إبراهيم السكران
تصدير المادة
المشاهدات : 5223
شـــــارك المادة
الحمد لله وبعد.. من أصول عقيدة أهل السنة المشهورة والتي ضمّنها أئمة السلف في عقائدهم "طاعة ولاة بالأمر بالمعروف" و "عدم الخروج فيما دون الكفر البواح"، وهي مبنية على نصوص قرآنية ونبوية معروفة، والمؤمن الصادق يضع هذه النصوص فوق رأسه وبين عينيه، ولا يجد في نفسه حرجاً منها، وفي لحظة تاريخية معينة ظهرت كتلة من المنتسبين للعلم زادت في معاني نصوص الطاعة فوق القدر الشرعي، وصاروا يستعملون التشهير والتقريع لأي عالم أو داعية مستقل يظهر شيئاً من النقد الموضوعي للواقع السياسي. هذه ظاهرة معروفة بين المعنيين بالعلم والدعوة، ثم بعد شبكات التواصل أصبحت ظاهرة يعرفها غير المتخصصين، لكن ظهر لها ممثلون جدد خلاف الرموز التقليديين لهذه الكتلة، ويطلق الناس عليها ألقاباً متعددة نسبة لبعض رواد الظاهرة، ويظهر لي أن من الأوصاف الموضوعية لهم وصف "غلاة الطاعة". وكان بعض طلاب العلم يناقشون هذه الكتلة بذكر نصوص بعض السلف الذين سلكوا مسلك الاستقلال والنقد الموضوعي المشاع للولاة، وجنس هذه الأخبار مجموعٌ بعضها في رسالة "أخبار الشيوخ" للإمام المرّوذي (ت 275هـ). على أية حال، هذا مشهد إجمالي لمرحلة سابقة، احتجنا الإشارة إليه تمهيداً لفهم سياقات جديدة، حيث أنه في أبريل 2013م طفت على سطح شبكات التواصل ظاهرة جديدة، وهي ظاهرة "المناصرين لتنظيم الدولة". ومنذ ذلك التاريخ بدأت تقع تعديات وعجرفات تنظيم الدولة بشكل متتابع، قتلت القائد الفلاني في الفصيل الفلاني، سلبت ممتلكات معينة، نفذت مجزرة في قبيلة مجاورة، وضعت يدها على منطقة محررة وقتلت من قاومها، ماطلت في تسليم قاتل معين.. وهكذا في سلسلة تجاوزات متوالية، وكان بعض المراقبين ينظر لهذه الشريحة المتصدرة لمناصرة التنظيم ويستغرب جداً أنها جاهزة للدفاع عن أي موقف لتنظيم الدولة، أي موقف، إما بإنكار وقوعه أصلاً، أو بالإقرار بوقوعه لكن بالتعسف في تأويله. بل ذكر لي بعض الأصدقاء أن هناك عدداً من الشخصيات المعروفة ممن كانت متصدرة لتناصر التنظيم في تلك الحقبة، وأنه كان يقفز لمعرِّفها بعد كل حدث ويتفاجأ كل مرة أنه لا يسلِّم بالخطأ، ولا في مرة واحدة، فالتنظيم دوماً على حق! وبدأ بعض المتابعين يطرح قياساً جديداً، وهو أنه يبدو أننا أمام ظاهرة "غلاة طاعة جدد"، نفس الأسلوب في تقديس السلطان، لكن مع اختلاف اسم الزعيم فقط. في بدايات تلك الحقبة كان الخطاب الرسمي لتنظيم الدولة يُظهِر أنه لا يُكفِّر المخالفين ولا الجماعات المجاهدة، ثم بعد ذلك بدأ يكشف عقيدته الحقيقية في نصوصه الرسمية في الحكم بردّة الجماعات الجهادية في العالم، والحركات الدعوية التي تشارك في الإصلاح السياسي عبر العمل البرلماني، والعلماء المنخرطين في مؤسسات النظم السياسية العربية المعاصرة، وعوام المسلمين العاملين في المؤسسات المعينة للنظم السياسة المعاصرة، وتنفيذ مقتضى وموجب ذلك فعلاً، باستحلال الدماء والأموال، والفتوى بطلاق نساء المجاهدين والعلماء في العالم لردة أزواجهن، ووصيتهن بالهجرة لتنظيم الدولة، وقد سبق عرض شواهد ذلك في ورقة (منزلة المجاهدين عند تنظيم الدولة). ثم بدأ التفجير في المساجد في بلاد الحرمين تحت ذرائع متنوعة، وقتل شاب لخاله الذي رعاه، وكانت هذه اللحظة محلياً –وبصراحة- لحظة فارقة كلياً في الموقف الشعبي الغاضب تجاه التنظيم، وفي هذه اللحظة لا أحصي كم سمعت شخصاً يتساءل: ما هذا المستوى من الخنوع والرضوخ عند هؤلاء المنتمين للتنظيم لدرجة أنه يطيع زعيماً يأمره أن يقتل نفسه في مسجد أو يقتل خاله الذي آواه وعاله؟! هذه العناصر للمشهد السابق تقودنا إلى التفكير الجاد في نمط التربية الحزبية لدى تنظيم الدولة، وأن "الغلو في طاعة القيادات" والاستكانة لها والتذلل بين يديها واعتبارها ميزان الحقيقة ومعيار الصواب؛ مكون رئيس في صياغة تفكير الأعضاء. ودعني أصارحك أيضاً، فقد كنت أظن أن هذا النمط في إلغاء شخصية الأفراد وسحق استقلالهم وتربية التصاغر والانصياع في نفوسهم وتحويلهم إلى كائنات مُنفِّذة في الواقع ومحامية على الشبكات فقط؛ كنت أظنه توجيهات داخلية للتربية الحزبية غير علنية، ثم لما درست وثائق التنظيم وجدتهم يعلنون بكل وضوح جزءاً من هذه المبادئ، وفسرت لي هذه الإعلانات جزءاً كبير من سلوكيات محامي التنظيم الشبكيين. والأمر المفاجئ هاهنا فيما يخصني، ليس أن هذا التنظيم لديه غلو في طاعة الولاة شبيه بما كنا نراه من غلاة الطاعة في بعض الحكومات المعاصرة، بل الذي فاجأني حقاً أن تنظيم الدولة وصل إلى مستوى علني فاق فيه كل الحكومات المعاصرة في تربية الإذعان والخنوع في أفراد التنظيم ومناصريه. تخيل معي مثلاً إلى ماذا يمكن أن يصل التخاشع والصغار عند كل المنتسبين لغلو الطاعة في الحكومات المعاصرة اليوم؟ ما هو أقصى مستوى من التذلل رأيتَه؟ هل ستقول لي: منع نقد الرئيس؟ أم تكلف شرعنة قراراته؟ أم الإسراف في إطرائه ومديحه؟ أم مخاطبته بعبارات الاستخذاء؟ أم تقبيل يده؟ أم ماذا؟ كل هذه المظاهر تجاوزها تنظيم الدولة، نعم أنا جاد فيما أقول، هل تتذكر كيف كنت تشمئز حين ترى رجلاً من أهل الشرف والعلم ينحني لتقبيل يد مسؤول؟ أتتذكر كيف كنت تتقزز من هذا المشهد؟ حسناً اقرأ ماذا يقول المتحدث الرسمي لتنظيم الدولة في بيان رسمي يتلوه بصوته يتحدث فيه عن زعيمهم أبي بكر البغدادي: (وما أدراكم من أبو بكر؟! إن كنتم تتساءلون عنه فإنه حسيني قرشي من سلالة آل البيت الأطهار, عالمٌ عاملٌ عابدٌ مجاهد.., حري به أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه، وتقبيلها، ودعوته أمير المؤمنين, وفدائه بالمال والنفس والولد, والله على ما شهدت شهيد)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: إن دولة الإسلام باقية، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 49] . هكذا إذن: "التقرب إلى الله بغسل قدمي البغدادي من الأقذار ثم تقبيلها"! وخطر في ظني أول ما سمعتها في بيان التنظيم أنها عبارة واحدة مرّت وأن أتباع التنظيم سيرفضونها حتماً ويرون فيها إراقةً لكرامتهم، ثم غمرتني الدهشة حين رأيت أحد الشخصيات المناصرة لهم كتب رسالة مشهورة في تقرير وجوب مبايعة زعيمهم اسمها (مد الأيادي لبيعة البغدادي) ويذكر أهل الخبرة أنها لأحد شرعييهم المعروفين من أهل البحرين، وجعل الرسالة على ثلاثة محاور، المحور الأول منها هو في عرض ما سمّاه (مناقب البغدادي)، وذكر في ثنايا هذه المناقب ذات العبارة التي قالها العدناني في تعظيم البغدادي: (حري به أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه، وتقبيلها..، وفدائه بالمال والنفس والولد)[همام الأثري، مد الأيادي لبيعة البغدادي، ص9]. حين أخذت أتأمل هذه "العبادة والقُربة" في البيان الرسمي لتنظيم الدولة تذكرت عبارة علقت بذهني مذ قرأتها قبل سنوات طويلة للإمام الحافظ سليمان بن حرب (ت224هـ) وهو شيخ البخاري وأبي داود وطبقتهم، وقد أكثر عنه البخاري في صحيحه، وهو قاضي مكة في زمنه، حيث أن من المسائل المشهورة في الفقه مسألة "حكم تقبيل يد أهل الفضل" وأكثر أهل العلم على جوازها بقيود يذكرونها كأن لا يمد يده للناس وأن لا يتخذ عادة وأن لا ينحني من يقبلها ونحوه، وتلاحظ في هذه القيود قصد الفقهاء إلى سد ذريعة المغالاة في التعظيم، وفيها آثار كثيرة جمعها الحافظ ابن المقرئ في جزء مطبوع، وكان الإمام مالك ينهى عنها، أما الإمام سليمان بن حرب فقال عبارة لافتة في صياغتها، حيث قال: (تقبيل يد الرجل: السجدة الصغرى)[المرّوذي، الورع، ت الزهيري، مكتبة المعارف، ص148]. وأظن هذه العبارة للإمام سليمان بن حرب هي التي عناها الإمام ابن عبد البر في قوله "كان يقال تقبيل اليد إحدى السجدتين"، وأما النبي صلى الله عليه وسلم والوالدان فيذكر لهما أهل العلم اختصاصات في تقبيل اليد والرجل لعظم حقهم. وليس المقام هنا مقام ترجيح فقهي في هذه المسألة الفروعية، ولكنه مقام اعتبار بتعليلات الأئمة في مطاوي هذه المسائل، فانظر كيف تحرز الإمام سليمان بن حرب من تقبيل الأيدي سداً لذريعة الغلو في التعظيم حتى رأى فيها خضوعاً زائداً فسماها "السجدة الصغرى"، فكيف لو رأى الإمام سليمانُ بن حرب المتحدثَ الرسمي لتنظيم الدولة وهو يعلن لأتباع التنظيم وللناس أن صاحبهم البغدادي ممن يتقرب إلى الله "بغسل رجليه وتقبيلها"! أي هوان وخضوع سيراه الإمام سليمان بن حرب في هذا؟! وإذا كان سمى تقبيل اليد "السجدة الصغرى" فماذا سيسمي "التعبد لله بغسل أقدام الأمير وتقبيلها"؟! حين قرأت هذه العبارة "حريٌ أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدمي البغدادي، وتقبيلها" خطر في ذهني صورة أبي بكر البغدادي وهو متشح بالسواد يخطب في ذلك المقطع المعروف الذي بثه تنظيم الدولة، فأخذت أتذكر الدماء التي أزهقها وأقول في نفسي: يا الله .. هذا هو الرجل الذي يعتقدون أنه من التقرب إلى الله "غسل أقدامه من الأوساخ وتقبيلها" ؟! الحمد لله على عزة الإسلام والسنة.. ولا أعلم أحداً من أئمة السلف ثبت عنه أنه سوّغ "تقبيل أقدام السلاطين" فضلاً عن هذه الصورة المركبة التي فيها مزيد إمعان في الاستخذاء في جمع ذل التنظيف وغسل القدم، مع ذل إنزال الوجه والتقبيل، مع الإطراء والرفع فوق المنزلة، مع أن أهل العلم إنما يتحدثون أصلاً في مثل هذه السياقات عن "أئمة العدل والتقوى" فكيف بزعماء الجور الذين شهد جماهير المسلمين الذين هم شهداء الله في أرضه على خوضهم في الدماء والمظالم؟ نعم، جاءت آثار في تقبيل الصحابة قدم النبي صلى الله عليه وسلم وعامتها معلول متكلم فيه، كحديث زارع بن عامر وحديث بريدة، وسيدي رسول الله يستحق هذا وأعظم منه، وفي الباب قول هرقل ملك الروم كما في البخاري (فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) ولكن ومع ذلك كله، وحتى لو سلمنا جدلاً بثبوت بعض هذه الآثار؛ فإني أستبعد جداً أن يجترئ هؤلاء بالقول أن ما روي مما فعلته الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نفعل نظيره في تعظيم البغدادي. وفي بعض كتب الفقه المتأخرة توسع في جنس هذه المسائل دخلت عليهم من جهة التوسع الصوفي في تقبيل الصالحين والتبرك بهم ولها نظائر في كتب الفروع المتأخرة. والمراد أن قول تنظيم الدولة في بيان رسمي أن زعيمهم البغدادي "حري أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه، وتقبيلها" يفسِّر المشهد الذي رآه الناس من خنوع مناصريهم واستعدادهم المستمر للدفاع عن أي موقف للتنظيم، ويفسر –أيضاً- ما رآه الناس من رضوخ جنودهم لتنفيذ أي عملية تفجير أو انتحار مهما بلغت شناعتها في انتهاك الشرع. فما دام الغلو في الاستسلام للبغدادي انتهى عندهم إلى التقرب لله بشطف ورحض قدمي البغدادي والهوي بالشفتين لطبع القبلة عليها، فمن المؤكد أن العقل الذي بلغ قبول ذلك سيكون قد علّق خاصة النظر والتعقل مسبقاً. كيف يقبل البغدادي أن يعلن تنظيمه في بيان رسمي يدعوا أتباعَه لاعتقاد "التقرب لله بغسل قدمي البغدادي وتقبيلها"؟ والله يقول (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ).. وقال سبحانه (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ).. كيف يقبل البغدادي مثل هذا وهو أول من يعلم كذب هذه الهالات المناقبية التي نسبت له في البيان الرسمي والله يقول {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.. وهل هذا خطاب من يجاهد لتكون "كلمة الله هي العليا"، أم هذا خطاب من يقاتل لتكون "كلمة الزعيم هي العليا"؟ ومثل هذه النفوس المشحونة بروح التعاظم والتيه يعاقبها الله بأمور من أعظمها أن يحول بينها وبين الانتفاع بالحجج والأدلة والبينات كما قال الله (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).. ولذلك يلاحظ الناس أن الزعماء المتغطرسين من أقل الناس انتفاعاً بالنصائح والعظات.. ويمكن أن يكون في هذا تفسير يجيب عن استغراب المعنيين بالشأن الشامي أيام بداية النزاع بين تنظيم الدولة والفصائل، حيث أن كل من سعى للإصلاح والمناصحة تلك الأيام انتهى إلى خيبة الأمل بسبب عجرفة تنظيم الدولة وتصعيره الخد لأي ناصح مهما بذل وضحّى.. فمن المحتمل أن يكون هذا من العقوبة الإلهية لزعماء التنظيم التي قال الله فيها (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).. وربما لاحظ القارئ –أيضاً- في نص البيان السابق ذكرهم الفداء بالنفس والولد لزعيمهم البغدادي (حري به أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه، وتقبيلها، وفدائه بالمال والنفس والولد). أي أن أتباع تنظيم البغدادي يُوجّهون إلى اعتقاد التقرب إلى الله بفداء البغدادي بأنفسهم وأولادهم، فيُوجّهون لاعتقاد التعبد لله بتعريض أولادهم للقتل صيانة لسلامة البغدادي. ومن الطريف أن تنظيم الدولة في تفخيمهم للبغدادي يقتبسون ذات الأساليب الإعلامية التطبيلية في الدول المستبدة المعاصرة، وقد مرّ بي نماذج لذلك: فمثلاً تجد في اللغة الإعلامية التطبيلية في الدول المستبدة المعاصرة كثرة ذكر الجولة التفقدية للرئيس وأنه يسأل عن تفاصيل احتياجات المواطنين ونحو ذلك، وهكذا يقول تنظيم الدولة عن البغدادي: (وكذلك دأب الخليفة حيث يتأكد من أن كل احتياجات المسلمين يتم مراعاتها قدر الإمكان حتى في وسط الحرب الشرسة من قِبَل الصليبيين)[مجلة دابق، العدد 4، ذو الحجة، 1435هـ، ص27] وهذا نموذج آخر أيضاً: تجد في اللغة الإعلامية للدول المستبدة أنهم يعرضون أحد المشروعات ثم يذكرون في ثنايا العرض أن الفكرة فكرة سموه وسيادته! وهكذا في تقرير خاص عرض تنظيم الدولة لمشروع لديهم وهو التخلص من العملة "الورقية" وسك عملات "معدنية"، مشيرين إلى مشروع سك العملات المعدنية في عهد عبد الملك بن مروان، وعلى طريقة الإعلام التقليدي ذكروا أن الفكرة فكرة سيادة الرئيس! كما يقول التنظيم في التقرير: (في محاولة لتخليص الأمة من الفساد والنظام المالي العالمي القائم على الربا الفاسد، فإن الدولة الإسلامية أعلنت عن سك نظام نقدي جديد مبني على القيمة الذاتية للذهب والفضة والنحاس..، هذه المبادرة تم طرحها من قِبل أمير المؤمنين الخليفة إبراهيم بن عواد القرشي، الذي كلّف بيت المال بدراسة المسألة وتقديم مقترح متكامل عن تنفيذها..)[مجلة دابق، العدد الخامس، محرم، 1436هـ،ص18] ثم عرضوا صور التصاميم للعملات المعدنية التي سيصدرونها والرسومات الرمزية عليها، فأحد العملات عليها صورة رمح ودرع، وعملة أخرى عليها صورة سنابل، وهكذا، وشرحوا الرسالة المستهدفة من كل صورة رمزية، كقولهم (منها صورة لسبع سنبلات لتعبر عن بركة الصدقة، ومنها رمح ودرع يعبّران عن الأرزاق المتحصلة من الجهاد..)[المصدر السابق]. والمراد أن وجه الشاهد هنا هو اقتباسهم أسلوب الإعلام الرسمي في عرض المشروعات الحكومية وأنها أفكار صاحب السمو وسيادة الرئيس " هذه المبادرة تم طرحها من قِبل أمير المؤمنين الخليفة". ولا يزال السؤال هاهنا قائماً وهو: كيف يتمكن تنظيم الدولة من صناعة الإذعان في أتباعه؟ وما تفسير هذا الانصياع لدى جنوده المقاتلين ومحاميه الشبكيين؟ والجواب أن علماء السلوك الإسلامي قدموا تحليلات مُعمّقة لكيفية تخلُّق الاستسلام في البشر، وخلاصته: "أن الإذعان في جوهره حال قلبي للتابع وهو فرع عن اعتقاد الكمال في المتبوع، سواءً كان كمالاً حقيقياً أم وهمياً"، كما يشرح ذلك أبو حامد الغزالي بعبارات خلابة يستكشف بها مجاهل النفوس فيقول: (ولا تصير القلوب مُسَخَّرةً إلا بالمعارف والاعتقادات، فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتَسخَّر له بحسب قوة اعتقاد القلب، وبحسب درجة ذلك الكمال عنده، وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه، بل يكفي أن يكون كمالا عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً، فإن انقياد القلب حال للقلب، وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها)[الغزالي، إحياء علوم الدين، دار الخير، ص4/62]. ثم تظهر آثار هذا الإذعان والتسخير على التابع كما يشرح ذلك أبو حامد أيضاً: (وله ثمرات: كالمدح والإطراء، فإن المُعتقِد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه، وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سُخْرةً له مثل العبد في أغراضه، وترك المنازعة والتعظيم..)[المصدر السابق، ص4/63]. ولأجل تحقيق ذلك فإنك تجد تنظيم الدولة يشحن أفراده بذكر صفات الكمال في أبي بكر البغدادي لصناعة الهالة في نفوسهم بحيث تنتهي إلى إذعانهم وتسخيرهم، وهذا له نماذج: فمن ذلك أن البيان الرسمي السابق الذي ذكر فيه التنظيم "التقرب لله بغسل قدمي البغدادي وتقبيلها" ذكر فيه في موضع واحد فقط أكثر (17) صفة ومنقبة عظيمة تفخيمية للبغدادي وهي (العلم، العمل، العبادة، الجهاد، العقيدة، الجلد، الإقدام، الطموح، الحلم، العدل، الرشد، التواضع، الذكاء، الدهاء، الإصرار، الصبر، النسب القرشي..) كما يقول البيان الرسمي للتنظيم: (وما أدراكم من أبو بكر؟! إن كنتم تتساءلون عنه فإنه: حسيني قرشي من سلالة آل البيت الأطهار, عالمٌ عاملٌ عابدٌ مجاهد, رأيت فيه عقيدة وجلد وإقدام وطموح أبي مصعب, مع حلم وعدل ورشد وتواضع أبي عمر, مع ذكاء ودهاء وإصرار وصبر أبي حمزة, وقد عركته المحن وصقلته الفتن، في ثماني سنين جهادٍ يستقي من تلك البحار، حتى غدا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب, حري به أن يُتقرّب إلى الله بالغسل عن قدميه وتقبيلها، ودعوته أمير المؤمنين, وفدائه بالمال والنفس والولد, والله على ما شهدت شهيد..، وإني لأحسب أنّ الله عز وجل قد اختاره وحفظه وادّخره لهذه الأيام العصيبة, فهنيئًا لكم يا أبناء الدولة بأبي بكر)[أبو محمد العدناني، بيان بعنوان: إن دولة الإسلام باقية، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 49]. تلاحظ هنا كيف سرد صفات الكمال التي تتجاوز سبع عشرة منقبة، وأنها تفرقت في غيره وتكاملت فيه، كل ذلك تمهيداً ليقول "حري أن يتقرب لله بغسل قدميه وتقبيلها"، ثم اعتبر أن الله جل جلاله أكرم هذه الأمة بهذا الرجل الخارق بصفات كماله في هذا التوقيت، بما يستحق أن يرسل التهاني للأتباع بهذه النعمة، باعتباره البغدادي "ادخار إلهي" لهذه الأمة في هذا التوقيت. والحقيقة أن المتابع الموضوعي إذا رأى هذه الصورة المركية، وهي: أن يُغذَّى خيال الأتباع باعتقاد هذه الكمالات المعجزة في زعيمهم، والتي تفرقت في الناس واجتمعت فيه، والإطراء والرفع فوق المنزلة، ثم يُوجّهون إلى اعتقاد التقرب لله بغسل قدميه وتقبيلها؛ فإنه من المحتمل أن يكون هذا دخول فيما يسميه أهل العلم "ذرائع الشرك". والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب من عنايته بهذه القاعدة "سد ذرائع الشرك" عقد لها بابين في كتاب التوحيد، (باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك) و (باب حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك)، وزاد على ذلك أن أشار لهذه القاعدة مراراً في مسائل الأبواب التي يذيّلها بها، وقال بعض علماء الدعوة (وسد الذرائع الشركية: من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا في كتاب التوحيد لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام ما أفقهه)[الدرر السنية، ص8/314]. ومما يقرب الأمر ويسوّغ احتمالية دخول هذا السلوك في باب ذرائع الشرك الحديث الذي روي عن أنس وفيه حنظلة واستشهد به أبو العباس ابن تيمية حيث قال (أما تقبيل الأرض، ورفع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك: فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا)[مجموع الفتاوى، ص1/372]. ومن الإشكالات التي يطرحها فهم النماذج الفكرية أن يقال: من المعلوم أن اتجاهات الغلو في الدماء يغلب عليها نزعة الحرورية أما اتجاهات الغلو في طاعة السلطان فيغلب عليها نزعة الإرجاء، فكيف اجتمع هاهنا الغلو الحروري في الدماء، مع الغلو الإرجائي في طاعة السلطان؟ فالجواب أن هذا التناقض في التكوين العقدي قد يوجد في جبابرة الجور، لأنهم يريدون توظيف مكتسبات البدعتين كليهما، فيستثمرون بدعة الحرورية لإبادة المخالف، ويستثمرون بدعة الإرجاء للغلو في السلطان، ومن شواهد ذلك أن الحجاج بن يوسف كان يسرف في قتل المناوئين ويغلو في طاعة السلطان، وكما في مسائل الإمام أحمد أن سعيد بن جبير سئل عنه (قال مالك بن دينار: سألت سعيد بن جبير وهو في المسجد الحرام: يا أبا عبد الله ما أميركم هذا؟ قال: يفسّر القرآن تفسيراً أزرقياً في طاعة شامية، يعني الحجاج)[مسائل الإمام أحمد رواية صالح، ت فضل محمد، الدار العلمية بالهند، ص2/418] وهذا من بديع دقة نظر الإمام سعيد بن جبير حين نظر للصورة المركبة من البدع في الخطاب الواحد، وقوله "تفسير أزرقي" نسبة إلى الأزارقة أحد أشهر طوائف الخوارج، وقوله "طاعة شامية" أي يغلو في طاعة السلطان، حيث كان السلف يسمون الغلو في طاعة الولاة "الطاعة الشامية"، لأنها ظهرت أول ما ظهرت من جهة الشام في عهد بعض بني أمية، كما قال الإمام ابن تيمية (ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقاً، وأن من أطاعه فقد أطاع الله، ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال "طاعة شامية")[ابن تيمية، منهاج السنة، ص6/431]. ومن أهم المناقب والمفاخر والخوارق التي ينسبها التنظيم لزعيمهم أبي بكر البغدادي، ويستعملونها لتحقيق عدة أغراض: لتربية الخنوع في الأتباع، ولاستئصال المنافس الجهادي، واستقطاب الجمهور البسيط؛ هو ما يمكن تسميته "أسطورة الانفراد بالتحكيم الكامل للشريعة". فيصوّرون لأتباعهم بشكل مستمر وبصيغ متنوعة ويكثرون من الطرق عليه: أن الأمة بعلمائها ومجاهديها ودعاتها وعامتها أطبقوا على الحكم بالطواغيت، وأن أبا بكر البغدادي انفرد بالتحكيم "الكامل" للشريعة، وأن الناس تواطؤوا ضده كرهاً له لأنه حكّم الشريعة "كاملة". وبسبب تشرّب جنود التنظيم ومحاميه الشبكيين لهذا الاعتقاد في متبوعهم أصبحوا مُسخّرين له لاعتقادهم هذا الكمال الوهمي فيه لأن أحوال القلوب تبع لاعتقاداتها كما سبقت الإشارة. وهذه القضية، أعني "أسطورة التحكيم الكامل للشريعة" من أخطر الاعتقادات الوهمية لدى أتباع التنظيم، ولذلك سنعالجها في الفقرة القادمة. -شعاراتية تحكيم الشريعة: الاجتهاد وبذل الوسع في "تحكيم الشريعة" من أعظم أصول الإسلام، وكلمة "تحكيم الشريعة" كلمة عزيزة في نفس كل مسلم يحب الله ورسوله، وقد أشرنا آنفاً إلى أن تنظيم الدولة يروج فكرة انفراده بالتحكيم "الكامل" للشريعة، وأن الأمة بعلمائها ومجاهديها ودعاتها يحكّمون الطواغيت، ويوظف التنظيم هذه الفكرة في ثلاثة أمور: استقطاب الجمهور البسيط، وتسخير أتباعهم باعتقاد الكمال الاستثنائي في المتبوع، وفي تكفير واستباحة دماء أي كيان أو فرد يعارض مشروعهم باعتباره وقوف في وجه الحامل المنفرد للشريعة على وجه الأرض. وقد نفّذوا موجب ذلك فعلاً فبناءً على هذه الفكرة التي يروجونها "أسطورة تحكيمهم الكامل للشريعة" وأن مخالفيهم يخالفون تحكيم الشريعة؛ فقد كفروا واستباحوا دماء الجماعات الجهادية والحركات الدعوية والشخصيات العلمية وقطاعاً واسعاً من عوام المسلمين، وقد شرحنا ذلك وذكرنا شواهده في الحلقات السابقة، وخصوصاً حلقة (منزلة المجاهدين عند تنظيم الدولة). والحقيقة أن الدارس الموضوعي لسلوكيات تنظيم الدولة يدرك أن قضية تحكيم الشريعة لدى التنظيم هي قضية "شعاراتية" وليست تحكيماً صادقاً متلهفاً لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقهها وأخلاقها وإيمانها، والمقصود بالشعاراتية هو الأمر الذي يتظاهر بالعمل به كيان معين وهو لا يعمل به على الحقيقة وإنما يستخدمه لتكتيل الأنصار ودهس الخصوم، وسنذكر بعض المشاهد. من أخطر المظاهر الوضعية المخالفة للشريعة لدى التنظيم "استعمال الحيل" في العقائد والأحكام، فإذا كان الأمر يتعلق بمنافس جهادي لهم استحضروا قواعد وأقوال وركبوا صوراً فقهية لتصل في النهاية لتأصيل شرعي للبطش بالمخالف، وإذا كان الأمر يتعلق بأخطاء منتسبيهم ماطلوا وتذرعوا بأوهن المستمسكات. فالحاكم النهائي في مواقف التنظيم ليس هو النص الشرعي ولا مذهب فقهي معين، وإنما "مصلحة الحزب"، ويُتطلَّب لمصلحة الحزب كل مرة التأصيل الخادم لها، وبسبب هذه الحيل صارت لديهم ظاهرة يمكن تسميتها "مطّاطية مناطات التكفير" حيث أصبحت مناطات التكفير في أيديهم كالعجينة التي يمدونها تارة لغمر مناوئ ويقلّصونها تارةً أخرى لتبرئة مشايع لهم. ومن أوضح مظاهر الحيل والمراوغة بالأحكام عندهم قواعد السياسة الشرعية فإنهم يتوسّعون لأنفسهم إذا احتاجوها، وإذا عمل بها الفصيل المخالف هوّلوا عليه بأنه يتميع في الدين ويداهن الكافرين وينهزم عن العزة بالشريعة حتى يصل الأمر لتكفيره على بعض ذلك. والمراوغة بالحيل في الأحكام الشرعية ليست نازلة جديدة، بل لقد قص الله خبرها في كتابه، حين عاقب أصحاب السبت بمسخهم قردة لما احتالوا على النصوص، وحكمة مسخهم قردة كما ذكر بعض أهل العلم أن الحيلة تظهر مشابهة النص وكذلك القرد يظهر أنه أشبه الحيوانات ببني آدم، فعاقب الله خلقتهم من جنس تأويلهم، قال الإمام ابن تيمية: (ومعلوم أنهم لم يستحلوها تكذيبا لموسى وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتّقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا -والله أعلم- مُسِخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظاهرهم دون الحقيقة جزاءً وفاقا)[ابن تيمية، بيان الدليل، ت الخليل، دار ابن الجوزي، ص43]. وسبب تشنيع عقوبة أهل الحيل أمور منها أن فاعل الحرام وهو معتقد حرمته قد ينكسر ويتوب، وفاعل الحرام محتالاً على النص يقوى قلبه عليها ولا يستحي من الله، كما قال ابن تيمية: (أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأكلوا أموال الناس بالباطل كما قصه الله في كتابه وذلك أعظم من أكل الصيد المحرم في وقت بعينه..، ثم إن أكلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا بالمسخ كما عوقب به مستحلو الحرام بالحيلة، وإنما عوقبوا بشيء آخر من جنس عقوبات غيرهم، فيشبه -والله أعلم- أن يكون هؤلاء لما كانوا أعظم جرماً فإنهم بمنزلة المنافقين، وهم لا يعترفون بالذنب بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم..، كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن من أكل الربا والصيد المحرم عالما بأنه حرام، فقد اقترن بمعصيته اعترافه بالتحريم وهو إيمان بالله وآياته، ويترتب على ذلك من خشية الله ورجاء مغفرته وإمكان التوبة ما قد يفضي به إلى خير، ومن أكله مستحلا بنوع احتيال تأول فيه فهو مصر على الحرام، وقد اقترن به اعتقاده الفاسد في حل الحرام، وذلك قد يفضي به إلى شر طويل، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته ذلك فقال «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»)[المصدر السابق، ص43] . وهذا هو الذي رآه الناس فعلاً من جماعة الغلاة، فإنهم يسفكون الدماء المحرمة ويسلبون الأموال ويتفننون في شنائع القتل ضد المخالفين بتأصيلات شرعية يظهرونها، ويرفضون إخضاع أتباعهم ومبايعيهم لجنس هذه التأصيلات؛ فيستحلون الدماء والأموال بالحيل والمراوغة، ولذلك لا تجد في نفوسهم انكساراً لله من معاصيهم وجرائمهم، بل يزدادون استعلاءً بسبب إظهارهم الباطل في صورة الحق. ومن أسباب هذه الغطرسة أن التحريف والتلبيس في الشرعيات يغر المرء ويجعله مقدِماً على المعاصي، وقد نبّه كتاب الله على هذا، كما قال الله {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. واعلم أن عامة الجرائم لا يواقعها المرء إلا وقد وضعها له الشيطان في قالب تبريري، وحتى القتل وإزهاق النفوس، بل حتى "قتل الأقارب" الذي تستفظعه النفوس لا يكون إلا بتزيين كما قال الله {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}. وهذا كله أدخله السلف في"مخادعة الله" وقد قال الله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، ومن أكثر عبارات الأئمة عمقاً وجمالاً في صياغتها عبارة الإمام التابعي الجليل أبو بكر أيوب السختياني حيث قال عن أهل الحيل في الأحكام الشرعية في أول ظهورها من جهة الكوفة (يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي)[نقلت بألفاظ متفاوتة، وقد علقها البخاري في صحيحه (6964)، وذكر ابن حجر في التغليق أن وكيعاً وصلها في مصنفه 5/264]. فقول الإمام أيوب عن أهل الحيل "يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان" فيه وصف لحال غلاتنا كأنه يراه، فمراوغات الغلاة في قواعد التكفير والدماء لا يراعون فيها حتى قوة الشبهة لتمريرها على الناس، بل فيها سفور في الصياغة كأنما صممت لمخادعة الصبيان. وقول الإمام أيوب "لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي"، هو من كمال فقهه رحمه الله، فهو يقول لو عصوا الله معترفين بالمعصية لكان أهون من معصية الله ونسبة معصيتهم للشرع، بما يعني أن هؤلاء لو اعترفوا أنهم كانوا مخطئين مقصرين في الدماء التي سفكت لكان أهون من أن ينسبوا تلك الجرائم للشريعة، لأن المعترف حري به التوبة والمكابر يزداد إسرافاً. وقد نبّه كتاب الله إلى أن الشيطان قد يوسوس للمجاهد بالتعنت في قبول إسلام الخصم من أجل الأغراض الدنيوية كما قال الله {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فتدبر هذه الآية ثم تأمل كم تعنّت هذا التنظيم في اختراع قواعد التكفير لأجل عرض الدنيا من السلطة والهيمنة والاستيلاء على الغنائم.. ومن تدبر هذه الحيل والمراوغات أدرك أن تنظيم الدولة دخل في "تبعيض الشريعة".. فبالله عليك ألستَ تعلم أن تنظيم الدولة يحفل بالأحكام الشرعية التي فيها سيادته وظهوره وغنيمته، ويماطل في الأحكام الشرعية التي فيها غضاضة عليه؟ أليس هذا تبعيضاً للشريعة والله يقول {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}، ويقول (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) ويقول سبحانه {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}، ويقول سبحانه {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: إنزال الذات والحزب منزلة الشرع، فمن انتقدهم أو خالفهم أو وقف في طريقهم فهو يقف في وجه الإسلام، حتى وصلوا لمرحلة الإعلان عن قاعدة "من قاتلنا فقد كفر" كما يقول البيان الرسمي (فاحذر فإنك بقتال الدولة الإسلامية تقع بالكفر، من حيث تدري أو لا تدري)[العدناني، بيان بعنوان: يا قومنا أجيبوا داعي الله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 14]، والتي سبق بيانها في أول حلقة من سلسلة هذه الدراسة. ومن مظاهر "إنزال الذات والحزب منزلة الشرع" قولهم في بيان رسمي آخر(وقوف بعضكم ضد مشروع الدولة, ضد الحكم بما أنزل الله)[العدناني، بيان بعنوان: دولة الإسلام باقية، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 25]. وهكذا فوقوف أي شخص ضد مشروع تنظيم الدولة هو بالتعريف "وقوف ضد الحكم بما أنزل الله"، وليس وقوفاً ضد انتهاكات تنظيم الدولة للشريعة بما فيها الغلو وتكفير أهل الإسلام واستحلال دمائهم وأموالهم وتعذيبهم في المعتقلات والتسلط بالخصوص على الفصائل الجهادية والحركات الدعوية والشخصيات العلمية والتحايل والتلاعب بالقواعد الشرعية بحسب المصالح الحزبية. وهذا يشبه من يسطو على أموال التجار فمن قاومه قال لهم "أنتم ضد العدالة في توزيع الثروة والله يقول كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم"، أو من يروج الفن الهابط فمن احتسب عليه قال له "أنتم ضد استمتاع الناس بزينة الله التي أخرج لعباده"، ونحو هذه الحجج. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: قيام أصولهم في باب الدماء على مفهوم "القتل الجاهلي"، سواءً في أسبابه، أو وسائل تنفيذه، فإن قتالهم مبني على التجبر على المسلمين، والعدوان في الابتداء، والزيادة في الاستيفاء، والإسراف في الثارات، وروح الانتقام والضغائن، والمفاخرة وحمية الجاهلية وأخذ العزة بالإثم والعصبية الحزبية، والتمثيل بالجثث وتشنيع وسائل القتل، ويشمله كله معنى "العدوان". وقد قال الله في قتال البطر الجاهلي {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}، وكم من مرة خرج تنظيم الدولة بأرتاله يبث صورها يستعرض بها على الفصائل المجاهدة والقبائل الفاضلة بطراً ورئاء الناس.. وأما "قتال الحمية الحزبية" ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قاتل تحت راية عُمِّيَّة، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل؛ فقتلة جاهلية)[مسلم: 1848]، وكم من مرة تنادوا للثأر لرايتهم وحزبهم لا لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا.. وأشهر مثال على هذا "القتال الجاهلي" عند تنظيم الدولة، بل الذي يبدو لي أن هذه الواقعة ستبقى حزازة تاريخية في ذكر أخبار العدوان في هذا العصر، تروى مع أخبار فظائع الميليشيات الشيعية، وأستبعد جداً أن ينسى أهل الشام والعراق هذه الحادثة وفجيعتها عقوداً من الزمن قادمة، هي حادثة القتل الشنيع الجماعي لرجال وشباب "قبيلة الشعيطات" السُّنيَّة، بهدف بث الذعر في القبائل لتستسلم وتبايع ولا تخرج عن بيت الطاعة والخضوع.. ولو وضعت كل جرائم تنظيم الدولة في كفة وجريمة القتل الجماعي لرجال قبيلة الشعيطات السُّنيَّة في كفة لطاشت بهن دماء الشعيطات.. وليقفن الجميع بين يدي الله سبحانه فليعد كل من شارك وناصر جوابه.. ويارب سلّم سلّم ولا تؤاخذنا بعجزنا عن دفع الظالم عنهم. والعجيب حقاً أن تنظيم الدولة ذاته عرض بنفسه صور شباب ورجال الشعيطات صفوفاً وأرتالاً طويلة، ثم عرض صوراً منتخبة لجنود التنظيم وهم يطلقون النار جماعياً على أفواج منهم، أو ينحرون بالسكاكين أعناقهم، ثم عرض صور جثثهم بعد التصفية الجماعية الميدانية لهم وقد اختلطت دماؤهم الزكية بالتراب وعلى ملابسهم أثر بذاذة الاعتقال.. وكون الغرض من هذه المقتلة الرهيبة "بث الذعر في بقية القبائل لتخنع للتنظيم" ليس استنتاجاً بحثياً، بل تنظيم الدولة نفسه أصدر بياناً يروي فيه قصة مذبحته في قبيلة الشعيطات وجعل عنوان البيان "فشرّد بهم من خلفهم". ثم نشر التنظيم تقريراً مبتهجاً بمذبحة هذه القبيلة السُّنيَّة الكريمة، وجعل العنوان (عقوبة قبيلة الشعيطات لخيانتها)[مجلة دابق، العدد الثالث، ص12]والخيانة عندهم التي أوجبت هذه الإبادة الجماعية هي الخروج عن بيعة التنظيم، وبنوا على ذلك أن خروجها عن بيعة التنظيم يعني أنها طائفة ممتنعة عن تحكيم الشريعة، لأن تنظيم الدولة هو الوحيد الذي يُحكّم الشريعة كاملة في العالم، كما يقول تنظيم الدولة في تقرير رسمي (الدولة الإسلامية تعاملت مع عشائر الشعيطات كطائفة مرتدّة ممتنعة عن الشريعة بشوكة)[مجلة دابق، العدد الثالث، ص13]. وبناءً عليه قتلوا المئات منهم بطريقة التصفية الميدانية الجماعية بالرصاص والسكاكين والصلب، ونشروا هذه الصور التي تتفطر لها قلوب المؤمنين بأنفسهم، وقد سجّل –أيضاً- بعض الفارّين والناجين من مذبحة الشعيطات أهوالاً لا يصدق القارئ أن آدمياً يفعلها، ونشروا شهاداتهم على الشبكة. ثم إن هذا المسلك في "البطش" والعجرفة والعنجهية والصَّلَف ليس من أخلاقيات الجهاد الشرعي ولا من شرف الفروسية الجهادية، بل هي من تقاليد جبابرة الجاهليين وعُتاتهم كما قال الله عن قوم عاد {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}، وسوم الناس بالنكال هو من نزوات الفراعنة المناقضة للنبوات كما قال الله في مواضع من كتابه {إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. وهذا "القتال الجاهلي" الذي يسلكه تنظيم الدولة هو من أعظم مظاهر حكم الجاهلية المناقض لتحكيم الشريعة، وقد قال الله {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وهو قتل همجي على الحزبيات يتفنن في مناكدة المخالف وهو مباين للجهاد المحمدي الشامخ بأخلاقيات الفروسية الجهادية. هل يقول رجل يستحي من ربه ومولاه أن هذا التنظيم يسعى لتحكيم الشريعة؟! اللهم شرّف شريعتك عن أحكام الجاهلية.. ثم إن من أعظم خصال تحكيم الشريعة "حفظ ظهور المجاهدين"، وأما نقيض ذلك بالتربص بالفصائل الجهادية وتحين غرّتها والانقضاض عليها وقت انشغالها بمناجزة النصيرية واستغلال لحظات ضعفها فهذا من تربص الدوائر بأهل الإسلام الذي قال الله عنه {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: سيرهم على منهج "إيواء المُحدِثين"، فيأتي الجندي منهم فيقتل أفراداً من جماعة مجاهدة، أو أفراداً من قبيلة، فإذا طلبوا منهم تسليم القاتل آووه وماطلوا وتعنتوا، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله من آوى محدثا)[مسلم:1978]، وإيواء المُحدِث منعه من أن يُستوفى منه الواجب. إليك أيها الشاب الذي مازالت لك صلة بتنظيم الدولة: بالله عليك ألست تعلم حوادث كثيرة خاض فيها بعض جنود التنظيم في دماء فصائل أخرى، قتلاً وجرحاً، فلما طلبوا القصاص رفض التنظيم؟ ألستَ تقرأ قول ربك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ويقول سبحانه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ويقول سبحانه {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، ويقول سبحانه بلفظ أعم على أحد الوجهين {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، فهذا السلوك الحزبي من تنظيم الدولة تفريط شديد في الحكم بما أنزل الله.. وماذا لو جاءت إحدى الفصائل وقلبت عليكم حجتكم وقالت: أبو بكر قاتل المرتدين لامتناعهم بالشوكة عن فريضة الزكاة، ونحن سنقاتل تنظيم الدولة لامتناعه بالشوكة عن فريضة القصاص؟! فهو طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام؟! ماذا سيكون موقفك حيال ذلك؟ أرأيت أن الغلو في التكفير لهب قد يحرق صاحبه؟ وهذا المنهج الوضعي الجاهلي "إيواء المحدثين"، والمماطلة في تسليم القاتل هو من أعظم منابع الفتن التي وقعت في الشام، كما قال الإمام ابن تيمية (إذا لم يتقاصُّوا فإنهم يتقاتلون، وتقوم بينهم الفتن، التي يموت فيها خلائق، كما هو معروف في فتن الجاهلية والإسلام، إنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين، وإلا فمع التعادل والتناصف الذي يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة)[مجموع الفتاوى: ص14/78]. وهذا الذي ذكره أبو العباس ابن تيمية وصفٌ دقيق لجزء مما جرى في الشام بسبب سلوكيات تنظيم الدولة في "إيواء المُحدِثين"، وهذا من شؤم الأحكام الجاهلية على الناس، وأما الشريعة وعدلها فهي خير ورحمة. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: ما يمكن تسميته "الحصانة الحزبية ضد الإنكار والمحاسبة"، فإن الناس في هذا التنظيم ليسوا على درجة واحدة تحت عدل الشرع، بل هم طبقات ودرجات، فالطبقة الأولى من زعماء التنظيم لا يستطيع أي قاضٍ عندهم استدعاءهم كرهاً لدعوى مُدّعٍ ضدهم، ولا يستطيع أي فرد في المناطق التي يسيطرون عليها أن يستعلن بالإنكار عليهم والتشنيع عليهم، وفي الصحيحين (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، وأما الجنود المبايعون فلهم درجة فوق عموم الناس، وأما من هو خارج تنظيمهم وسيطرتهم فلا كرامة له البتة. ثم يا أخي .. أليس من أعظم شرائع الإسلام النهي عن المنكر {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وقال الله {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ** كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} بالله عليك من يستطيع أن يصدع بنهي أمرائكم ومعظميكم عن المنكر ويرجع سالماً لمنزله آمناً من التصفية؟! ومنهج "الحصانة الحزبية" يفضي لترك شريعة من أعظم الشرائع وهو تحكيم الشرع على النفس وعلى الغير كما قال الله {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وقول الله {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وقول الله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. بل إن هذا المسلك في الموالاة الحزبية والاستهانة بحقوق المسلمين من غير الحزب، والاستخفاف بظلم المسلمين والعدوان عليهم من غير الحزب بحجة أن لا حُرمة لهم؛ فيها مشابهة لجنس مقولة اليهود حين حكى الله عنهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، ولذلك تجد كثيراً من أتباع التنظيم يتجبرون على بقية الفصائل في أبشارهم وأموالهم وكرامتهم ثم يتذرعون بالحجج التي يتوصلون بها إلى أن هؤلاء لا كرامة لهم، كما قال الله عن اليهود {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فهل هذه أحكام الشريعة؟ أم هذه أحكام الجاهلية الحزبية وربنا يقول {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: ما يمكن تسميته "الانتقاء الحزبي في شورى الأمة"، فإن الله سبحانه لما ذكر الشورى جعلها عامة في المسلمين فقال {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقال سبحانه {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، ولا يسوغ أن يقوم شخص ويضع لنفسه مواصفات حزبية، من وافقه عليها أدخله في الشورى التي تتعلق بالأمة، ومن خالفه منع من مشاورته في أمر الأمة! وتنظيم الدولة يعلن بصراحة أن هؤلاء المخالفين لا عبرة بهم في الشورى، بل في مواضع شنّع على بعض الفصائل لمشاورتها شخصيات يرى أنها خالفت المنهج، ومن الشواهد مثلاً أنه في بيان رسمي للدولة نقل أبو محمد العدناني اعتراض بعض الناس عليهم بقولهم (ومما نُتَّهَمُ به ويُفترى علينا : أننا أعلنّا الدولة الإسلامية قبل أوانها ، وافتأتنا على الأمة ، ولم نشاورها..). ثم ذكر عدة اعتبارات لعدم مشاورتهم غيرهم وكان من ضمنها قوله (ثم ما كان لنا أن نشاور مِن الفصائل مَن يخالفنا المنهج والمشروع..)[العدناني، بيان بعنوان: لن يضروكم إلا أذى، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: 31]. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: التلاعب بقواعد الشرع في وسائل الإثبات ضد المخالف الحزبي في التكفير والجنايات، كاعتبار صور الاجتماعات أو اللقاءات بين مجاهد ومسؤول إقليمي أو دولي أو القدرة على السفر دون اعتقال أو حضور مؤتمر خارجي الخ اعتبارها من وسائل إثبات الردة وتولي الكفار ومظاهرتهم الخ ويستخدمون مثل هذا التساهل في طرق البينات ووسائل الإثبات أيضاً في بقية أبواب الجنايات مع المخالف الحزبي، وهذا العبث السياسي بقواعد الشرع في باب التكفير والدماء يدخل في عموم نصوص "اتخاذ آيات الله هزوا"، وقد جاء الوعيد الشديد في تغليظ ذلك، كما قال الله {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، وقال سبحانه {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية: هجرهم لشريعة "القول الحسن" كما قال الله {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} بل لا يخطر في بالهم أن القول الحسن مع المسلمين المخالفين لهم هو من تحكيم الشريعة، ومما يدخل في هذا "اللين للمؤمنين" وقد قال الله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، بل مدح الله خفض الجناح للمؤمنين بقوله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، والواقع الذي يعرفه الموافق والمخالف اليوم أن سلوك التنظيم هو في غاية الفظاظة الجاهلية مع خيار الناس من المجاهدين والعلماء والدعاة والفضلاء وغيرهم. بل تأمل كيف يفرح التنظيم بكل عنت يقع على فصائل المجاهدين والحركات الدعوية، وتعييرهم بذلك، ثم تأمل وصف رسول الله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. ومما يدخل في هذا وهو من أعظم أحكام الشريعة جمع كلمة المسلمين، كما قال الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقال سبحانه {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ويعلم الموافق والمخالف اليوم أن تنظيم الدولة من أشد الكيانات إثارة للشحناء والنزاعات بين المسلمين بإجماع الفصائل على نسبة ذلك له.. ومن الانتهاكات التي تبرز الشعاراتية : ترك المنهج العلمي في فهم الشريعة وتحكيمها، ولا يكفي الظهور بمظهر من يريد تطبيق الشرع، بل الشرع المراد تحكيمه يجب ان يكون بمنهج علمي في النظر والاستدلال، وقد نبّه كتاب الله كثيراً لأصول النظر العلمي وعثراته ومن ذلك قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وقوله {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وقوله {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. ومن أصول تحكيم الشريعة استعمال الحكمة مع الناس كما قال الله {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}، وهل يقول أحدٌ يحترم العلم والموضوعية أن تنظيم الدولة يستعمل الحكمة مع الناس؟! أم يتبجحون بالعجرفة والعنجهية والصَّلَف مع المخالفين؟! والمراد أن الانتساب للشرع وتحكيم الشريعة ليس برفع رايته نظرياً وإكثار الإصدارات الإعلامية بذلك، وتقصّد المسائل الرمزية والمستغربة وقرع الطبول لها، وإنما أعظم من يقوم بتحكيم الشرع هو "الأكثر تقوى لله" في تنزيلها، حتى ولو لم يزايد على غيره بالشعارات، ولذلك لما احتجت قريش بأنها "تقوم بشؤون المسجد الحرام" وأنها أولى به لأجل هذه المسائل الظاهرة رد الله عليهم بقوله {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} فبيّن سبحانه أن الأولى بالشرع هو "الأتقى لله فيه" وليس من يرفع الشعارات. هذه بعض المظاهر، وقد مضى في الحلقات السابقة ذكر مظاهر أخرى لانتهاكات تنظيم الدولة لأحكام الشريعة وكثرة الأحكام "الجاهلية" في سلوكه، وأن كلامهم عن تحكيم الشريعة "شعاراتي" للاستقطاب الحزبي وتسخير الأتباع واستئصال المخالفين، وسيأتي إن شاء الله ذكر مظاهر أخرى. حسناً، هذه هي الحلقة الخامسة من سلسلة هذه الأوراق عن تنظيم الدولة، وسنكمل بعض النتائج والتحليلات في الحلقة السادسة القادمة قريباً بإذن الله، وأما الحلقات الأربع السابقة فيمكن للقارئ الرجوع لها من خلال الروابط أسفل هذه المقالة. والله أعلم،، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
صيد الفوائد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة