظيم الدولة يتلوه العدناني يوجّه فيه الخطاب إلى الثوار في ليبيا ويسميهم "صحوات" ويهددهم بالقتل والتنكيل، جامعاً في هذا الخطاب تهديد التيار الجهادي في أفغانسان وتهديد الثوار في ليبيا، كليهما، قائلاً:
(ألم تعتبروا أيها الفصائل والصحوات؟ ألم تعتبروا بقتال سلفكم للدولة الاسلامية منذ عشر سنين؟ وأين الفصائل التي قاتلت الدولة؟ وأين الصحوات؟ ألم تعتبروا يا فصائل ليبيا؟ ألم تعتبروا يا صحوات درنه؟ ألم تعتبروا يا فصائل خرسان؟ مالكم ولقتال الدولة؟ أيشتهي أحدكم حفر قبره بيده؟ أم يرغب بقطع رأسه أو هدم بيته؟ .. أتظنون أنكم أشد بأساً من صحوات العراق؟ .. ألا تتعظون بفصائل الشام وصحواتها؟ .. كفوا عن قتال الدولة أيها الفصائل فى كل مكان وتوبوا لربكم.. أما من يُصّر على قتالنا: فلا يندبنّ بعدها ولا يلطمنّ, ولا يلومنّ إلا نفسه)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: يا قومنا أجيبوا داعي الله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 17].
وكان قد أعلن تنظيم الدولة عن تنفيذه فعلاً لبعض العمليات في ليبيا ضد من يسميهم "المرتدين"، ونشبت بين تنظيم الدولة وبين كتائب الثوار قتال ودماء، وخصوصاً في درنة، حيث أعلن "مجلس شورى ثوار درنة" أن تنظيم الدولة اغتال عدداً من قياداته (ناصر العكر، وسالم دربي)، ثم تظاهر الأهالي ضد تنظيم الدولة، وحمل عليهم "مجلس شورى ثوار درنة" فأخرجهم من المدينة في أيام معدودة بصورة لفتت انتباه المتابعين والمعلقين بخصوص ما يشاع عن قوة وصلابة تنظيم الدولة.
وأعلن "مجلس شورى ثوار درنة" عن تسمية المعركة مع تنظيم الدولة "معركة النهروان" إشارة إلى الاقتداء بالصحابة في قتال الخوارج، وأصدروا في هذا بيانات متعددة منها على سبيل المثال بيان أصدره مجلس شورى درنة بعنوان "التحذير الأخير لغلاة التكفير"، وكان من أسباب صدور هذا البيان الأحداث التي جرت بمسجد فاطمة الزهراء في درنة، وهو بيان منشور على الشبكة، وتضمّن هذا البيان الرد على تنظيم الدولة بأنهم يبالغون في مناقب أنفسهم كما يقول البيان (وادعى أنهم وحدهم الحافظون لحدود الله، وأن ما سواهم من الجماعات لم يوجدوا إلا لحماية الطواغيت, ولم يبق في تزكيته لجماعته وازدرائه بالمجاهدين إلا أن يتكلم بكلمة اليهود "نحن أبناء الله وأحباؤه" وهذا شأنهم في كل ساحات الجهاد).
وذكر البيان أن دعوى تنظيم الدولة أنهم يقومون بتحكيم الشريعة مجرد دعوى شعاراتية وشبّهوها بالحكومات العربية التي تدّعي شعارات الإسلام، كما يقول البيان (أن دعواه بإقامة حكم الله دعوى كاذبة باطلة , وأشبه ما تكون بتمسح طواغيت العرب ببعض شعارات الإسلام, ليستخفّوا بها أقوامهم).
ثم أخذ البيان في سرد أمثلة وصور كثيرة لانتهاك تنظيم الدولة لأحكام الشريعة في ليبيا، فيمكن مراجعة البيان لقراءة هذه الأمثلة.
وأما بخصوص أحداث مسجد فاطمة الزهراء في "درنة" فقد كتب عنها بعض ناقديهم مقالات وأوراق مثل: (تسليط الأضواء على ما فعله تنظيم الدولة بمسجد فاطمة الزهراء) و (سل الحسام لمواجهة أهل البغي والإجرام) ونحوها، وكلها منشورة على الشبكة أيضاً، وأجدد التنبيه أن مواقف الناقدين هذه ليست موضع الحجة هنا، فإن المستند الوحيد في هذه الدراسة هو الوثائق الرسمية لتنظيم الدولة فقط، دون غيرها، وإنما ذكرنا هذه المواقف لمجلس شورى درنة كهامش إثرائي بغرض عرض نموذج من موقف المخالفين والناقدين في ليبيا.
انتهينا الآن من تصور موقف "تنظيم الدولة" في الحكم بردة وكفر كل الثوار والمجاهدين في ليبيا إلا من بايعهم، وتشريع سفك دمائهم وسلب أموالهم، فلننتقل الآن إلى دراسة موقف تنظيم الدولة من المجاهدين في بلد مسلم آخر.
-استباحة دماء وأموال حركة حماس وكتائب عز الدين القسام:
حركة حماس وذراعها العسكري كتائب عز الدين القسام من أشهر الحركات الجهادية السياسية الإسلامية العريقة، وسبب تكفير تنظيم الدولة لحماس هو اعتقادهم أنها وقعت في ناقضين من نواقض الإسلام: تولي الكفار والحكم بالطاغوت، ومن اللافت في الكتابات المنتسبة لتنظيم الدولة أن لديهم توتّراً ملموساً تجاه أي منتسب للجهاد لا يجزم بتكفير حماس، بل في بعض الأحيان تصبح هذه المسألة كأنها من مسائل الامتحان العقدي أو التعيير والتهكم في الداخل القتالي، ووقعت مرةً أثناء البحث على بعض الردود والتراشق المتبادل في الداخل القتالي فرأيت بعض المنتسبين لتنظيم الدولة يشددون النكير على بعض المنتسبين لتنظيم القاعدة ويرون أنهم متميعون لعدم جزمهم بكفر وردة حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وقد عرض تنظيم الدولة لأحداث مخيم اليرموك وفصيل أكناف بيت المقدس ومشهد اجتماع هنية بخامنئي وعلقوا بالقول (قائد حركة حماس المرتد إسماعيل هنية)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص67].
وفي العدد الأول من مجلة دابق شرحوا مراحل الخلافة طبقاً لنظرهم، وعرضوا ما يرونه انحرافات دخلت التيارات الجهادية، وذكروا منها على سبيل التعريض (أحدهم أخيراً اعتبر الطواغيت مثل محمد مرسي وإسماعيل هنية أنهم أمل جديد للأمة)[مجلة دابق، العدد الأول، رمضان، 1435هـ، ص20].
كما عرضت المجلة أيضاً مشهد اجتماع لخالد مشعل –رئيس المكتب السياسي لحركة حماس- مع أمير قطر ومحمود عباس ووصفتهم بأنهم (طواغيت فلسطين وقطر)[مجلة دابق، العدد التاسع، ص68]، أي أنهم كلهم في مستوى واحد.
وفي أحد المواضع أشارت المجلة على سبيل التوضيح عن قضية الحكم بالطاغوت لدى حركة حماس (منهج حماس وحكمهم بالقوانين الوضعية)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص75].
والحقيقة أن هذا الموقف ليس جديداً، بل إن تنظيم الدولة بدأ يعلن هذا الموقف رسمياً منذ بداية تشكله، حيث سبق أن عرضه تنظيم الدولة قبل سبع سنوات، في فبراير 2008م، على لسان أميره السابق أبي عمر البغدادي، حيث سردوا عدداً من نواقض الإسلام التي وقعت فيها حماس، وذكروا منها (دخول العملية السياسية في ظل دستور وضعي، والاعتراف الضمني بإسرائيل، وإظهار احترام قرارات الأمم المتحدة، والتحالف مع الأنظمة العربية المرتدة، وعدم الحكم بالشريعة بعد التمكين في غزة، وإطلاق حرمة الدم الفلسطيني،..)[أبو عمر البغدادي، بيان بعنوان: الدين النصيحة، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 10].
وملخص هذا أن تنظيم الدولة يعتقدون أن حماس وقعت في تولي الكفار وهم إسرائيل وإيران والأنظمة العربية المرتدة، ووقعت في الحكم بالطاغوت وهو في نظرهم الدخول في العمل البرلماني واحترام قرارات الأمم المتحدة وعدم الحكم بما أنزل الله في غزة.
أعلم أن القارئ في غاية الاستغراب أن يقال أن حماس تتولى إسرائيل، لكني ملتزم بعرض ما يرونه كما هو قبل أي نقاش وجواب.
وسلك البغدادي في هذا البيان المبكّر استراتيجية تحريض بعض منتسبي كتائب عز الدين القسام للانقلاب على قيادتهم، فأظهر أنه يستثني المخلصين في كتائب القسام لكنه يطالبهم كما يقول (ولولا ما وجدنا من سوء هذه القيادة وانحرافها عن الشريعة؛ ما كنا لندعو المخلصين من شباب القسام للانقلاب عليهم..)[البيان السابق، الدقيقة:21]، وبسبب هذا الإشارة فقد ردّت كتائب عز الدين القسام في حينه على بيان تنظيم الدولة، ووصف ناطق القسام الإعلامي كلمة البغدادي هذه بوصفين: أنها غلو في الدين ودعوة غبية.
والحقيقة أن هذه المحاولة المبكرة من تنظيم الدولة للوقيعة بين مقاتلي كتائب القسام وإفساد ذات بينهم كانت في غاية الخطورة، لكن كفى الله أهل غزة شرّها بفضله سبحانه، والله وحده يعلم لو أن أحداً من مقاتلي القسام تأثر بهذا البيان كيف كانت ستؤول الأمور للدماء بين المقاومين أنفسهم في فلسطين بينما إسرائيل تتفرّج.
بل إن من أعجب أقدار الله أن تثمر دسائس السعاية والوشاية أحياناً نقيض مقصود صاحبها، ذلك أن عدداً من المنتسبين لكتائب القسام في حماس كانوا آنذاك لا يصدّقون ما يشاع إعلامياً من أن تنظيم الدولة في العراق يقتل المخالفين له، وأن عنده غلواً في التكفير والحكم بالردة على المناوئين، وكانوا يظنون أن هذا من تشويه وسائل الإعلام المألوف تجاه الحركات الجهادية، فلما صدر بيان البغدادي هذا وهو يصف قياداتهم الجهادية بصراحة "بالخيانة" ووقوعهم في أسباب الردة والكفر ونواقض الإسلام، ويزرع التحريش بينهم، وكل قياداتهم لا تخلو أصلاً إما أن يكون قُتِل هو أو أحد أبنائه تحت القصف الصهيوني، فحينذاك أيقنت القواعد الشبابية في كتائب القسام بصدق مايروى عن الدماء البريئة التي سفكها تنظيم الدولة في العراق، وهذا الجدل الداخلي في كتائب القسام رواه أحد الكوادر القسّامية بُعيد صدور بيان تنظيم الدولة، وهو الأخ رائد سعد (أبو معاذ) والذي شغل قائد لواء غزة في كتائب القسام، حيث كتب حينها "رسالة إلى دولة البغدادي" في فبراير 2008م، وهي رسالة بليغة الأسلوب.
وهذا المشهد بعينه وتفاصيله كاملة رأيته يتكرر مراراً في مواطن مختلفة، فكم من رجل كان يحسن الظن بهم، ويتوهم أن ما ينسب لهم من قتل المخالفين أنه من تهويلات الإعلام المعتادة، فلما وصل نار تنظيم الدولة إلى قدميه تفطر قلبه ورأى أنه قد ظلم الضحايا وانخدع للجناة، وأما لما تطورت وسائل الاتصال والنقل الشبكي وصار الحدث يتواطأ الجمهور على نقله والكتابة عنه وتحليله في ساعته، ورأى الناس فظاعاتهم التي ينشرون أكثرها هم بأنفسهم، وزادوا في الاستعلان بعقائدهم في التكفير والقتل، فقد قرأت لعدد من المتابعين يدعو إلى إعادة كشف واقع تنظيم الدولة في العراق وظلمه وبغيه وعدوانه على الجماعات الجهادية العراقية التي شاركته القتال والمقاومة للمحتل ثم اختلفت معه فكفّرها ونكّل بها بصنوف التقتيل، بل صار بعض المتابعين اليوم يرى أن الإعلام لم يشوههم بل قصّر في بيان جرائمهم، وأحسب أن عموم المتابعين والمراقبين هم من أصحاب هذا الموقف، وأما أهل الخبرة بهم قبل التجربة الشامية فقد كانوا أقل من القليل.
-إنفاذ موجب الحكم بالردة:
هذه الأكوام من أحكام الردة والتكفير للمجاهدين التي يقذفها تنظيم الدولة بالجرافات على قارئه ومستمعه، هل نفذوها فعلاً على الأرض، أم هي مجرد خطاب نظري؟
فقد يقول قائل صحيح أن هذه أحكام تكفيرية حرورية غالية وبشعة، لكن لعلها مجرد لغة خطابية شرسة فقط، ولم ينفذوا مقتضى هذه الأحكام التكفيرية الغالية على الأرض؟
والحقيقة أن هذه الحاويات والصهاريج من أحكام الردة المفتوحة لم تكن كلاماً في الهواء، بل سلّو سكاكينهم على أعناق المجاهدين بمقتضاها، وعمليات تنظيم الدولة في قتل المجاهدين وسلب أموالهم تحت بند الردة والصحوات لا تحصى كثرة، وكثير من هذه العمليات لا يخفيها تنظيم الدولة ولا يستسرّ بها، إلا قليلاً منها لاعتبارات خاصة، وهي الحالة التي يخشى فيها من شدة تشنيع الشريحة الجهادية محل الاستقطاب، وأما أكثر هذه العمليات فيعلنها ويفخر بها، وسأذكر بعض الأمثلة لقتلهم للمجاهدين ليس من واقع روايات الخصوم بل من واقع وثائق تنظيم الدولة ذاتها:
فمن ذلك أنهم نشروا في مجلتهم تقريراً عن قتلهم للمجاهدين ولم يجعلوا له عنواناً وصفياً محايداً، أو عنواناً يوحي بتألمهم لوقوع القتال بين المنتسبين للجهاد، بل وضعوا له عنواناً فخرياً يضج بالبهجة لقتل المجاهدين، حيث كتبوا هذا العنوان (حصد الصحوات) ونشروا تحته تقريراً عن مجزرة مروّعة نفّذوها في مجاهدي "الجبهة الشامية" والتي تضم من المجاهدين (الجبهة الإسلامية بحلب، حركة نور الدين زنكي، جيش المجاهدين، جبهة الأصالة والتنمية، تجمع "فاستقم كما أُمِرت")، وأشاروا أيضاً إلى جبهة النصرة، حيث يقولون مبتهجين في تقرير هذه المجزرة التي نفّذوها في المجاهدين:
(في يوم 18 من جمادي الأخرة -1436هـ- نفّذ استشهاديان، وهما جرَّاح الشامي وأبو بكر الكردي، هجمات على الصحوات في ريف حلب الشمالي، مستهدفين بذلك مواقع مهمة في مارع وحوار كلس، حيث اخترقا مواقع الصحوات التابعة للجبهة الشامية، واعملوا الخراب بينهم، هذه الهجمات وقعت خلال اجتماع للجبهة الشامية مع فصائل أخرى بما في ذلك جبهة الجولاني، لتوسيع حربهم ضد الدولة الإسلامية، وهذه العمليات نجحت في قتل ما يزيد على ثمانين من أفراد الصحوات وجرح العشرات منهم..)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص28].
هذا نموذج واحد .. واحد فقط .. لكنه والله أليم ومحزن .. ذهب للجهاد يريد أن ينصر المسلمين ضد مجازر النصيرية.. فأعاد تنظيم الدولة صياغة قناعاته.. فصار يسفك دماء خيار الثوار والمجاهدين في سوريا.. ويفتخر بذلك ويكتب الأرقام ببهجة.. لقد قتلنا ثمانين مجاهداً في سبيل الله! وأيضاً عشرات آخرين يسهرون الآن على أوجاع جراحاتهم!
أتتذكر صور أولئك الشباب في الشام الذين كنا نراهم على الشاشات مهرولين لإخراج الأطفال من تحت الأنقاض يرددون "ما لنا غيرك يا الله" ويتحدون نظام بشار وبراميله المتفجرة.. هاهم بالعشرات يزهو ويتبجح تنظيم الدولة في بيانه الرسمي بأنه ألقاهم على الأرض جثثاً .. أكثر من (80) مجاهد في عملية واحدة فقط! والبقية أضعاف ذلك جرحى يئنّون ليلهم.. واحر قلباه على تلك الدماء الزكية البريئة.. يا رب أكرمهم وأنزل الصبر علينا وعلى أهليهم..
وفي حادثة قتلٍ أخرى للمجاهدين يعلنها تنظيم الدولة ويتباهى بها قائلاً (الدولة الإسلامية نجحت في قتل أمير جبهة النصرة لمنطقة شرق القلمون، وأمير جيش الإسلام لنفس المنطقة)[مجلة دابق، العدد التاسع، شعبان، 1436هـ، ص36].
يا الله .. قتل مجاهد يسمونه "نجاح"! وينشر هذا "النجاح" في وثائقهم الرسمية بلغة التمدّح وعرض المآثر..
وفي موضع آخر يتحدث تنظيم الدولة بما يراه من مناقبه في قتل المجاهدين والثوار في ليبيا قائلاً (ليبيا من البلاد التي ذُكِرت في التمدد الرسمي، وفيها أقوى تواجد للدولة الإسلامية، حيث توجد مدن كبرى تُدار بقادة وجند فقط، ليبيا استقبلت مهاجرين من بلاد كثيرة، عددٌ منهم نفّذ عمليات استشهادية ضد المرتدين، لتقوية دولة الإسلام..، ومرةً أخرى فإن الدولة الإسلامية اقتلعت المناهج في ليبيا –كما فعلت مع الأقطار المُبايعة الأخرى- التي تبيح التحالف مع المرتدين –حلفاء الصليبيين- بأن أمرتهم باستهدافهم مباشرة)[مجلة دابق، العدد الخامس، محرم 1436هـ، ص31]
وليس المثير هاهنا فخرهم بأنهم نفّذوا عمليات ضد المجاهدين في ليبيا، بل المثير حقاً أن أكدوا أن هذا منهجهم في كل أرض يظهر لهم فيها موالٍ ومُبايع، وهو قتل الجماعات المجاهدة الأخرى، باسم اقتلاع المناهج المخالفة.
ولا يكتفي تنظيم الدولة بأن يقوم هو بقتل المجاهدين، بل بدأ بمحاولة الوقيعة داخل الفصائل الجهادية نفسها، وتهييج جنودهم على قتل أمرائهم، بل وتحريض الجنود على قتل الجنود في الجماعات الجهادية، كما يقول تنظيم الدولة في عدده الأخير في ختام رمضان 1436هـ:
(اخرجوا على أمرائكم في تحالف الصحوات واذبحوهم.. فجّر حزامك الناسف في جموعهم، واضرب برصاصك صدور جنودهم)[مجلة دابق، العدد العاشر، ص64]
وقد سبق أن نقلنا أن تنظيم الدولة لا يفخر فقط بقتل المجاهدين المخالفين الذين يسميهم "صحوات"، بل يعلن أنهم يتلذذون بذلك ويجدون مذاقه الشهي في حلوقهم، كما قال التنظيم في بيان رسمي يتلوه العدناني: (فاعلموا أن لنا جيوشاً في العراق وجيشاً في الشام من الأسود الجياع شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: والرائد لا يكذب أهله، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، الدقيقة: 25].
والحقيقة أن مثل هذا المنهج في التعامل مع "المجاهد المخالف" باتهامه بالتحالف مع الكفار ضد المسلمين وإظهار الابتهاج والفرحة بقتله بعبارات مقززة؛ ليس جديداً في سلوك تنظيم الدولة، فقد قال أبو عمر البغدادي الأمير السابق للتنظيم مخاطباً الجماعات الجهادية التي شاركته قتال المحتل ثم اختلفت معه:
(كلمتي الثانية: إلى الذين كنا نحسبهم ظاهرياً معنا في الميدان يقاتلون المحتل الكافر فإذا بهم وبعد إعلان "دولة الإسلام" يتحالفون مع الصليبي والرافضي لقتال رجال الدولة ويتركون عُبّاد الصليب.., فعودوا لنا فإننا لن ننسى أنكم كنتم أصدقاء الأمس.., فإن أبيتم التوبة قبل القدرة عليكم: فوالله لقتل المرتد أحبُّ إليّ من مئة رأس صليبية)[أبو عمر البغدادي، بيان بعنوان: وعد الله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 33].
هكذا يخاطب التنظيم كثيراً من المجاهدين المخالفين في العراق بأن "قتل واحد منهم أحب إلى تنظيم الدولة من قتل مائة صليبي محارب"! والتهمة الجاهزة طبعاً أنهم "صحوات" مرتدّون.
-التطور والتجديد في نواقض الإسلام:
من الأمور التي لفتت انتباهي كثيراً في وثائق "تنظيم الدولة" أن لديهم شيئاً من التجديد والابتكار والإبداع في "نواقض الإسلام" بحسب ما تفرضه احتياجاتهم والتحديات التي يواجهونها، لنشاهد سوياً هذه النواقض الثلاث وكيف تغيّرت بحسب الحاجة:
كان تنظيم الدولة في بدايات أمره يكرر كثيراً أنه من دخل مع الأمريكان والروافض في حربهم علينا فقد كفر وارتد وحلّ لنا دمه وماله لأنه ظاهر الكفار على المسلمين، وكانوا يرددون أنهم ما قاتلوا إلا الأمريكان والرافضة ومن تحالف معهم وظاهرهم صراحة ضد المجاهدين، هذه كانت الدعوى التي يظهرها تنظيم الدولة، وشواهد هذا التصوير كثيرة جداً، ولكن نعرض هذا الشاهد الذي يلخّص فيه التنظيم تاريخهم مع أسباب القتال، حيث يقول التنظيم: (لقد قاتلنا بفضل الله وحده الصليبيبن، والروافض، وأذنابهم من الصحوات والجيش والشرط؛ عشر سنين)[العدناني، الرائد لا يكذب أهله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 16].
فتنظيم الدولة هنا يقول أننا طوال عشر سنين كنا نقاتل الأمريكان والرافضة ومن ظاهرهم وأعانهم على احتلال العراق ويسميهم "الصحوات"، ويصف كل من قاتله بذلك.
ثم لما جاءت الأحداث الشامية وظهر "تنظيم الدولة" في المسرح السوري، بدأ يردد نفس التأصيل وأن القضية لا تقف على النظام النصيري ولكن هناك صحوات يتحالفون مع الطواغيت ضد المجاهدين، ثم ظهر أيضاً في ليبيا وكرر ذات الدعوى وأن القضية ليست في مقاومة فلول القذافي، بل هناك "صحوات" يتحالفون مع الطواغيت.
ولكن الحقيقة أن هذه الدعوى في الشام وليبيا برغم تكرارها يبدو أنها لم تعد مقنعة تماماً لشريحتهم محل الاستقطاب، وصارت بعض الفصائل في الشام وليبيا تقاتل تنظيم الدولة وهي تستثمر التطور في وسائل الاتصالات والشبكات وتذب عن نفسها صراحة ضد أي دعوى بأنها متحالفة مع قوى خارجية، وتتحاشى أي مظهر رسمي قد يستغله تنظيم الدولة في التشويش بأنهم صحوات يتحالفون مع الطواغيت، أي أنه جاء من يقاتل تنظيم الدولة –في الشام وليبيا- ولا يمكن للتنظيم إيهام الناس أنه صحوات يتحالف مع القوى الإقليمية والطواغيت والكفار ويظاهرهم على المسلمين.
وفي ظل هذا التحدي المزعج ابتكر تنظيم الدولة الناقض الجديد، وهو أنه: لا يشترط فيمن يقاتلنا أن يكون متحالفاً مع الطواغيت ومتولياً للكفار ومظاهراً لهم، بل يكفي مجرد قتالنا ليكون المقاتل مرتداً، والسبب في ذلك أننا الدولة الوحيدة التي تحكم بالشريعة، فمن قاتلنا لزم وآل انسحابنا عن أي شبر إلى أن يحكم بغير الشريعة، وعليه فقد رفعوا شعار "من قاتلنا فقد كفر"، كما يقول العدناني في إشارة واضحة إلى ورطة الشام وليبيا في الدفع بابتكار هذا الناقض:
(نجدد دعوتنا لجنود الفصائل في الشام وليبيا, ندعوهم ليتفكروا مليّا قبل أن يقدموا على قتال الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله, تذكر أيها المفتون قبل أن تُقدم على قتالها: أنه لا يوجد على وجه الارض بقعة يطبق فيها شرع الله والحكم فيها كله لله سوى أراضي الدولة الإسلامية, تذكر أنك إن استطعت أن تأخذ منها شبراً أو قرية أو مدينة سيستبدل فيها حكم الله بحكم البشر, ثم اسأل نفسك: ما حكم من يستبدل أو يتسبب باستبدال حكم الله بحكم البشر؟ نعم, إنك تكفر بذلك, فاحذر فإنك بقتال الدولة الإسلامية تقع بالكفر، من حيث تدري أو لا تدري)[العدناني، بيان بعنوان: يا قومنا أجيبوا داعي الله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 14].
وهذا الناقض ركّبه تنظيم الدولة من مقدمتين، المقدمة الأولى: أن تنظيم الدولة يحكم بالشريعة كاملة، والمقدمة الثانية: أن من يقاتلهم لن يحكم بالشريعة، والمخالفون لتنظيم الدولة لا يسلمون بكلا المقدمتين أصلاً، فيرون أن تنظيم الدولة من أكثر الكيانات العسكرية المعاصرة انتهاكاً لأحكام الشريعة، ويرون أن من يقاتله من الفصائل أقرب منه أصلاً لاحترام الشريعة وتعظيم النصوص ومرجعية أهل الذكر، بل لا نسبة بين تنظيم الدولة ومخالفيه في توقير قواعد الشريعة والتوقف أمام نصوص الوحي في الحقوق الشرعية.
وهكذا حاول تنظيم الدولة أن يتخلص من الورطة الجديدة في ضعف قدرة التمويه بصحوجية الفصائل التي تقاتله في ظل وسائل الاتصالات الحديثة، فابتكر ناقضاً جديداً وهو أنه "من قاتلنا فقد كفر" حتى لو لم تكن له أية علاقة البتة بالطواغيت، يكفي فقط أن يقاتلنا ليقع في أحضان الردة والخروج من الإسلام، وهذا الكلام مبني على لازم ومآل موهوم أصلاً، وليس حتى لازماً معتبراً لزومه، وأهل السنة لا يكفرون باللازم والمآل المعتبر ما لم يلتزمه صاحبه فضلاً عن اللازم والمآل الموهوم، وكان العدناني سبق أن باهل ولعن نفسه إن كان تنظيم الدولة يكفر من قاتله أو يكفر باللازم والمآل، وقد شرحت هذه القضية في المقالة الأولى من هذه السلسلة بعنوان (رسالة للمنتسب لتنظيم الدولة).
المهم أن تنظيم الدولة توقّع أن هذا الناقض المبتكر من نواقض الإسلام سيكون مريحاً له في استراتيجية تمدده، فمن قاومه من الفصائل وقاتله وله صلة بالقوى السياسية رفع تنظيم الدولة شعار "الصحوات" في وجوههم، ومن قاومه وقاتله وليس له علاقة ظاهرة بالقوى السياسية الإقليمية رفع شعار "من قاتلنا فقد كفر، لأن مقاتلتنا تفضي لتعطيل الشريعة".
ولكن بقي منطقة أخرى تحتاج لمعالجة، وهي الشريحة المحايدة والمستقلة، فليس المشهد مقتصراً على من يقاومهم وله علاقة بالقوى الإقليمية أو من يقاومهم وهو غير ذي علاقة بها، بل ثمة شريحة المحايدين في القتال بين تنظيم الدولة وبقية الفصائل، وهذه الشريحة صنعت مأزقاً نظرياً لتنظيم الدولة، فكيف يمكن الحكم عليها بالردة تمهيداً لإخضاعها لمشروع تنظيم الدولة وهي ليس لها علاقة بالقوى الإقليمية (صحوات) ولم تقاتل تنظيم الدولة ليمكن إنزال قاعدة "من قاتلنا فقد كفر" عليها؟
والحقيقة أن هذه الشريحة سبق أن احتاط لها تنظيم الدولة، حيث فكّر في محاولة إبداع ناقض جديد من نواقض الإسلام، لمعالجة هذه النازلة واستيعاب هذه المساحة، أعني مشكلة الشريحة المحايدة، فابتكر ناقضاً جديداً طرحه في خطاباته الرسمية وسمى هذا الناقض "انتهاء المنطقة الرمادية"، ورأيتهم يحاولون من خلاله "تفعيل نصوص النفاق"، وبالتالي فقد وضعوا مخالفيهم من المجاهدين في ثلاثة قوالب:
الأول: من قاومهم وقاتلهم وله علاقة بالقوى الإقليمية فهو صحوات مرتد، والثاني: من قاومهم وقاتلهم وليس له علاقة بالقوى الإقليمية فهو مرتد لقاعدة "من قاتلنا فقد كفر لإفضاء مقاتلتنا لتعطيل الشريعة"، والثالث: أي فصيل جهادي أو طرف يسلك معهم طريق الحياد والاستقلال فلا يقاومهم ولا يدخل معهم فهم رماديون منافقون.
يشير تنظيم الدولة للعلاقة بين مفهومهم للمنطقة الرمادية وبين النفاق بالقول (المنطقة الرمادية هي مخبأ المنافقين)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص55]. وفي موضع آخر يقولون(المنطقة الرمادية هي المنطقة المفضلة للمنافقين)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص62].
وتحت عنوان فرعي في مجلتهم الرسمية اسمه (المنطقة الرمادية المتلاشية) يقول التنظيم (المنظِّرين الجهاديين الفرديين وأشباه المجاهدين حاولوا أن يضعوا أنفسهم غير تابعين للدولة الإسلامية ولا للصحوات..) ثم يقول التنظيم من ضمن تعليقه على ذلك (من كان لديه إخلاص سيعرف أنه لا يوجد منطقة رمادية في هذه الحملة الصليبية على الدولة الإسلامية)[مجلة دابق، العدد الرابع، ذو الحجة، 1435هـ، ص44].
وفي عدد لاحق من المجلة عادوا لهذا الموضوع بصورة أوسع، وخصصوا له أطروحة مستقلة بعنوان عام اسمه (اضمحلال المنطقة الرمادية)[مجلة دابق، العدد السابع، ص54-66]، وشرحوا تصورهم لهذا المفهوم في (12) صفحة، وجعلوه نظرية أعم وأدخلوا فيه ظواهر كثيرة في العالم.
يتحدث تنظيم الدولة في هذه الأطروحة كيف أن الظهور الأخير لتنظيمهم أنهى فكرة الاستقلال والحياد في الموقف منهم بالقول (ثم جاء إعلان تمدد الدولة الإسلامية إلى الشام، وتبعه الإعلان اللاحق للخلافة، بما دفع المنطقة الرمادية إلى حافة الزوال الدائم..، ولم يبق لمسلم عذر في البقاء مستقلاً عن هذا الكيان..، إن موقف "الحياد" و "الاستقلال" الآن سوف يهلكه ذلك أنه ينطوي على كبيرة تقود إلى كبائر أعظم حتى يقع في الكفر)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص55. والأقواس الداخلية من أصل النص].
ويشرح تنظيم الدولة الفرق بين المنطقة الرمادية سابقاً ثم بعد ظهور تنظيمهم، وأنه بعد ظهور تنظيم جاء الدور على المستقلين والمحايدين، فيقول التنظيم:
(في الماضي كانت المنطقة الرمادية تتكون من المنافقين والمبتدعة الضالين والقاعدين عن الجهاد، وأما اليوم بعد ظهور الخلافة والحملة الصليبية اللاحقة فإن المنطقة الرمادية تشمل أيضاً الجماعات الإسلامية "المستقلة" و "المحايدة" التي ترفض الالتحاق بالخلافة، وتدّعي أنها ستبقى مستقلة عن كلا المعسكرين)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص55. والأقواس الداخلية من أصل النص].
ويطبّق تنظيم الدولة هذه النظرية فيما يسميه "انتهاء المنطقة الرمادية" على الواقع الجهادي الشامي فيقول:
(الفصائل المختلفة في الشام، كما وقع في العراق من قبل، بدأت في الانقسام إلى معسكرين: الدولة الإسلامية في مواجهة الصحوات المدعومة من قبل الصليبيين والحكومات المرتدّة والحركات الضالّة، أما أولئك الذين حاولوا التمسك بالمنطقة الرمادية لمصالح حزبية مختلفة؛ فقد وجدوا أن المنطقة الرمادية تذوي أمامهم بصورة متسارعة، فجنودهم المخلصون تخلوا عنهم والتحقوا بالدولة الإسلامية، وأما مرضى القلوب من جنودهم فقد هرعوا لفصائل الصحوات)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص57].
ويواصل تنظيم الدولة الشرح والتوضيح معتقداً أن هدمهم للمنطقة الرمادية وافتراق الناس في الموقف منهم بين "مؤيد مسلم" و"معارض مرتد" و"محايد منافق"، يماثل افتراق الناس في الموقف من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بين مؤمن وكافر ومنافق، كما يقول التنظيم: (إن هدم المنطقة الرمادية يشابه الافتراق الذي وقع بسبب رسالة الإسلام حين حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرة، كما روى البخاري أن الملائكة ظهرت أمام النبي صلى الله عليه وسلم بينما كان نائماً وقالت "محمد فرّق بين الناس"..)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص55].
وفي موضع آخر يؤكد تنظيم الدولة هذا التشبيه بين موقف الناس من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وموقف الناس من تنظيمهم بالقول (كما أن رسالة الإسلام التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم قسمت الجاهلية السابقة إلى معسكرين متضادّين، فإن الدولة الإسلامية كذلك بتمددها إلى الشام قسمت الفصائل المختلفة في الشام، بما فيهم أصحاب الرايات الجاهلية والعُمّيّة) [مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص56].
حسناً، إذا كان الأمر بمثل هذا الوضوح فلماذا رفضت الجماعات الجهادية الانضمام لتنظيم الدولة؟ يرى التنظيم أن سبب ذلك ليس اعتقادهم أن تنظيم الدولة غلاة منتهكون للأحكام الشرعية، وإنما خوفاً من فقد سلطتهم، كما يقول التنظيم:
(العالم اليوم منقسم إلى طرفين: الخلافة من جانب، والصليبيون وأعوانهم المرتدون على الجانب الآخر، وهذه الجماعات الجهادية إذا اعترفت بهذا الكيان العظيم الممثّل للإسلام وهو الخلافة فسيترتب على هذا أن ينزعوا الشرعية عن أنفسهم ويخسروا التأثير والسلطة الشخصية)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص62].
وهذا يعني بحسب منظور تنظيم الدولة عدة أمور: أن تنظيم الدولة هو الممثل الوحيد للإسلام اليوم، وأن من لم يكن مع تنظيم الدولة فهو: إما صليبي أو مرتد، لأن المنطقة الرمادية تلاشت، وأن الذي يمنع المجاهدين في الجبهات الجهادية من الانضمام لتنظيم الدولة هو البخل بالمصالح الشخصية فقط وهو نوع من النفاق.
ومن التقسيمات الطريفة لدى تنظيم الدولة المبنية على نظريتهم في "المنطقة الرمادية" هي أن المجاهدين ينقسمون لنوعين: النوع الأول: المجاهد المرتد الصريح وهو الذي يعلن أنه يقبل بالدخول في العمل البرلماني، والنوع الثاني: المجاهد المنافق الذي يعلن عدم قبوله بالدخول في العمل البرلماني، لكن تظهر ردته حين يساعد ويظاهر النوع الأول ضد تنظيم الدولة، كما يقول تنظيم الدولة: (الفصائل المنافقة المرتدة هم أولئك الذين ينتقلون من المنطقة الرمادية إلى معسكر الكفر، بمعاونة المرتدين السافرين، وهم الفصائل الديمقراطية والعلمانية، ضد المجاهدين) [مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص64].
ورداً على من قد يستغرب إنزال أوصاف النفاق الأكبر المخرج من الملة على الفصائل المجاهدة المحايدة والمستقلة يقول التنظيم (إذا كان النفاق مفهوماً نظرياً لا آثار له في الدنيا فإن هذه الأوامر –الشرعية في التعامل مع المنافقين- ستكون بلا معنى، وهذا الفهم للإيمان، بما يوافق عقيدة أهل السنة، هو الذي يرشد المجاهدين في قتالهم للفصائل المنافقة التي تتحول إلى فصائل مرتدة)[مجلة دابق، العدد السابع، ربيع الآخر، 1436هـ، ص65، وما بين الشرطتين إدماج إيضاحي].
وفي هذا العدد من المجلة وسّعوا نظرية "المنطقة الرمادية" بشكل أكبر، وذكروا فيه العمليات التي في الغرب والموقف منها، وموقف المقيمين في البلدان الغربية بحجة أن الدول المسلمة يحكمها طواغيت، ونحو هذه المسائل، كلها على ضوء نظريتهم الجديدة في "أن تنظيم الدولة أنهى المنطقة الرمادية".
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شبّه تردد المنافق بين المؤمنين والكفار بالشاة المترددة بين القطيعين كما قال صلى الله عليه وسلم (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)[صحيح مسلم:2784]، وهذا التشبيه النبوي البليغ له أصل في كتاب الله وهو قول الله عن تردد المنافقين بين المؤمنين والكفار (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ)[النساء:143]، ثم جاء تنظيم الدولة وأعاد تأكيد التكييف العقدي للفصائل الجهادية المحايدة والمستقلة بأنهم "منافقون"، حيث أسقط هذا الوصف النبوي للمنافقين عليهم، ذلك أنه قبل ثلاثة أسابيع، أعني في أواخر رمضان 1436هـ، نشر تنظيم الدولة عدده الأخير من المجلة الرسمية وفيها مقالة دفاعية حجاجية عن قاعدة "من قاتلنا فقد كفر لإفضاء مقاتلتنا لتعطيل الشريعة" رداً على من انتقدها، وذكر فيها –أيضاً- الشريحة المحايدة والمستقلة بوصف النفاق، كما يقول التنظيم: (وبقيت كتائب قليلة خارج هذا التحالف "محايدين"، كمثل الشاة العائرة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)[مجلة دابق، العدد العاشر، رمضان، 1436هـ، ص51].
وسبب ذلك هو ما سبق بيانه أن تنظيم الدولة يعتقد أنه لا يوجد أي كيان مسلم اليوم إلا تنظيم الدولة فقط، ومن عداه من الكيانات في العالم كفار، فمن وقف بينهما محايداً ومستقلاً عن الطرفين فهو "منافق"، لأنه يتذبذب ويتردد بين المسلمين والكفار، فليس لك إلا أن تلتحق بتنظيم الدولة وتبايع البغدادي أو أن تلتحق بالكفار.
على أية حال، هذه ثلاث ابتكارات لتنظيم الدولة في نواقض الإسلام: الأول: من قاومنا وقاتلنا وله أدنى علاقة أو تفاوض مع القوى الغربية أو الإقليمية فهو "صحوات" مرتد يباح دمه وماله، والثاني: من قاومنا وقاتلنا وهو يزعم أنه لا علاقة له بأي قوى كافرة فهو مرتد أيضاً يباح دمه وماله لقاعدة "من قاتلنا فقد كفر لأيلولة مقاتلتنا لتعطيل الشريعة"، والثالث: من لم يقاومنا ولم يقاتلنا أصلاً، وإنما التزم الحياد والاستقلال فهو "منافق" تبعاً لقاعدة "زوال المنطقة الرمادية بعد إعلان الخلافة".
-استباحة دماء المخالفين بغير سبب الردة:
كما رأينا فيما سبق أن الأسلوب المفضل لدى تنظيم الدولة في إزاحة المنافس الجهادي والاستيلاء على ممتلكاته هو الحكم بالردة بناءً على ناقضي تولي الكفار والحكم بالطاغوت، ولكن ليست هذه فقط أسباب القتل عند تنظيم الدولة، بل لقد جهز التنظيم ذخيرة نظرية للقتل تحسباً للظروف فيما لو خرج كيان جهادي جديد يحترس في تحاشي كل أوصاف ومناطات الردة التي أعلنها التنظيم بالتوليد المتوالي، فمثلاً لو ظهرت مجموعة جهادية جديدة وأعلنت أنها ستقطع أي علاقة مع كل طوائف الكفار والمرتدين في العالم، وستحكم بالشريعة في كل التفاصيل دون مراعاة الشروط والموانع، ولن تبايع هذه المجموعة قيادة جهادية عامة بل ستبحث عن شخصية تنتسب لقريش لتحقق شرط القرشية في الإمامة، ففي هذه الحالة هل سيكون تنظيم الدولة في ورطة أمام هذه المجموعة المحتمل ظهورها بطريقة تتحاشى كل أسباب قتل المخالف التي يعلنها التنظيم؟
لا، طبعاً، فقد جهّز التنظيم رداً أشار لبعضه البغدادي والعدناني في بيان رسمي، وشرحته مجلتهم دابق أيضاً، وهو نوع من "التأصيل الاستباقي"، وفكرة هذا الجواب باختصار: أنه بإعلان تنظيم الدولة للخلافة فقد بطلت شرعية كل الإمارات والجماعات في العالم الإسلامي، ومن جاء ليعلن إمارة جديدة فيُقتل لحديث (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)، وحديث (من بايع إماماً فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)، وحديث (فوا ببيعة الأول فالأول)، ونحوها من النصوص [انظر: مجلة دابق، العدد الخامس، ص25؛ بيان بعنوان: هذا وعد الله؛ مجلة دابق العدد العاشر، ص18؛ وغيرها] .
- الموازنة بين القوى المناوئة للحركات الجهادية:
حسناً، انتهينا الآن من عرض نماذج من موقف تنظيم الدولة من الحركات الجهادية في العالم الإسلامي على تفاوت اتجاهاتها، وأن تنظيم الدولة يرى أن كل هذه الحركات الجهادية في العراق والشام وليبيا وأفغانستان وفلسطين وغيرها أنهم كلهم صحوات مرتدون موالون للكفار ويحكمون بالطاغوت وأما من سعى لإظهار الحياد والاستقلال في النزاع بين تنظيم الدولة وخصومه فهو منافق ظهر نفاقه لأن المنطقة الرمادية انتهت بإعلان تنظيم الدولة للخلافة، وقام تنظيم الدولة فعلاً بتنفيذ موجب هذا التكفير وأعلن عن عمليات كثيرة يبتهج فيها بعدد الضحايا من المجاهدين والثوار، وذكر تنظيم الدولة في بيانه الرسمي أنهم (لم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات)، كما ذكرت قيادة سابقة عن هؤلاء المجاهدين الذين وصفتهم بالصحوات بأن (قتل المرتد أحبُّ إليّ من مئة رأس صليبية).
ونحن هاهنا نريد أن ننظر للموضوع من زاوية أخرى، فإذا كان تنظيم الدولة من أعظم المناوئين والمحاربين للحركات الجهادية المعاصرة، فنحن نحتاج أن نقارنه بغيره من القوى السياسية المعاصرة التي تناوئ وتحارب الحركات الجهادية، وهي بحسب وجهة نظري أربع قوى (أمريكا، والميليشيات الرافضية، والحكومات العربية، وتنظيم الدولة)، وسنعرض هذه المقارنة فيما يلي:
أما الولايات المتحدة الأمريكية فإنها تنفذ الغارات وتقتل المنتسبين لحركات المقاومة والجهاد بالجملة، وتبتكر أدق التقنيات العسكرية لاصطيادهم، وتقيم سجوناً خارج مناطق القيود القانونية وتمارس فيها أصنافاً من التعذيب لأسرى الحركات الجهادية لاستخراج المعلومات منهم.
وأما الحكومات العربية فإنها تشتغل كثيراً باعتقال المنتسبين للحركات الجهادية، وتأخذ بأدنى الشبهة والظنة، وتقيم السجون الكثيرة لاستيعابهم، وتمارس أصنافاً من التعذيب في التحقيق مع المتهم أكثر مما تمارسه الدول الغربية نفسها، ووقعت أحداث في بعض السجون العربية نُفِّذت فيها مجازر بالسجناء لردع اعتصام ونحوه.
وأما الميليشيات الرافضية المدعومة إيرانياً فإنها تحكم على المنتسبين للحركات الجهادية بالكفر لأنهم في نظرهم نواصب أو من غلاة النواصب، ويملؤون قلوب مقاتليهم بالحقد عليهم، ولذلك يتفنن مقاتلو الميليشيات الرافضية في قتل المجاهدين بأبشع الصور ويعذبونهم بطرائق لا تطيق تصورها الفطرة الآدمية.
وأما تنظيم الدولة فإنه يُكفّر الحركات الجهادية المعاصرة ويحكم عليها بالردة والنفاق، ويسميهم الصحوات ويتفنن في قتلهم بالنحر بالسكاكين، وبالقتل بالرصاص صبراً، آحاداً وجماعات، وبأنواع التفجير وهدم البيوت، ووسائل تنظيم الدولة في القتل يذكرها كثيراً، كمثل قوله مثلاً في أحد بياناته في وصف عام لوسائل القتل (ونسف 11 بيتًا للمرتدين بعد إخلائها، فعملت المفخّخات، والعبوات، والكواتم، والقنّاصات، والهاونات..).
وأما سجون تنظيم الدولة فقد تواتر النقل من سجناء الجهاديين وذويهم عن أصناف التعذيب فيها لمن يتهمونه بالصحوات، وإذا كانوا يسمّون المجاهدين صحوات، ويصرحون أن أشهى الدماء هي دماء الصحوات، وأن قتل واحد منهم أحب لهم من مائة رأس صليبية؛ فمن غير العلمي استبعاد ارتكاب التنظيم لفظائع التعذيب في سجونه ضد المجاهدين.
والذي يبدو لي –والله أعلم- أن أكثر القوى المناوئة للجهاديين فظاعة في التفنن في القتل والتعذيب هم: ميليشيات الرافضة وتنظيم الدولة، ثم يليهم الأمريكان والحكومات العربية.
فإذا صح هذا الاستنتاج فهو يحتاج إلى تفسير، والذي يغلب على ظني أن تفسيره –والله أعلم- هو: أن جنود الميليشيات الرافضية وتنظيم الدولة يبث فيهم قياداتهم اعتقاد التقرب إلى الله بالبطش بالمخالف، فيتخذه الجنود ديناً وقُربة، فيعتقد جندي الميليشيا الرافضية أن تنكيله بالمجاهد السني نصرة وتعظيم لآل البيت، ويعتقد جندي تنظيم الدولة أن تنكيله بالمجاهد المخالف أنه من نصرة وتعظيم تحكيم الشريعة وقمع الممانعين لها، ولذلك فلا يكتفي الجندي من هذين الفريقين بالحد الأدنى من هدف القتل والتعذيب، بل يزيد لاعتقاده أنه في عمل صالح، وقد تحدث أهل العلم كثيراً عن أثر الاعتقاد الفاسد في زيادة الجريمة، وزعماء تنظيم الدولة يستخدمون أحكام التكفير الغالية كسلاح لزيادة بسالة جنودهم في التنكيل بالمجاهدين تماماً كما يستخدم معمموا الشيعة اللطميات على كفر النواصب لزيادة بسالة جنودهم في التنكيل بمجاهدي أهل السنة.
-الموبقة المزدوجة:
خرج من بيت أهله في ريعان الشباب ووالداه يسبلان الدموع يحدوه قول الله (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ثم التحق بأفظع الكيانات المعاصرة في التنكيل بالمجاهدين "تنظيم الدولة" الذي لا يماثله في هذه الفظاعة إلا الميليشيات الرافضية، وبالتدرج والمسارقة الخفية أقنعته قيادات التنظيم أن الحركات الجهادية الأخرى مرتدون فبدأ يشارك في إطلاق النار عليهم، ثم تدرّج الإقناع حتى زيّنوا له أن يقتل نفسه بين الجماعات الجهادية الأخرى باسم الاستشهاد بين المرتدين، وفعلاً تقدم قليلاً وربط حزامه الناسف ودخل بين إحدى الجماعات الجهادية وقتل نفسه وقتلهم، فذهب إلى ربه وقد جمع موبقتين: الموبقة الأولى: قتل المؤمنين (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ). والموبقة الثانية: الانتحار وقتل النفس وفي الصحيحين (من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة)[البخاري:6047، مسلم:110].
إذا كان الرجل قد جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فجمع شرف الصحبة وشرف الجهاد ومع ذلك لما امتدت يده إلى كساء زهيد الثمن أثناء الغزوة ذاتها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قبره يشتعل عليه ناراً، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة في غزوة خيبر أن رجلاً (رُمِي بسهم، فكان فيه حتفه، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا والذي نفس محمد بيده، إن الشَّملة لتلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم»)[ البخاري: 6707، مسلم: 115].
فهذا في رجل جاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ إلا كساءً زهيداً له فيه شبهة ملك، فكيف بالله عليك فيمن يذهب للجهاد ويقتل نفسه ويقتل المجاهدين؟! فيجمع موبقة الانتحار وموبقة قتل المؤمنين مع موبقة الاعتقاد البدعي الفاسد؟!
-مراوغة المشايعين:
من أكثر المشاهد تكراراً في الحوارات التي طالعتها بين مشايعي تنظيم الدولة وناقديهم، أن يأتي الناقد ويذكر أخطاء التنظيم وانتهاكاته للشريعة وبطشهم بالمسلمين، فيأتي المناصر ويخرج عن محل النزاع كله ويتحدث عن شرف مقاومة المحتل ومظالم القوى الغربية ومكرها واستعمارها، وضرورة إيقاف المد الرافضي، الخ بل العدناني نفسه في مواضع متعددة في بياناته الرسمية في ردّه على ناقدي التنظيم يقول كما في بيان "ثم نبتهل" مثلاً (فما بالكم؟ خلّوا بيننا وبين الروافض، خلّوا بيننا وبين النصيرية، خلّوا بيننا وبين الصليبيين..) ويكرر العدناني ذات العبارة والمفهوم في موضع آخر كما في بيان "ياقومنا أجيبوا" (أيتها الفصائل فى كل مكان.. وتوبوا لربكم, خلوا بيننا وبين اليهود و الصليبيين والطواغيت..).
ومن الواضح في نظري أن هذا رغبة في الروغان عن محل النزاع المحرج، فهذا المسار في الاحتجاج والمجادلة يوهم المتابع أن ناقدي التنظيم أسهرهم الحزن والألم لماذا يحارب تنظيم الدولة أمريكا.. ويوهم المتابع أن ناقدي التنظيم يسحون الدموع لماذا يقاتل تنظيم الدولة النصيرية والميليشيات الرافضية.. ولا أحد أصلاً من ناقدي التنظيم هذه قضيته، بل قضية ناقدي التنظيم هي عكس ذلك تماماً، وهي أن جهد تنظيم الدولة الأكبر منصب على البطش بالمجاهدين واحتلال مناطقهم وسفك دمائهم وسلب أموالهم وتعذيبهم في المعتقلات وإذلالهم خارجها وتحيّن الفرص والغرة للإيقاع بهم.. ثم يأتي تنظيم الدولة ومشايعوه ويعيد الاسطوانة المكررة "دعونا نقاتل أمريكا وإيران!"، تقول لهم: أنتم تستبيحون دماء المجاهدين فيقول لك "خلو بيننا وبين الصليبيين والرافضة!"، وهكذا في سلسلة تهرب مستمر. وهذا يشبه حالة بعض زعماء الحكومات العربية، ينتقده المعارضون بالفساد المالي فيقول لا تشغلونا عن التنمية!
-المقولات فارغة المعنى:
ثمة مقولات يرددها مشايعو التنظيم في مواجهة ناقدي تنظيمهم وأصبحتُ –بكل صراحة- لا أدري هل يقولونها مقتنعين بها فعلاً أم يستعملونها للتشويش على الناقد؟ لأنها بكل وضوح هي عكس الواقع.
ومن هذه المقولات قولهم لمن ينتقد تنظيمهم "لا تطعن في المجاهدين"، وهذه عبارة في غاية الغرابة أن يظل هناك من يتمسك بها، لأن المشايع والمناصر حتى في الكيانات الضالة يحتاج أن يذكر حجة فيها اشتباه بين الحق والباطل على الأقل لتروج، وأما هذه العبارة فهي عكس الواقع كلياً، فتنظيم الدولة هو الذي يطعن المجاهدين ويكفرهم ويقتلهم ويعذبهم ويفخر بإعلان بعض ذلك، فكيف يقال لناقده لا تطعن في المجاهدين؟ وكيف يكون المناصر لمن يقتل المجاهدين هو الذي يذب عن المجاهدين؟ وكيف يكون المدافع عن كتائب الثورة وفصائل المجاهدين هو الذي يطعن في المجاهدين؟ هذا والله في غاية الغرابة.
وهذا السلوك يذكّرني ببعض الرموز الذين تصدروا لتجريح الدعاة والعلماء العاملين على الساحة، وإصدار سلاسل الأشرطة في كل واحد منهم، فإذا جاء من ينتقد هذا المُجرّح قام بعض طلابه وقال: اتق الله لا تغتب العلماء!
فالواجب اليوم هو أن يقال لكل من يناصر تنظيم الدولة "اتق الله، لا تطعن في المجاهدين" ولا تشارك في إثم من يطعنهم..
ومن هذه المقولات أيضاً التي أصبحت غير معقولة قول مناصري تنظيم الدولة لمن ينتقد تنظيمهم: "أنت تحت المكيف وهؤلاء تحت الرصاص" وهذه عبارة لا أظن أحداً اليوم يصدقها، لأن صواب العبارة أن يقال للناقد "أنت تحت المكيف وتنظيم الدولة فوق أعناق المجاهدين"، ولا يخفى أن من كان تحت المكيف فهو أقرب إلى الله من ملء الأرض ممن يتلذذ بإمرار شفرته على أعناق المسلمين، بل لا نسبة بينهما، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر (قلت يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك).
ومن هذه المقولات الفارغة من المعنى أيضاً قول مشايعي تنظيم الدولة لناقديهم "انفر للجهاد وسيقبلون منك"، وهذه وإن كانت تشوش على بعض الناس سابقاً، لكنها اليوم لم تعد كذلك، حتى قال بعض الظرفاء: (هذه العبارة فخ، لأنك إن نفرت للجهاد قتلوك باسم أنك صحوات!)، وعلى أية حال، فلا يحصي الناس اليوم كثرة من نقد تنظيم الدولة من كل الحركات والتيارات والمدارس الجهادية ومن شخصيات على الجبهات، ومع ذلك لم يزدهم هذا النقد إلا إصراراً على صحونة ناقدهم.
والمراد أن "كل شروط قبول النقد" التي يُظهرها التنظيم، نريد ناقداً مشاركاً في الجهاد، نريد ناقداً مناوئاً للحكومات العربية وليس جزءاً منها، نريد ناقداً جرب الاضطهاد والسجن، الخ أظهرت لي نتائج الدراسة أنها كلها شروط للاستهلاك الإعلامي والتشويش على المحتسبين عليهم، فهم قد كفّروا كل النقاد لهم الذين جمعوا كل هذه الشروط.
ولذلك فمن الأوهام التي قد تتسرب لبعض الناس أن يظن بعض المتصدرين للعلم والدعوة أنه لو ظهر ببعض المغامرات السياسية فإن تنظيم الدولة سيُعجبون به ويقبلون منه ثم يستطيع تصحيح توجهاتهم، وهذا وهم كبير، فانظر بالله عليك أرتالاً من القيادات التي قضت حياتها في التنقل بين جبهات القتال، وأمماً من أهل الكتابة الذين قضوا حياتهم في سجون الحكومات العربية، وكل هؤلاء ممن كان تنظيم الدولة يتغالى في تعظيمهم، ثم لما خالفوهم شبراً لم ينبذوهم فقط، بل حكموا عليهم بالردة! أتتوهم بالله عليك أن ستكون في نفوسهم مثل هؤلاء الذين انقلبوا عليهم؟! هذا تنظيم لديه رؤية واضحة جداً حول "سلطته" والأولوية النهائية عندهم "المشروع أولاً"، فإن كنت جزءاً من بيادق المشروع فأهلاً بك، وإلا جعلوك حطباً في محرقة المرتدين!
-خطر الغلو الجوهري: "المزايدات والمشاكلة الخفية":
لا شك أن مشهد المنتسبين للجهاد وهم يُقتلون ويُنحرون ويُفجّر في مجامعهم باسم الردة والصحوات، ويُعذّبون ويُذلّون ويُهانون باسم التحقيق مع المرتدين، على يد تنظيم الدولة؛ من أكثر الأمور فظاعة وألماً وحزناً، ولكن هذا خطر واضح جلي يقرؤه الناس، وإنما هناك خطر خفي للغلو قد يغفل عنه بعض أهل الساحة نفسها، وهو أن كتائب الثورة والفصائل الجهادية الفاضلة، تحت ضغط مزايدات تنظيم الدولة المتكررة حيث يشنع التنظيم عليهم بالقول: أنتم تحكمون بالطاغوت ولا تحكمون بالشريعة، أنتم تتولون الكفار وتظاهرون الطواغيت والمرتدين، ونحو هذه المزايدات، فإنه وإن كانت هذه الفصائل الجهادية الفاضلة تنكر هذا الطرح وتشجبه، إلا أنها تحت الضغط قد تقرر أموراً لم تكن تعتقدها لكف تنظيم الدولة عن مزايدته، أو تخفي أموراً هي من الحق لقطع الطريق على تنظيم الدولة في أن يستغلها في تشنيع المزايدات عليها، وبالتالي تتسرب قواعد الغلاة للفصائل تحت ضغط مزايدات تنظيم الدولة، فهذا هو الخطر الخفي المقلق فعلاً.
وسأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
فإنه من المعلوم أن من أصول السياسة الشرعية النبوية: استعمال كلا الطريقين للوصول للغرض: (الوسائل السلمية) و(الجهاد المسلح)، فمن الوسائل السلمية "سهم المؤلفة قلوبهم" في فريضة الزكاة حيث يعطى رؤوس الكفار من زكوات المسلمين لكسبهم للإسلام كما قال ابن قدامة (المؤلفة قلوبهم: وهم السادة المطاعون في عشائرهم، ممن يُرجى إسلامه، أو يُخشى شره، أو يُرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره..)، ومن السياسة النبوية (إبرام المعاهدات مع الكفار المحاربين) لمصلحة المسلمين، كما في "صلح الحديبية" وفيه مجامع دروس السياسة النبوية الحكيمة، ومنها (المفاوضات والاجتماعات مع سفراء الكفار المحاربين) كما اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بسهيل بن عمرو سفيراً للمشركين المحاربين وفاوضه، واستقبل سفيري مسيلمة المرتد.
ومنها: (الاستعانة بالكافر للمصلحة الراجحة) وقد قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي في كتابه الأم (رد رسول الله مشركا أو مشركين في غزاة بدر، وأبى أن يستعين إلا بمسلم، ثم استعان رسول الله بعد بدر بسنتين في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع كانوا أشداء، واستعان رسول الله في غزاة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك، فالرد الأول إن كان لأن له الخيار أن يستعين بمسلم أو يرده..)[الشافعي، الأم، ت رفعت فوزي، دار الوفاء، ص5/641]. وفي المسألة تفاصيل وقيود وخلاف ليس هذا موضعه، فليس البحث هنا في ترجيح آحاد المسائل الفروعية، وإنما في الإشارة لخروج المسألة من باب الردة ونواقض الإسلام إلى باب المسائل الاجتهادية الفروعية.
المهم أنه وبسبب كثرة مزايدات تنظيم الدولة على الفصائل في الشام صارت بعض القيادات الفاضلة تظهر التبرؤ من أي عمل من أعمال السياسة الشرعية النبوية! فتراه ينكر ويستنكر أن يكون قد التقى أو فاوض أو يجنح للسلم أو يقبل العون للمسلمين في محنتهم ونحو ذلك، كل ذلك تحاشياً من كلمة يلتقطها تنظيم الدولة ويزايد بها عليهم، وهذا خطأ كبير، فهذا فيه تأسيس لقواعد الغلو، وشرعنة لها، وانتقاصاً للسياسة النبوية وابتعاداً عن تحكيم الشريعة بعلم وحق، بل الواجب أن تواجه مزايدات تنظيم الدولة بالعلم، ولا يكسر الجهل مثل العلم، ويُبيّن للناس عظمة السياسة النبوية الشرعية ووسائلها الحكيمة.
كما يُبيّن للناس –أيضاً- أن كل ما يزايد عليه تنظيم الدولة في المفاوضات مع الأعداء فقد صنع تنظيم الدولة نظيره وزيادة، لكنه يستخفي بأكثر ذلك، فتنظيم الدولة يبيع ثروات المناطق التي يسيطر عليها ويستورد أسلحة وغيرها فمن أين له كل ذلك إلا بعلاقات مع الكفار المحاربين؟ كما أن التنظيم في بعض مخاطباته حاول أن يعتذر لنفسه أمام عوام الكفار في الدول الغربية المحاربة وقال لهم (يا أيها الأمريكان، ويا أيها الأوربيون؛ إن الدولة الإسلامية لم تبدأكم بالقتال كما توهمكم حكوماتكم ويصوّر إعلامكم، أنتم مَن بدأتم الاعتداء علينا، والبادئ أظلم..)[العدناني، بيان بعنوان: إن ربك لبالمرصاد، مؤسسة الفرقان، الدقيقة:18].
ما الداعي لإقناع عوام الأمريكان والأوروبيين بذلك؟ ولماذا هذا التمدّح بأن تنظيم الدولة لا يبدأ الكفار المحاربين بقتال؟ أليس هذا بحسب قواعد تنظيم الدولة من الهزيمة بجهاد الطلب والتبرؤ منه أمام القارئ الغربي؟! ولهذا نظائر سأعرضها لاحقاً بإذن الله.
والمراد أن هذا هو الطريق الحقيقي لقطع مزايداتهم، وهو أمران: الأول: بيان السياسة النبوية العظيمة في المفاوضات والمعاهدات واللقاء بالسفراء وتحقيق مصالح المسلمين وعدم التنازل عن هذه المكون من الشريعة لأجل مزايدات تنظيم الدولة، والثاني: كشف مفاوضات التنظيم مع القوى المحاربة التي يجريها تحت الطاولة.
ومن تدبّر مأساة المسلمين في سوريا بقتل النصيرية لهم بالبراميل المتفجرة وهدم بيوتهم واعتقالهم وتعذيبهم وتجويعهم وانعدام الدواء لهم والتعدي على أعراضهم وحصارهم أدرك أن هذه المأساة لعوام المسلمين ليست مجالاً للمزايدة على المفاصلة للقوى الخارجية الإقليمية والدولية، ولا يجوز لنا أن نمنع أي دعم ومساندة إقليمية أو دولية تخلّص عوام المسلمين في سوريا من هذا التقتيل والتعذيب والتجويع الذي يحيق بهم، وليست هذه المسألة رخصة يقابلها عزيمة لمن أراد أن يأخذ بها، لأن العزيمة التي تقابل الرخصة هي ما كانت شدتها على الشخص نفسه، أما إذا ترتب الضرر المتعدي على الغير فلا يجوز منع العون لمتضرري المسلمين بحجة الأخذ بالعزيمة، وكيف يهنأ شخص يزايد في هذه المسألة وهو ينام هانئ البال وأطفال الشام بالكاد يُتعرّف على ملامحهم تحت الأنقاض؟! وإذا كان تنظيم الدولة سيزايد على بعض الفصائل التي تطرق كل باب ممكن لغوث أطفال الشام وأيتامهم وأراملهم وجرحاهم فليزايد كما يشاء، فإن الله يقول في مواضع من كتابه (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وقال في موضع آخر (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى).
ومن الأمثلة على ذلك أن تطبيق الأحكام الشرعية علم عظيم عميق، تحكمه علوم الإسلام مثل أصول الفقه ومقاصد الشريعة وغيرها، ويبنى على أمور كثيرة، منها العلم بالشرع والخبرة بالواقع وتحقق الشروط وانتفاء الموانع ومراعاة المصلحة الراجحة والمفسدة والراجحة في التقديم والتأخير، وغير ذلك، ومراعاة هذه الأمور كلها هو من تحكيم الشريعة نفسها، ولكن مع كثرة مزايدة تنظيم الدولة على الفصائل في مسألة تحكيم الشريعة فإن عدداً من الفصائل الفاضلة صارت تشعر بالضغط من قواعدها لإبراز مظاهر من تحكيم الشريعة دون مراعاة القواعد الشرعية، فأصبح يتشرب الشعاراتية في تحكيم الشريعة حيث تتسرب له من تنظيم الدولة الذي يزايد عليه فيها، وكثيراً ما يتشرب الخصم شعارات خصمه، والواقع أن تنظيم الدولة نفسه هو أكثر الكيانات المعاصرة المنتسبة للجهاد انتهاكاً لأحكام الشريعة وكلامه عن تحكيم الشريعة شعاراتي وسيأتي بيان ذلك.
-دلالات تكفير الحركات الجهادية:
يميل كثير من الناس إلى أن أكثر الكيانات المعاصرة السياسية والعسكرية بعداً عن قضية تولي الكفار وتعطيل الشريعة هي: الحركات الجهادية الإسلامية، لأنها أصلاً ظهرت اعتراضاً على الخلل في هاتين المسألتين في الواقع، فإذا كان تنظيم الدولة يعتبر أن الحركات الجهادية ذاتها تظاهر المشركين على المسلمين، وتحكم بالطاغوت، فبالله عليكم كيف سيكون حكم هذا التنظيم على بقية المسلمين في العالم الذين يعملون في الدول المسلمة المعاصرة، وهم جزء من نظام هذه الدول ويعملون بقوانينها ويتحاكمون لمحاكمها ويظهرون احترام مسؤوليها الخ؟
بل إنني جلست مرة أتأمل: هل يوجد شخص في العالم اليوم يمكن أن يسلم من ناقضي الإسلام (تولي الكفار وتحكيم الطاغوت) بحسب فهم تنظيم الدولة لهذين الناقضين؟ فلم أجد أحداً، لا عالم ولا داعية ولا مثقف ولا مهني ولا رجل أعمال الخ، فالجميع –بحسب مفهوم تنظيم الدولة- يعملون في دول طاغوتية توالي الكفار وهم جزء من نظامها ويُحكّمون قوانينها ويتحاكمون لمحاكمها، فإن قيل ولكنهم مكرهون؟ فالجواب أن تنظيم الدولة قرر أنه بإعلانه الخلافة انتهت دعاوى المكث في الدول الطاغوتية بحجة الإكراه، وأن الهجرة اليوم ممكنة لتنظيمهم.
فإليك أيها الشاب الذي مازال له علاقة بتنظيم الدولة: أيتواطأ عامة علماء أهل السنة في العالم الإسلامي اليوم ومجاهديهم وفضلائهم على بطلان هذه التي تسمونها "الخلافة" ثم تطبق آثارها بكل تعنت كأن معك دليلاً قطعياً على صحتها؟ أيتواطأ عامة علماء العالم الإسلامي اليوم ومجاهديهم وفضلائهم على بطلان الصور التي يحكم بها التنظيم على الجماعات والأفراد بالردة ثم تطبق هذا الحكم على أهل لا إله إلا الله بكل برود كأن معك برهاناً من الله؟ وتطبق كل أحكام المرتد في الدماء والأموال والتغسيل والصلاة والترحم والولاء والبراء والمظاهرة الخ ثم تنتحر بينهم فتقتل نفسك وتقتلهم، كل ذلك لأجل قائد عسكري جزم لك أن الطائفة الفلانية مرتدة؟ وأنت أعلم من غيرك أن هذا القائد العسكري لا صلة له بالعلم، وأنت أعرف من غيرك أن هؤلاء الشرعيين حوله إنما وظيفتهم إسباغ الشرعنة على قراراته وأن أحدهم لا يطيق مواجهته بالإنكار؟!
حسناً، كنت قد كتبت تعقيبات ومناقشات لهذه المسائل الموضوعية المثارة في هذه الحلقة، وكتبت –أيضاً- نتائج أخرى من واقع وثائق التنظيم، ولكن طالت هذه الورقة جداً، فرأيت أن أفصل التعقيبات والنتائج المتبقية إلى حلقة قادمة قريبة بإذن الله.
وأعيد التأكيد مجدداً هنا أنني أعرضت عن أي تقييم لأي حركة جهادية هنا، وعزلت كل رأي شخصي لي في هذا الموضوع، لئلا ينعطف غرض البحث الأساس الذي هو فهم وتصور موقف تنظيم الدولة من الحركات الجهادية المعاصرة.
والنتيجة النهائية التي توصّلنا لها في هذه الحلقة أن تنظيم الدولة يكفر كل الحركات الجهادية اليوم فمن قاومه منها فهو مرتد، ومن استقل وحايد فهو منافق، وينفّذ مقتضى هذا التكفير بالقتل والتنكيل والتعذيب ضد الحركات الجهادية المعاصرة، وأن دماءهم أشهى الدماء عنده، وأن قتل الواحد منهم أحب إليهم من مائة رأس صليبية، كما يعبّر التنظيم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،
صيد الفوائد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة