..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


ابحاث ودراسات

الحرية أم الشريعة

أنور قاسم الخضري

٢٢ مايو ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 4613

الحرية أم الشريعة
الخضري 000.jpg

شـــــارك المادة

سؤال تطرحه أطراف عدة، بعضها بحسن قصد وبعضها بسوء طوية. وتضارب يريد بعض الخبثاء أن يسوقوه في الفكر الإسلامي ليشوهوا جمال الإسلام، ويغطوا به على حقيقة الرسالة.
بل بات اليوم قضية الساحة الإسلامية، تضيع الجهود فيه، ويلوك فيه أنصاف المتعلمين والجهلة أقوالا بلا خطام ولا زمام!
ومنهجية الإسلام في التفكير تبدأ من الأسس الراسخة:

 

 

المسلمات والبدهيات والمحكمات، لتبقى دائرة الاختلاف ضيقة وباب التنازع مغلقا. وهنا يجب أن نقرر هذه المسلمات والبدهيات والمحكمات التي تحيط بهذه القضية التي تتعلق بالإنسان وجودا وهوية.

-وأولى هذه المسلمات أن الله تعالى خلق الإنسان مخيرا، له عقل يُمكِّنه مِن العلم والمعرفة، ومشيئة وإرادة تُمكِّنه مِن القول والفعل. ووفقا لهاتين الموهبتين التي وهبها الله له: خاطبَه وكلَّفَه.
ولو كان الإنسان مسيرا بلا وعي، منزوع الإرادة والمشيئة، لما كان لمخاطبته وتكليفه مناسبة! بل لم يكن في محاسبته ومعاقبته أي عدل، فضلا عن أيِّ حكمة أو معنى! وهذا يعني أن الإنسان حرٌ بالأساس، وإن كان من حيث المعنى الكلي عبدا لله، بمعنى العبودية الكونية.
ولا يدخل الإنسان في عبودية الله الشرعية إلا بإرادته ومشيئته الخاصة المستقلة، دون إكراه.
فالحرية المثبتة للإنسان لا تنفي العبودية (الكونية) المثبتة للإنسان، كما لا تستلزم العبودية (الشرعية) المخاطب بها ما لم يلتزمها.
يقول سيد قطب: "إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه (من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال.
فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر. كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء. وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: ((وَنَفسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلهَمَها فُجُورَها وَتَقواها)).. ويعبر عنها بالهداية تارة: ((وَهَدَيناهُ النَّجدَينِ)).. فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد.. والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك. ولكنها لا تخلقها خلقا. لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعا، وكامنة إلهاما.
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان. هي التي تناط بها التبعة. فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر فقد أفلح.
ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب: ((قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاها وَقَد خابَ مَن دَسَّاها)).
وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه. توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء. فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب.
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة.. وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه.
وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان. وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام.
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي:
فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار (في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار)؛ فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين.
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره، وتجعل أمره بين يديه (في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا)؛ فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى، وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: ((إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنفُسِهِم)). وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو!
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابثة، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه، ولم يضلله، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه. وبذلك يظل قريبا من الله، يهتدي بهديه، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق! ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها، وهو يغتسل في نور الله الفائض، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود"[1].
- أما المسلمة الثانية فهي أن الله حرم الظلم والطغيان عموما، في كل وقت وفي كل حال ومع كل أحد. ولم يجز الله تعالى بحال ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وإن كان كافرا؛ بل نهى –سبحانه- عن الظلم عباده أجمعين: (إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا)[2].
وقد أمر سبحانه برفع الظلم عن عباده جميعا.. مؤمنهم وكافرهم. فإذا تمكن المسلم من ذلك وجب عليه. بل إن المقصود من إقامة الدولة الإسلامية مع بقاء الكفار محتفظين بمعتقداتهم وشعائرهم وشرائعهم الخاصة (في عقد الجزية) هو منع ظلم بعضهم البعض أو ظلمهم لمن خالفهم، لأن الظلم قرين الكفر عادة.
- المسلمة الثالثة أن النفس البشرية لا يمكن أن تتلقى الإيمان مع غياب الشروط الذاتية والموضوعية لذلك؛ ومن ثمَّ فإنها قد لا تتقبله وترفضه، لا من قبيل التكذيب والجحود والإعراض ولكن من قبيل وجود الحائل الذي يمنعها من إدراك حقيقة الإيمان أو الشعور بالأمان عند دخولها فيه. ولهذا فإن الله شرع توفير كل الشروط الضرورية للتلقي والقبول كونا وقدرا. فإنه تعالى لم يبعث رسله من الكذبة أو الخائنين أو المتهمين في عقلهم أو أمانتهم أو شرفهم، لأنَّ في هذا قيام مانع للتلقي والقبول. ثمَّ إنه سبحانه أمر رسله بالرفق واللين والحكمة والتدرج، وكل ما من شأنه أن يجذب المدعو للتلقي عن ربه والقبول منه. وكذلك الشأن في كتبه، وفي أمره ونهيه وخبره. فإذا ما تخلفت المقدمات تخلفت النتائج.
- البدهية الرابعة أن إعلان الإنسان طواعية وبكامل وعيه وإرادته الدخول في الإسلام هو التزام منه بكافة المسئوليات المترتبة على هذا الخيار.
وهذا أمر طبيعي في كافة شئون الإنسان؛ لأن الحرية قرينة المسئولية. ومتى اختار الإنسان أن يكون طرفا في عهد أو عقد أو اتفاق كان لزاما عليه الوفاء به وتحمل تبعاته. والشرع يعلي من شأن الدين، كونه أعظم العهود وأوثق العقود، وعليه تقوم غالب تصرفات الإنسان. وهو اعتراف من الإنسان بعبوديته المطلقة لله، وخضوعه لشرعه، وتحرره من عبودية وطاعة كل من سواه. وإذا دخل الإنسان إليه اختيارا وجب عليه التزامه في كافة شئون حياته، وعدم الخروج عنه. يقول تعالى: ((وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم ومِيثَاقَهُ الَّذِي واثَقَكُم بِهِ إِذ قُلتُم سَمِعنَا وأَطَعنَا واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))[3]؛ وقد جاء في الحديث عن الرسول –صلى الله عليه وسلم: (فَحَقُّ اللهِ أَحَقُّ)[4]، عندما سألته امرأة عن أخت لها ماتت وعليها صوم.. أتقضيه عنها.
يقول محمد متولي الشعراوي: "والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضاً على إقامة حَدّ الردَّة، ورأوا فيه وحشية وكَبتاً للحرية الدينية التي كفَلَها الإسلام في قوله تعالى: ((لا إِكرَاهَ فِي الدين))، والحقيقة أنَّ الإسلام حينما شرع حَدَّ الردة، وقال بقتل المرتد عن الدين، أراد أن يُصعِّب على غير المسلمين الدخول في الإسلام، وأن يُضيِّق عليهم هذا الباب حتى لا يدخل في الإسلام إلا مَن أخلص له، واطمأنَّ قلبه إليه، وهو يعلم تماماً أنه إن تراجع عن الإسلام بعد أن دخل فيه فجزاؤه القتل.
فهذه تُحسَب للإسلام لا عليه؛ لأنه اشترط عليك أولاً، وأوضح لك عاقبة ما أنت مُقدِم عليه.
أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل الإسلام دخولاً أولياً، لا يجبرك أحد عليه، فلك أن تظلَّ على دينك كما تحب، فإن أردتَ الإسلام فتفكّر جيداً، وتدبّر الأمر وابحثه بكل طاقات البحث لديك؛ فليس في دين الله مجالٌ للتجربة، إن أعجبكَ تظلّ في ساحته، وإن لم يَرُق لك تخرج منه!
فإن علمتَ هذه الشروط فليس لك أن تعترضَ على حدِّ الردّة بعد ذلك. ولتعلم أنَّ دين الله أعزّ وأكرم من أن يستجدي أحداً للدخول فيه"[5].
-البدهية الخامسة هي أن الجبابرة والمستبدين والطغاة دائما ما يقفون حائلا بين الشعوب وبين الحرية، لا لشيء سوى لأنَّ هذه الحرية تدفعهم للخروج عن سلطانهم ورفض قهرهم.
ولذلك فهم يستعبدون الشعوب ويخلعون منهم بكل السبل طبيعتهم الإنسانية، ليجعلوا منهم جسدا بلا روح، وآلة بلا عقل، وجمادا بلا إحساس. وهذا يتم عبر منهجية في الإذلال والاستضعاف ينشأ فيها الصغير ويهرم فيها الكبير. ولذلك لم يصطلح الجبابرة المستبدون –في أي حضارة- مع أي إنسان يحمل مشعل الحرية، وفي مقدمة هؤلاء الأنبياء والرسل –عليهم الصلاة والسلام.
ولذلك يرى ابن كثير –رحمه الله- بعد كلام طويل، أن توفير أجواء الحرية للداعية فتح مبين. فهو يقول: "وقَولُهُ: ((وَقَد جَاءَكُم بِالبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُم)) أَي: كَيفَ تَقتُلُونَ رَجُلًا لِكَونِهِ يَقُولُ: ((ربِّيَ اللهُ))، وقَد أَقَامَ لَكُمُ البُرهَانَ على صِدقِ مَا جَاءَكُم بِهِ مِنَ الحَقِّ؟ ثُمَّ تَنزَّل مَعَهُم في المـُخَاطَبَةِ فَقَالَ: ((وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبكُم بَعضُ الَّذِي يَعِدُكُم)) يَعنِي: إِذَا لَم يُظهِر لَكُم صِحَّةَ مَا جَاءَكُم بِهِ فَمِنَ العَقلِ والرَّأيِ التَّامِ والحَزمِ أَن تَترُكُوهُ وَنَفسَهُ، فَلَا تُؤذُوهُ، فَإِن يَكُ كَاذِبًا فَإِنَّ اللهَ سَيُجَازِيهِ عَلَى كَذِبِهِ بِالعُقُوبَةِ فِي الدُّنيَا والآخِرَةِ، وَإِن يَكُ صَادِقًا وَقَد آذَيتُمُوهُ يُصِبكُم بَعضُ الَّذِي يَعِدُكُم، فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُكُم إِن خَالَفتُمُوهُ بِعَذَابٍ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، فَمِنَ الجَائِزِ عِندَكُم أَن يَكُونَ صَادِقًا، فَيَنبَغِي عَلَى هَذَا أَلَّا تَتَعَرَّضُوا لَهُ، بَلِ اترُكُوهُ وَقَومَهُ يَدعُوهُم وَيَتبَعُونَهُ.
وَهَكَذَا أَخبَرَ اللهُ تَعَالَى عَن مُوسَى -عَلَيهِ الصَّلَاةُ والسَّلامُ- أَنَّهُ طَلَبَ مِن فِرعَونَ وَقَومِهِ المـُوَادَعَةَ فِي قَولِهِ: ((وَلَقَد فَتَنَّا قَبلَهُم قَومَ فِرعَونَ وَجَاءَهُم رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَن أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَن لا تَعلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلطَانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم أَن تَرجُمُونِ. وَإِن لَم تُؤمِنُوا لِي فَاعتَزِلُونِ))[6]، وَهَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لِقُرَيشٍ أَن يَترُكُوهُ يَدعُو إِلَى اللهِ تَعَالَى عِبَادَ اللهِ، وَلَا يَمَسُّوهُ بِسُوءٍ، وَأَن يَصِلُوا مَا بَينَهُ وَبَينَهُم مِنَ القَرَابَةِ فِي تَركِ أَذِيَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((قُل لَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِلا المـَوَدَّةَ فِي القُربَى))[7]؛ أَي: إِلَّا أَلَّا تُؤذُونِي فِيمَا بَينِي وَبَينَكُم مِنَ القَرَابَةِ، فَلَا تُؤذُونِي وَتَترُكُوا بَينِي وَبَينَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا وُقِّعَتِ الهُدنَةُ يَومَ الحُدَيبِيَةِ، وَكَانَ فَتحًا مُبِينًا"[8].
وهنا يأتي سؤال بريء يقطع الطريق، سؤال ينبعث من بعض النفوس التي يعميها "شعاع الضوء" لأنها ألفت الظلام. فهي تريد أن تريح أنفسها من عناء الأمانة وعبء المسئولية، لتقوم بأضعف الإيمان إنكارا! فهو هروب يلبس ثوب الورع، وخوف يظهر بصورة الحرص. آ الحرية أم الشريعة؟
وكأن الحرية والشريعة نقيضان أو ضدان[9]؛ إذا وجدت الشريعة انتفت الحرية، وإذا وجدت الحرية انتفت الشريعة. وهو منطق لا تثبته الشريعة، ولم يقل به أحد من أهل العلم. بل نزلت الشرائع جميعا لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. فإذا لم يرتضوا بالإسلام دينا يدينون به رُفِعَ عنهم جور الحكام وتركوا على دينهم في سلم وأمان تحت مظلة الإسلام.
وإنَّ أسوأ أوجه الاستعباد التي نزعت عن الإنسان إنسانيته، وعانت منها البشرية عبر التاريخ، هي تلك التي مارسها المستبدون من الحكام على شعوبهم قهرا وإذلالا وحرمانا.
فحيثما وجد المستبدون المستكبرون وجد الاستعباد والمستعبدون. قال تعالى وهو يخبر عن أمم أهل النار: ((إِنَّ اللهَ لَعَنَ الكَافِرِينَ وأَعَدَّ لَهُم سَعِيرًا. خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا ولَا نَصِيرًا. يَومَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُم فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيتَنَا أَطَعنَا اللهَ وأَطَعنَا الرَّسُولَا. وقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعنَا سَادَتَنَا وكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آَتِهِم ضِعفَينِ مِن العَذَابِ والعَنهُم لَعنًا كَبِيرًا))[10].
وقال سبحانه: ((.... ولَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِم يَرجِعُ بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ القَولَ يَقُولُ الَّذِينَ استُضعِفُوا لِلَّذِينَ استَكبَرُوا لَولَا أَنتُم لَكُنَّا مُؤمِنِينَ. قَالَ الَّذِينَ استَكبَرُوا لِلَّذِينَ استُضعِفُوا أَنَحنُ صَدَدنَاكُم عَن الهُدَى بَعدَ إِذ جَاءَكُم بَل كُنتُم مُجرِمِينَ. وَقَالَ الَّذِينَ استُضعِفُوا لِلَّذِينَ استَكبَرُوا بَل مَكرُ اللَّيلِ والنَّهَارِ إِذ تَأمُرُونَنَا أَن نَكفُرَ بِاللهِ ونَجعَلَ لَهُ أَندَادًا وأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وجَعَلنَا الأَغلَالَ فِي أَعنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَل يُجزَونَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعمَلُونَ))[11].
إن التساؤل السابق يطرح عادة للاعتراض لا طلبا للتبيين. ويفترض أصحابه أن الأنبياء والمرسلين –عليهم الصلاة والسلام- قدَّموا إلى أقوامهم دعوة مجردة (عقائد وعبادات) منفصلة عن حاجاتهم وحياتهم، تقول لهم: إنكم لا تستحقون أي نصرة أو عون أو إحسان حتى تؤمنوا بالله وحده، وتلتزموا شرعه؛ فإن لم تحققوا ذلك فلن تجدوا منا نصرة وإن ظلمتم، أو عونا وإن عجزتم، أو إحسانا![12]
للوهلة الأولى يرتاح البعض لهذه الصورة التي تخليه وتحله من أي التزام للخلق إلا أن يؤمنوا به ويتبعوه، وما أقل هؤلاء!
في حين أن الناظر في قصص الأنبياء والمرسلين –عليهم الصلاة والسلام- في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يجدهم قبل النبوة والرسالة وبعدها غير منقطعين عن نصرة الخلق وعونهم والإحسان إليهم، آمنوا أو بقوا على كفرهم!
وهنا تبرز شخصية أعظم قدوة نبوية يعرضها القرآن الكريم كثيرا في قصصه. إنها شخصية موسى –عليه الصلاة والسلام، النبي الموحى إليه لمواجهة أقوى حاكم مستبد في العالم في حينه؛ والذي حمل إلى فرعون وقومه مهمتان: مهمة دعوتهم للإيمان والتوحيد، ومهمة مطالبتهم بحرية بني إسرائيل. فقد بلغ حال بني إسرائيل في مصر زمن فرعون حالة من الظلم والاستعباد والإذلال الجماعي غاية في السوء والشر.
وأكثر قصص القرآن التي وردت عن الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- هي لهذا النبي الكريم. لهذا صوَّر القرآن الكريم حالة بني إسرائيل تحت حكم فرعون في أكثر من مقام. قال تعالى: ((وَلَقَد نَجَّينَا بَنِي إِسرَاءِيلَ مِنَ العَذَابِ المـُهِينِ. مِن فِرعَونَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِن المـُسرِفِينَ))[13]، وقال سبحانه: ((وَإِذ نَجَّينَاكُم مِن آلِ فِرعَونَ يَسُومُونَكُم[14] سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبنَاءَكُم وَيَستَحيُونَ نِسَاءَكُم وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِن رَبِّكُم عَظِيمٌ))[15]، وقال عز وجل: ((وَإِذ أَنجَينَاكُم مِن آَلِ فِرعَونَ يَسُومُونَكُم سُوءَ العَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبنَاءَكُم وَيَستَحيُونَ نِسَاءَكُم وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِن رَبِّكُم عَظِيمٌ))[16]. وكان موسى يعيد تذكيرهم بنعمة النجاة من هذا الواقع: ((وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذ أَنجَاكُم مِن آلِ فِرعَونَ يَسُومُونَكُم سُوءَ العَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبنَاءَكُم وَيَستَحيُونَ نِسَاءَكُم وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِن رَبِّكُم عَظِيمٌ))[17].
ولم يتوقف شأن التعذيب بعد مبعث موسى، ومخاطبته فرعون مطالبا إياه بإطلاق بني إسرائيل من قيد العبودية والذل: ((وَلَقَد أَرسَلنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلطَانٍ مُبِينٍ. إِلَى فِرعَونَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءَهُم بِالحَقِّ مِن عِندِنَا قَالُوا اقتُلُوا أَبنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاستَحيُوا نِسَاءَهُم وَمَا كَيدُ الكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ))[18]؛ حتى شكا بنو إسرائيل لموسى هذا الواقع المرير: ((وَقَالَ المـَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبنَاءَهُم وَنَستَحيِي نِسَاءَهُم وَإِنَّا فَوقَهُم قَاهِرُونَ. قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاللهِ وَاصبِرُوا إِنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ. قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنَا وَمِن بَعدِ مَا جِئتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ))[19].
وإزاء هذا العذاب والتنكيل والإذلال والطغيان جاء التكليف الإلهي لموسى وهارون –عليهما الصلاة والسلام- لمطالبة فرعون تكرارا بإطلاق سراح بني إسرائيل من العبودية والعذاب والإذلال.
يقول تعالى: ((اذهَبَا إِلَى فِرعَونَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى. قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفرُطَ عَلَينَا أَو أَن يَطغَى. قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمَعُ وَأَرَى. فَأتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرسِل مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبهُم قَد جِئنَاكَ بِآيَةٍ مِن رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى))[20].
ويقول سبحانه: ((وَلَقَد فَتَنَّا قَبلَهُم قَومَ فِرعَونَ وَجَاءَهُم رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَن أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَن لَا تَعلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آَتِيكُم بِسُلطَانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم أَن تَرجُمُونِ. وَإِن لَم تُؤمِنُوا لِي فَاعتَزِلُونِ. فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَومٌ مُجرِمُونَ. فَأَسرِ بِعِبَادِي لَيلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ. وَاترُكِ البَحرَ رَهوًا إِنَّهُم جُندٌ مُغرَقُونَ))[21].
ويقول عز وجل: ((وَقَالَ مُوسَى يَا فِرعَونُ إِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلَى أَن لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ قَد جِئتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُم فَأَرسِل مَعِيَ بَنِي إِسرَائِيلَ))[22].

 

الاستبداد والاستعباد:
الاستبداد منشأ الاستعباد، ولذلك قرن الله بينهما في حقيقة فرعون. فقال تعالى: ((إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعًا يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحيِي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِن المـُفسِدِينَ))[23]، وقال سبحانه: ((وَلَقَد نَجَّينَا بَنِي إِسرَائِيلَ مِن العَذَابِ المـُهِينِ مِن فِرعَونَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المــُسرِفِينَ))[24]، وقال أيضا: ((وَإِنَّ فِرعَونَ لَعَالٍ فِي الأَرضِ وَإِنَّهُ لَمِن المـُسرِفِينَ))[25].
ولهذا يتخاطب المستبد مع من حوله بروح الامتنان حتى وهو يحرمهم الحقوق والكرامة الإنسانية. ففي سياق توبيخ فرعون لموسى –عليه الصلاة والسلام- على جرمه خاطبه ممتنا عليه بتربيته ورعايته: ((قَالَ أَلَم نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثتَ فِينَا مِن عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلتَ فَعلَتَكَ الَّتِي فَعَلتَ وَأَنتَ مِنَ الكَافِرِينَ))[26]. فما كان من موسى إلا أن رد عليه منكرا امتنانه: ((قَالَ فَعَلتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرتُ مِنكُم لَمَّا خِفتُكُم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكمًا وَجَعَلَنِي مِنَ المـُرسَلِينَ. وَتِلكَ نِعمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَن عَبَّدتَ بَنِي إِسرَائِيلَ))[27].
وبهذا فإن موسى –عليه الصلاة والسلام- لم ينزع نفسه من قومه، ومما عانوا منه وكان سببا في نشأته المترفة في حضن فرعون. والسياق في ظاهره يوجه الجملة في إطار الاستنكار لا الإقرار –كما ذهب البعض[28]. فوجه الارتباط أنَّ تربية فرعون له لم تتم إلا بوجه من استعباد بني إسرائيل، وتعذيبهم واستباحة دمائهم، ولولا ذلك لم يُلَق موسى في اليمِّ وينفصل عن أمِّه وأهله وقومه، وينشأ في كنف فرعون- كما ذهب إليه عدد من أهل التفسير.[29]
والتعبيد هنا يعني الاستعباد والاسترقاق، ويدخل فيه القهر والتغلب، والإذلال والحبس، وتعذيبهم وتقتيلهم[30]. و"يقال: استعبدت فلانا وأعبدته وتعبدته وعبدته أخذته عبدا"[31].
إن مؤدى خطاب موسى لفرعون: لا منَّة لك علي وقد "اتَّخَذتَ قَومِي عَبِيدًا وكَانُوا أَحرَارًا"؛ كما قال قَتَادَة: "قال مُوسى لِفِرعَونَ: أَتَمُنُّ عَلَيَّ يَا فِرعَونَ بِأَن اتَّخَذتَ قَومِي عَبِيدًا وَكَانُوا أَحرَارًا فَقَهَرتَهُم؟"[32]. إنه يسأله سؤالا استنكاريا: "كيف تمنُّ عليَّ بالتربية وقد استعبدت قَومِي، ومَن أُهِينَ قَومُهُ ذُلَّ؟! فَتَعبِيدُكَ بَنِي إِسرَائِيلَ قَد أَحبَطَ إِحسَانَكَ إِلَيَّ"[33]. و"ليس ما ذكرتَه شَيئًا بِالنِّسبَةِ إلى ما فعلتَ بِهِم"[34]؛ "وإن لم ينله من ذلك ما نالهم، إلا أنه لما كان منهم، فكأنه وصل إليه وحلَّ به. كما قيل: وظلم الجار إذلال المجير"[35].
قال الشنقيطي: "يعني: تَعبِيدَكَ لِقَومِي وإِهَانَتَكَ لَهُم لَا يُعتَبَرُ مَعَهُ إِحسَانُكَ إِلَيَّ؛ لِأَنِّي رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنهُم"[36]. وهذا مقام لا يفرق فيه موسى بين من آمن به ومن لم يؤمن به من قومه.
هذه المعاناة الناشئة عن الاستعباد هي التي جعلت الأساس من الرسالة استنقاذ بني إسرائيل. يقول الشعراوي: "والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أَخذَ بني إسرائيل، وإنقاذهم من طغيان فرعون، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية، أما أصل مهمة موسى فكان: ((فَأَرسِل مَعَنَا بني إِسرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبهُم))[37]"[38]؛ "فالأصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب، ثم يُبلِّغهم منهج الله، ويأخذ أيديهم إليه، وجاءت دعوة فرعون للإيمان ونقاشه في ادعائه الألوهية تابعة لهذا الأصل"[39] –حسب وصفه.
وإِنَّما أُرسِل موسى وهارون إلى فرعون وهامان دُونَ أهل مصر: "لأَنَّ دعوةَ موسى وأَخِيهِ إِنَّما كانت خطابًا لفِرعَونَ وأَهلِ دَولَتِهِ الَّذِينَ بِيَدِهِم تصرِيفُ أُمُورِ الأُمَّةِ لِتَحرِيرِ بني إِسرائيل مِن استِعبَادِهِم إِيَّاهُم"[40].
((أن أدُّوا إليَّ عِبَادَ الله))[41]:
لقد جاءت مهمة إخراج بني إسرائيل من العبودية من أهم مطالب موسى لفرعون، كما تشير لها الآية السابقة.
والأداء في الآية بمعنى الإرسال كما ذكره مجاهد، و"عن قتادة: قال لفرعون: علام تحبس هؤلاء القوم (يعني بني إسرائيل)، قوم أحرار اتخذتهم عبيدا، خلِّ سبيلهم"؛ وعن "ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ((أَن أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ))، قال: يقول: أرسل عباد الله معي، يعني بني إسرائيل، وقرأ: ((فَأَرسِل مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبهُم))، قال: ذلك قوله: ((أَن أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ))، قال: ردَّهم إلينا".[42]
قال الثعالبي: "كأنَّه –أي موسى- يقول: أنِ ادفَعُوا إليَّ وأعطوني ومَكِّنُوني من بني إسرائيل؛ وَإيَّاهم أراد بقوله: عِبادَ اللهِ. وقال ابن عباس: المعنى اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحَقِّ، فعباد الله على هذا مُنَادى مضافٌ، والمؤدى هي الطاعة.
والظاهر من شرع موسى –عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ بُعِثَ إلى دعاء فرعونَ إلى الإيمَان، وأَن يرسل بني إسرائيل، فلمَّا أبى أَن يُؤمن ثبتت المكافحة في أَن يُرسِلَ بني إسرائيل"[43]. ويقوي ذلك -كما قال ابن عطية: "قوله بعد: ((وَإِن لَم تُؤمِنُوا لِي فَاعتَزِلُونِ))[44]، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط. ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: ((فَأَسرِ بِعِبادِي)) فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله: ((عِبادَ اللهِ))".[45]
وقال السعدي: "قال لفرعون وملئه: أدوا إليَّ عباد الله، يعني بهم بني إسرائيل؛ أي: أرسلوهم وأطلقوهم من عذابكم وسومكم إياهم سوء العذاب، فإنهم عشيرتي وأفضل العالمين في زمانهم، وأنتم قد ظلمتموهم واستعبدتموهم بغير حق، فأرسلوهم ليعبدوا ربهم".[46]
ويقول عبدالكريم الخطيب: "قوله تعالى: ((أَن أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ)) هو بيان لمضمون الرسالة التي حملها هذا الرسول الكريم إلى قوم فرعون، وهو أن يؤدّوا إليه عباد الله، أي يطلقوهم، ويرسلوهم معه إلى حيث يخرج بهم من هذا البلاء الذي هم فيه.
وفى التعبير عن بنى إسرائيل بقوله: ((عِبادَ اللهِ)) إشارة إلى أنهم ليسوا عبيدا لفرعون، ولا لقوم فرعون، وإنما هم عبيد لله. وهذا رسول الله يطلبهم لينقلوا من هذه العبودية للناس، إلى العبودية لله. وفى التعبير عن إرسال بنى إسرائيل مع موسى بقوله: ((أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ)) إشارة إلى أنهم أمانة لله في يد القوم، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الأمانة عند طلبها.. وهذا يعنى أن الضعيف أمانة في يد القوى، وأن عليه أن يرعاه ويحفظه، وألَّا يضيِّع إنسانيته بالقهر والبغي، فيتحول في يده إلى إنسان قد فقد وجوده، إنسان قد مسخت إنسانيته فاستخذي وذُلَّ.. وهذا هو الضياع، الذي هو الموت بالحياة! وفى وصف موسى بالأمانة في قوله: ((إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ)) إشارة أخرى إلى أنه سيحفظ أمانة الله في عباده، إذا صاروا إلى يده، وألا يضيِّعهم كما ضيَّعهم فرعون، بل إنه سيصلح ما أفسد فرعون منهم، ويطبَّ لما رماهم به من داءٍ اغتال كل معانى الإنسانية فيهم"[47].
ويقول الطاهر بن عاشور: "خِطَابُ الجَمعِ لِقَومِ فِرعَونَ. والمـُرَادُ فِرعَونُ وَمَن حَضَرَ مِن مَلَئِهِ، لَعَلَّهُم يُشِيرُونَ عَلَى فِرعَونَ بِالحَقِّ؛ ولَعَلَّهُ إِنَّمَا خَاطَبَ مَجمُوعَ المـَلَأِ لَمَّا رَأَى مِن فِرعَونَ صَلَفًا وَتَكَبُّرًا من الِامتِثَال، فخَاطَبَ أَهلَ مَشُورَتِهِ لَعَلَّ فِيهِم مَن يَتَبَصَّرُ الحَقَّ. وعِبادَ اللهِ يَجُوزُ أَن يَكُونَ مَفعُولَ أَدُّوا مُرَادًا بِهِ بَنُو إِسرَائِيلَ، أُجرِيَ وَصفُهُم ((عِبادَ اللهِ)) تَذكِيرًا لِفِرعَونَ بِمُوجَبِ رَفعِ الِاستِعبَادِ عَنهُم؛ وجَاءَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ((أَن أَرسِل مَعَنا بَنِي إِسرائِيلَ)) فَحَصَلَ أنَّه وَصفَهم بالوَصفَين، فَوَصفُ عِبادَ اللهِ مُبطِلٌ لِحُسبَانِ القِبطِ إِيَّاهُم عَبِيدًا، كَمَا قَالَوا: ((وَقَومُهُما لَنَا عَابِدُونَ))[48] وَإِنَّمَا هُم عِبَادُ اللهِ، أَي أَحرَارٌ، فَعِبَادُ اللهِ كِنَايَةٌ عَنِ الحُرِّيَّةِ. كَقَولِ بِشَارٍ يُخَاطِبُ نَفسَهُ:

أَصبَحتَ مَولَى ذِي الجَلَالِ وبَعضُهُم *** مَولَى العَبِيدِ فَلُذ بِفَضلِكَ وَافخَرِ".[49]

ويضيف: "قَولُهُ: ((إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ)) عِلَّةٌ لِلأَمرِ بِتَسلِيمِ بَنِي إِسرَائِيلَ إِلَيهِ، أَي: لِأَنِّي مُرسِلٌ إِلَيكُم بِهَذَا، وأَنَا أَمِينٌ، أَي: مُؤتَمَنٌ عَلَى أَنِّي رَسُولٌ لَكُم. وَتَقدِيمُ ((لَكُم)) على ((رَسُولٌ)) لِلِاهتِمَامِ بِتَعَلُّقِ الإِرسَالِ بِأَنَّهُ لَهُمُ ابتِدَاءً، بِأَن يُعطُوهُ بَنِي إِسرَائِيلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِلمَقصُودِ مِن إِرسَالِهِ لِتَحرِيرِ أُمَّةِ إِسرَائِيلَ وَالتَّشرِيعِ لَهَا، وَلَيسَ قَولُهُ: ((لَكُم)) خِطَابًا لِبَنِي إِسرَائِيلَ فَإِنَّ مُوسَى قَد أَبلَغَ إِلَى بَنِي إِسرَائِيلَ رِسَالَتَهُ، مَعَ التَّبلِيغِ إِلَى فِرعَونَ قَالَ تَعَالَى: ((فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَومِهِ عَلى خَوفٍ مِن فِرعَونَ وَمَلَائِهِم أَن يَفتِنَهُم)) يونُس: 83، ولِيَكُونَ امتِنَاعُ فِرعَونَ مِن تَسرِيحِ بَنِي إِسرَائِيلَ مُبَرِّرًا لِانسِلَاخِ بَنِي إِسرَائِيلَ عَن طَاعَةِ فِرعَونَ وَفِرَارِهِم مِن بِلَادِهِ".[50]

 

((فَأَرسِل مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ))[51]:
اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية، على مؤدى الإرسال: أهو العتق من العبودية، أم هو ترك بني إسرائيل ليخرجوا من مصر. وإن كان الثاني –بالطبع- نتيجة للأول، وسببا في الخلاص من المعاملة التي عانى منها بنو إسرائيل في مصر، من فرعون وقومه.
و"لا يحتمل أن يكون أول ما أتياه قالا: ((أَن أَرسِل مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ))، ولكن قد سبق منهما الدعاء إلى توحيد الله والإفراد له بالألوهية والربوبية؛ فإذا ترك الإجابة، فعند ذلك قالا له: ((أَرسِل مَعَنَا بَنِي إِسرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبهُم)).

وهذا يحتمل وجهين:
أحدهما: كأنه كان يمنع بني إسرائيل عن الإسلام، وهم أرادوا الإسلام، فقالا: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تمنعهم عن الإسلام.
أو: كان يستعبدهم، فأمره أن يستنقذهم من يديه، كقوله: ((أَن عَبَّدتَ بَنِي إِسرَائِيلَ))، ألا ترى أنه قال: ((وَلَا تُعَذِّبهُم))"[52]؛ "أي: لا تستعبدهم؛ فإنهم ليسوا بعبيد. لم يرد إرسالهم معه. ولكن طلب استنقاذهم من العبودية، كقوله: ((أَن عَبَّدتَ بَنِي إِسرَائِيلَ))".[53]

"وكان موسى مبعوثا إلى فرعون في أمرين: أحدهما أن يرسل بني إسرائيل ويزيل عنهم ذل العبودية والغلبة، والثاني أن يؤمن ويهتدي. وأَمَر بمكافحته ومقاومته في الأول، ولم يؤمر بذلك في الثاني على ما بلغ من أمره. وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل فقط، هذا قول بعض العلماء".[54]
وإرسالهم يعني أن يُخلِّ عنهم، وأن يطلق سراحهم، ولا يستسخرهم في الأعمال الشاقة، ولا يتعبهم في العمل[55]؛ وأَن يطلِقهم مِن الاستعباد والاسترقاق.[56]
وهذا الترك لهم، بما يمكنهم من نيل حريتهم، كفيل بأن يتلقوا الإيمان.. آمنوا أم لم يؤمنوا.
لذلك جاء في بعض أقوال أهل التفسير في معنى الآية: "ولَا تَمنَعهُم مِن الإِيمَانِ"[57]. وهذا يتفق مع المشهد الذي ذكره الله تعالى عن حال بني إسرائيل مع دعوة موسى: ((فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَومِهِ عَلَى خَوفٍ مِن فِرعَونَ وَمَلَئِهِم أَن يَفتِنَهُم وَإِنَّ فِرعَونَ لَعَالٍ فِي الأَرضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المـُسرِفِينَ))[58]، وأنى للجبابرة والمتكبرين أن يتركوا للناس حريتهم في اعتقاد ما يؤمنوا به؟ ((وَقَالَ المـَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبنَاءَهُم وَنَستَحيِي نِسَاءَهُم وَإِنَّا فَوقَهُم قَاهِرُونَ))[59].
يقول السعدي: "أي: فأتياه بهذين الأمرين، دعوته إلى الإسلام، وتخليص هذا الشعب الشريف بني إسرائيل من قيده وتعبيده لهم، ليتحرروا ويملكوا أمرهم، ويقيم فيهم موسى شرع الله ودينه"[60]؛ "فكُفَّ عنهم عذابك، وارفع عنهم يَدَك، ليعبدوا ربهم ويقيموا أمر دينهم"[61].
وهذا لن يتم في ظل بقائهم تحت حكم فرعون، فإنه لا يكون سلطانان في أرض واحدة، وهذا يقتضي خروجهم من مصر ضرورة. يقول القاسمي في تفسيره للآية: "أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية، وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين"[62]. "لأن تخليص المؤمنين من أيدي الكفرة أهم من دعوتهم إلى الايمان -كما قيل"[63].
هذا إذا سلمنا بإيمانهم جميعا لموسى، وإن كانوا على التوحيد أساسا وعلى موروثهم من آل يعقوب ويوسف. فإنَّه ((مَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ))[64]، ومعنى "الذُّرية" هنا -كما ورد عن ابنِ عبَّاس والضَّحَّاك وقَتَادَة- "القَلِيلُ".[65]
وهذا ما افترضه ابن كثير في تفسيره، حيث قال: "أي: أَطلِقهُم مِن إِسَارِكَ وقَبضَتِكَ وقَهرِكَ وتَعذِيبِكَ؛ فَإِنَّهُم عِبَادُ اللهِ المــُؤمِنُونَ وحِزبُهُ المـُخلَصُونَ، وهُم مَعَكَ فِي العَذَابِ المـُهِينِ"[66].
في حين افترض سيد قطب خلاف ذلك: "في هذه الحدود كانت رسالتهما إلى فرعون[67]: لاستنقاذ بني إسرائيل، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوها، إلى أن يفسدوا فيها، فيدمرهم تدميرا"[68]. ويقول في موطن آخر: "إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون. وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل، وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام، فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد"[69]. فهو يرى أنهم قد انحرفوا في التوحيد وفسدت عقائدهم.
والظاهر كما مرَّ معنا سابقا أنَّ "المرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر، وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ، لا تكليفُهم أن يذهبوا معهما إلى الشام"[70]. وأنه لمـَّا استحال تحقيق هذا الأمر، وظهرت نوايا فرعون العدوانية في القضاء على موسى ومن معه، جاء التوجيه الرباني: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَومٌ مُجرِمُونَ. فَأَسرِ بِعِبَادِي لَيلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ))[71].
ومستند هذا الإرسال والإطلاق كونهم أحرارا: "يقول: وخل سبيلهم فإنهم أحرار ولا تستعبدهم"[72]، "فأطلق حرية بني إسرائيل ليعبدوا ربَّهم في أرض الله الواسعة، ويعودوا معنا إلى الأرض المقدسة فلسطين"[73]. ((وَلاَ تُعَذِّبهُم)) "لأَنهم أَحرَار"[74].
وفي حين كان العذاب يحيط بآل فرعون، ويعلمون أن المخرج من قبل إله موسى، كانوا يقدمون هذا الوعد له: ((قَالُوا يَا مُوسَى ادعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفتَ عَنَّا الرِّجزَ لَنُؤمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسرَائِيلَ))[75]، وبذلك يتضح أن مضمون دعوة موسى –عليه الصلاة والسلام- لفرعون وقومه التوحيد والإيمان، وإطلاق سراح بني إسرائيل من العبودية، كما عرفوها هم بأنفسهم! "وقَد كَانُوا حَابِسِينَ لِبَنِي إِسرَائِيلَ عِندَهُم يَمتَهِنُونَهُم في الأَعمَالِ"[76].

يقول الرازي: "وقَولُهُ: ((ولَنُرسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسرائِيلَ))، كَانُوا قَد أَخَذُوا بَنِي إِسرَائِيلَ بِالكَدِّ الشَّدِيدِ، فَوَعَدُوا مُوسَى -عليه السَّلام- على دُعَائِهِ بِكَشفِ العَذَابِ عَنهُمُ: الإِيمَانَ بِهِ، والتَّخلِيَةَ عَن بَنِي إِسرَائِيلَ وإِرسَالَهُم مَعَهُ يَذهَبُ بِهِم أَينَ شَاءَ"[77]. ويقول أبو حيان: "وفِي قَولِهِم ((لَنُؤمِنَنَّ لَكَ)) دَلَالَةٌ على أَنَّهُ طَلَبَ مِنهُم الإِيمَانَ، كَمَا أَنَّهُ طَلَبَ مِنهُم إِرسَالَ بَنِي إِسرَائِيلَ. وقَدَّمُوا الإِيمَانَ لِأَنَّهُ المـَقصُودُ الأَعظَمُ النَّاشِئُ مِنهُ الطَّوَاعِيَةُ"[78].

 

سنة الجبابرة الظالمين:
إن استعباد الخلق، إذلالا واسترقاقا، سنة الجبابرة الظالمين على مرِّ العصور، وليس فرعون إلا أنموذجا لهذه العينة.
يقول سيد قطب: "ويظهر أن استعباد بني إسرائيل كان إجراء سياسيا خوفا من تكاثرهم وغلبتهم. وفي سبيل الملك والحكم لا يتحرج الطغاة من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية، وأبعدها عن كل معاني الإنسانية، وعن الخُلُق والشَّرف والضمير. ومن ثم كان فرعون يستأصل بني إسرائيل، ويُذلَّهم بقتل المواليد الذكور واستبقاء الإناث، وتسخير الكبار في الشاق المهلك من الأعمال. فلما قال له موسى وهارون: ((أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم)). قال: ((أَجِئتَنا لِتُخرِجَنا مِن أَرضِنا بِسِحرِكَ يا مُوسى))؟ لأن إطلاق بني إسرائيل تمهيد للاستيلاء على الحكم والأرض"[79].
لقد رأى فرعون وملأه في دعوة موسى ومطالبته بتحرير بني إسرائيل قلبا للمعادلة، وتغييرا في مسار الأمور، وشعروا بخطورة الموقف بعد إيمان السحرة لموسى، فاستنكروها واعترضوا عليها، وقالوا: ((.. أَنُؤمِنُ لِبَشَرَينِ مِثلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدُونَ))[80]؛

وفي معنى عابدون أقوال عدة، منها:
أنهم طائعون خاضعون: أي منقادون لأوامرنا ونواهينا، فلنا عليهم الرئاسة والسلطان.
وأنهم خدم مملوكون: فهم مستعبدون على وجه الرق.
وأنهم مُستَذَلُون: استضعافا وتحقيرا؛ فهم يعملون في الأشغال الشاقة والمهن المستقبحة.
والبعض ذهب إلى أنهم كانوا عابدين لفرعون وآلهة القبط على الحقيقة.[81]
وأيًّا كان المعنى، فسؤالهم هنا على صيغة الاستنكار! كيف نكون تابعين بعد أن كنا متبوعين؟ وكيف يكون هؤلاء رؤساء علينا؟! ونظير قولهم هذا قول قوم نوح لنوح –عليه الصلاة والسلام: ((أَنُؤمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرذَلُونَ؟!))، ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُم أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأيِ)).
فاستَكبَرُوا عن الانقياد، وعن إرسال بني إسرائيل مع موسى، "وتحريرهم من تلك العبودية"[82]. وبدأ التحريض والتحذير: ((وَقَالَ المـَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِي الأَرضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبنَاءَهُم ونَستَحيِي نِسَاءَهُم وَإِنَّا فَوقَهُم قَاهِرُونَ))[83].
وفي هذا الخطاب إِغرَاءٌ لفِرعَونَ بِمُوسَى وقَومِهِ، وتَحرِيضٌ على قَتلِهِم وتَعذِيبِهِم، حتَّى لا يكُونَ لهم خُرُوجٌ عن دِينِ فِرعَونَ. والمقصود بقومه "مَنِ اتَّبَعَهُ مِن بَنِي إِسرَائِيلَ"، وإفسادهم "دُعَاؤُهُمُ النَّاسَ إلى مُخَالَفَةِ فِرعَونَ وتَركِ عِبَادَتِهِ". وهذا التحريض "لِيَكُونَ ذلك أَبقَى عليهم، إِذ هُمُ الأَشرَافُ وبِتَركِ مُوسَى وقَومِهِ بِمِصرَ يَذهَبُ مُلكُهُم وشَرَفُهُم".[84]

وقد قَرَأَ الجمهورُ ((وَيَذَرَكَ)) بِالنَّصبِ. وذُكِرَ فيها ثَلَاثةَ أَوجُهٍ:
"أَحَدُهَا: أَن يَكُونَ قَولُهُ: ((وَيَذَرَكَ)) عَطفًا على قَولِهِ: ((لِيُفسِدُوا))، لأَنَّهُ إِذَا تَرَكَهُم ولم يَمنَعهُم كان ذلك مُؤَدِّيًا إلى تَركِهِ وَتَركِ آلِهَتِهِ، فَكَأَنَّهُ تَرَكَهُم لِذَلِكَ.
وثَانِيهَا: أَنَّهُ جَوَابٌ لِلِاستِفهَامِ بالواو،.. والتَّقدِيرُ: أَتَذَرُ مُوسَى وقَومَهُ لِيُفسِدُوا في الأَرضِ فَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ.
قال الزَّجَّاجُ: والمـَعنَى: أَيَكُونُ مِنكَ أَن تَذَرَ مُوسَى وأَن يَذَرَكَ مُوسَى؟
وثَالِثُهَا: النَّصبُ بِإِضمَارِ أَن، تَقدِيرُهُ: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَومَهُ لِيُفسِدُوا وأَن يَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ"[85].
وقُرِئَ ((ويَذَرُكَ)) بِالرَّفعِ. قيل: عَطفا على أَتَذَرُ، بمَعنَى أَتَذَرُهُ ويَذَرُكَ، أي أَتُطلِقُ له ذلك، أو على الاستِئنَافِ، أو على الحال على تَقدِيرِ: وهو يَذَرُكَ[86].
وكان ابن عُمَرَ يُنكِرُ قِرَاءَةَ العَامَّةِ، ويَقرَأُ ((إِلَاهَتَكَ)) أَي: عِبَادَتَكَ، ويَقُولُ: إِنَّ فِرعَونَ كان يُعبَدُ ولا يَعبُدُ. وقال ابن عباس قوله: ((وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ)) قال: يَترُك عِبَادَتك. وكذلك قال مجاهد. وهذا ما كان يخشاه فرعون: ((إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم))، والدِّينُ هنا بمعنى: السُّلطَانُ، ومِنهُ قول زُهَيرٌ:

لَئِن حَلَلتَ بِجَوٍّ في بَنِي أَسَدٍ *** في دِينِ عَمرٍو وحَالَت بَينَنَا فَدَكُ[87]

إنهم استثاروا فرعون بقولهم: "أَتَترُكُ مُوسَى وقَومَهُ أَحرَارًا آمِنِينَ، لتَكُونَ عَاقِبَتَهُم أَن يُفسِدُوا قَومَكَ عليك في أَرضِ مِصرَ، بِإِدخَالِهِم في دِينِهِم، أو جَعلِهِم تَحتَ سُلطَتِهِم ورِيَاسَتِهِم"[88]؛ ودفعوه لسياسة القتل والإذلال التي لا يحسن الجبابرة سواها لكسر إرادة الشعوب: ((قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبنَاءَهُم ونَستَحيِي نِسَاءَهُم وَإِنَّا فَوقَهُم قَاهِرُونَ))!
وهذا العذاب الأليم إنما هو متوجه للذين آمنوا لموسى دون من سواهم: ((فلَمَّا جَاءَهُم بِالحَقِّ مِن عِندِنَا قَالُوا اقتُلُوا أَبنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ واستَحيُوا نِسَاءَهُم وَمَا كَيدُ الكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ))[89]؛ لأنَّ استعداء بني إسرائيل جميعا مع حداثة الدعوة طيش وغباء لا يرتكبه الملأ، لأنه يوجد الخلاف في صف المجتمع المستفيد من هذه الطبقة أولا، ويؤلب بني إسرائيل جميعا ليقفوا في صفِّ موسى عصبية، ما قد يزعزع من استقرار الأمن ثانيا.
واختصاص الأبناء دون البنات "لِئَلَّا يَنشَئُوا على دِينِ مُوسَى فَيَقوَى بِهِم"[90]، و"ليَصُدُّوهم بذلك عن مُتابَعَة موسى ومُظَاهَرتِه"[91]، و"لِيَقِلَّ رَهطُهُ الَّذِينَ يَقَعُ الإِفسَادُ(!) بِوَاسِطَتِهِم"[92]، و"لإِهَانَةِ هَذَا الشَّعبِ، ولكي يَتَشَاءَمُوا بمُوسَى -عليه الصلاة والسَّلام؛ ولهذا قَالُوا: ((أُوذِينَا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنَا وَمِن بَعدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم ويَستَخلِفَكُم في الأَرضِ فيَنظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ))"[93]؛ خاصة وأن "استحياء المرأة، هو تعرّضها لما يخدش حياءها أو يجرحه.. وذلك باستدعاء حيائها، حين تواجه بما تنكره الحرّة وتأباه العفيفة"[94].
وقد بلغ الغيض بفرعون –وهو من هو في السطوة- لاستئذان قومه بقتل موسى: ((وقَالَ فِرعَونُ ذَرُونِي أَقتُل مُوسَى وليَدعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ في الأَرضِ الفَسَادَ))[95].
إن أول خطوة يخطوها الجبابرة في مواجهة دعاة التغيير هي إيذاءهم وإيذاء من يؤمن برسالتهم، ليكونوا عبرة لكل من يعتبر، ويتراجع كل من ينشد التغيير أمام ضخامة التكاليف طالبا للسلامة.
وفي هذه الحالة لا يملك موسى وبنو إسرائيل أي حيلة، ويبقى العون الإلهي هو المخرج: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَومٌ مُجرِمُونَ. فَأَسرِ بِعِبَادِي لَيلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ. وَاترُكِ البَحرَ رَهوًا إِنَّهُم جُندٌ مُغرَقُونَ. كَم تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَورَثنَاهَا قَومًا آَخَرِينَ. فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاءُ والأَرضُ ومَا كَانُوا مُنظَرِينَ.  وَلَقَد نَجَّينَا بَنِي إِسرَائِيلَ مِن العَذَابِ المـُهِينِ. مِن فِرعَونَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ المـُسرِفِينَ))[96].

 

الطغيان منبت الفساد:
يقول سيد قطب: "((الَّذِينَ طَغَوا في البِلادِ، فَأَكثَرُوا فِيهَا الفَسادَ)).. وليس وراء الطغيان إلا الفساد. فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف، المـُعمِّر الباني، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال. إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد، ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف؛ وكذلك قال فرعون: ((أَنَا رَبُّكُمُ الأَعلَى)) عندما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد.
ثُمَّ هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية.
والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد.
ثُمَّ هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة. وهو فساد أي فساد"[97].
لقد "أَفسَدَ ظُلمُ الفَرَاعِنَةِ فِطرَةَ بني إِسرَائِيلَ في مِصرَ، وطَبَعَ عليها طَابَعَ المـَهَانَةِ والذُّلِّ، وقد أَرَاهُمُ اللهُ تعالى ما لم يُرِ أَحَدًا مِن الآيَاتِ الدَّالَّةِ على وحدَانِيَّتِهِ وقُدرَتِهِ وصِدقِ رَسُولِهِ -موسى عليه الصلاة والسَّلام، وبَيَّنَ لهم أنَّه أَخرَجَهُم مِن مِصرَ لِيُنقِذَهُم مِن الذُّلِّ والعُبُودِيَّةِ والعَذَابِ إلى الحُـرِّيَّةِ والاستِقلَالِ والعِزِّ والنَّعِيمِ، وكَانُوا على هذا كُلِّهِ إِذَا أَصَابَهُم نَصَبٌ أو جُوعٌ أو كُلِّفُوا أَمرًا يَشُقُّ عليهم يَتَطَيَّرُونَ بموسى ويَتَمَلمَلُونَ مِنه، ويَذكُرُونَ مِصرَ ويَحِنُّونَ إلى العَودَةِ إليها، ولمــَّا غَابَ عنهم أَيَّامًا لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ اتَّخَذُوا لهم عِجلًا مِن حُلِيِّهِمُ الَّذي هو أَحَبُّ شَيءٍ إليهم، وعَبَدُوهُ لمـَا رَسَخَ في نُفُوسِهِم مِن إِكبَارِ سَادَتِهِم المـِصرِيِّينَ، وإِعظَامِ مَعبُودِهِم العِجلِ (أَبِيسَ).
وكانَ اللهُ تعالى يَعلَمُ أَنَّهُم لا تُطِيعُهُم نُفُوسُهُم المـَهِينَةُ على دُخُولِ أَرضِ الجَبَّارِينَ، وأَنَّ وَعدَهُ تعالى لأَجدَادِهِم إِنَّمَا يِتِمُّ على وِفقِ سُنَّتِهِ في طَبِيعَةِ الاجتِمَاعِ البَشَرِيِّ، إذَا هَلَكَ ذلك الجِيلُ الَّذي نَشَأَ في الوَثَنِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ لِلبَشَرِ وفَسَادِ الأَخلَاقِ، ونَشَأَ بعدهُ جِيلٌ جَدِيدٌ في حُـرِّيَّةِ البَدَاوَةِ وعَدلِ الشَّرِيعَةِ ونُورِ الآيَاتِ الإِلَهِيَّةِ"[98].
إن موسى –عليه الصلاة والسلام- في سيناء لم يواجه طاغوت فرعون وملئه، لأن المعركة انتهت مع الطاغوت –كما يقول سيد قطب؛ ولكنه واجه معركة أخرى –لعلها أشد وأقسى وأطول أمداً- مع "رواسب الذل الذي أفسد طبيعة بني إسرائيل، وملأها بالالتواء من ناحية، وبالقسوة من ناحية، وبالجبن من ناحية، وبالضعف عن حمل التبعات من ناحية.
وتركها مهلهلة بين هذه النزعات جميعاً.. فليس أفسد للنفس البشرية من الذل والخضوع للطغيان طويلاً، ومن الحياة في ظل الإرهاب والخوف والتخفي والالتواء لتفادي الأخطار والعذاب، والحركة في الظلام، مع الذعر الدائم والتوقع الدائم للبلاء!
ولقد عاش بنو إسرائيل في هذا العذاب طويلاً عاشوا في ظل الإرهاب وفي ظل الوثنية الفرعونية كذلك. عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم. فإذا فتر هذا النوع البشع من الإرهاب الوحشي، عاشوا حياة الذل والسخرة والمطاردة على كل حال.
وفسدت نفوسهم وفسدت طبيعتهم والتوت فطرتهم وانحرفت تصوراتهم وامتلأت نفوسهم بالجبن والذل من جانب، وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر.. وهما جانبان متلازمان في النفس البشرية حيثما تعرضت طويلاً للإرهاب والطغيان.
لقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينظر بنور الله، فيرى حقيقة تركيب النفس البشرية وطبيعتها، وهو يقول لعماله على الأمصار موصياً لهم بالناس: ولا تضربوا أبشارهم فتذلوهم.. كان يعلم أن ضرب البشرة يُذلَّ الناس. وكان الإسلام في قلبه يريد منه ألا يذل الناس في حكومة الإسلام وفي مملكة الله. فالناس في مملكة الله أعزاء، ويجب أن يكونوا أعزاء وألا يضربهم الحكام فيذلوهم، لأنهم ليسوا عبيداً للحكام، إنما هم عبيد لله أعزاء على غير الله"[99].
لقد ترسخ الطغيان الفرعوني في نفوس بني إسرائيل حتى باتت نفوسهم "تواجه الحرية بكل رواسب الذل، وتواجه الرسالة بكل رواسب الجاهلية، وتواجه موسى –عليه الصلاة والسلام- بكل الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسبت فيها على الزمن الطويل!"..، إنها "متاعب كل صاحب دعوة، يواجه نفوساً طال عليها الأمد، وهي تستمرئ حياة الذل تحت قهر الطاغوت، وبخاصة إذا كانت هذه النفوس قد عرفت العقيدة التي يدعوها إليها، ثم طال عليها الأمد، فبهتت صورتها، وعادت شكلاً لا روح فيه!
إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف. ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفاً كذلك.. يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة! ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة. لترى فيها هذه التجربة. كما قلنا من قبل. ولعل فيها زاداً لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل"[100].
"فعَلَينا أَن نَعتَبِرَ بهذه الأَمثَالِ الَّتي بَيَّنَها اللهُ تعالى لَنَا، ونَعلَمَ أَنَّ إِصلَاحَ الأُمَمِ بعد فَسَادِهَا بالظُّلمِ والاستِبدَادِ، إِنَّما يَكُونُ بإِنشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجمَعُ بَينَ حُرِّيَّةِ البَدَاوَةِ واستِقلَالِهَا وعِزَّتِهَا، وبَينَ مَعرِفَةِ الشَّرِيعَةِ والفَضَائِلِ والعَمَلِ بِهَا. وقد كان يَقُومُ بهذا في العُصُورِ السَّالِفَةِ الأَنبِيَاءُ، وإِنَّما يَقُومُ بها بعد خَتمِ النُّبُوَّةِ ورَثَةُ الأَنبِيَاءِ، الجَامِعُونَ بين العِلمِ بِسُنَنِ اللهِ في الاجتِمَاعِ وبَينَ البَصِيرَةِ والصِّدقِ والإِخلَاصِ في حُبِّ الإِصلَاحِ وإِيثَارِهِ على جَمِيعِ الأَهوَاءِ والشَّهَوَاتِ، ومَن يُضلِلِ اللهُ فما له مِن هَادٍ"[101].

 

الحرية ملك.. ترفضه نفوس الأذلاء!
سجل القرآن الكريم في مسيرة موسى –عليه الصلاة والسلام- وهو يوقظ همة بني إسرائيل أخباره عنهم أنَّ الله جعلهم ملوكا! وهي كناية كما ذكر بعض علماء التفسير عن كونهم أحرارا.
قال تعالى: ((وإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يَا قَومِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذ جَعَلَ فِيكُم أَنبِيَاءَ وجَعَلَكُم مُلُوكًا وآَتَاكُم مَا لم يُؤتِ أَحَدًا مِن العَالَمِينَ. يَا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ المـُقَدَّسَةَ الَّتي كَتَبَ اللهُ لكُم ولا تَرتَدُّوا على أَدبَارِكُم فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَومًا جَبَّارِينَ وإِنَّا لن نَدخُلَهَا حَتَّى يَخرُجُوا مِنها فإِن يَخرُجُوا مِنها فإِنَّا دَاخِلُونَ))[102].
يقول محمد رشيد رضا: "جَعلُهُم مُلُوكًا، لَولَا مَا وَرَدَ في التَّفسِيرِ المـَأثُورِ عَن النَّبِي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ، لكَانَت هَذِه النِّعمَةُ مَوضِعَ اشتِبَاهٍ عِندَ المـُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ في فَهمِ العَرَبِيَّةِ; لأَنَّ بنى إِسرَائِيلَ لم يَكُن فيهم مُلُوكٌ على عهدِ موسى؛ وإِنَّما كانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِم بِالمــَعنَى العُرفِيِّ لِكَلِمَةِ مَلِكٍ ومُلُوكٍ شَاوِلُ بنُ قَيسٍ، ثُمَّ دَاوُدُ الَّذِي جَمَعَ بين النُّبوَّةِ والمــُلكِ. وإِنَّ مَن يَفهَمُ العَرَبِيَّةَ حَقَّ الفَهمُ يَجزِمُ بِأَنَّهُ لَيسَ المــُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ المـُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلأُمَمِ والشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا ويَحكُمُونَ بَينَهَا، ولا أَنَّهُ جَعَلَ بَعضَهُم مُلُوكًا، لأَنَّهُ قال: ((وَجَعَلَكُم مُلُوكًا)) ولم يَقُل: وجَعَلَ فِيكُم مُلُوكًا، كَمَا قَالَ: ((جَعَلَ فِيكُم أَنبِيَاءَ))؛ فَظَاهِرُ هَذِه العِبَارَةِ أَنَّهُم كُلَّهُم صَارُوا مُلُوكًا، وإِن أُرِيدَ بِـكُلٍّ المـَجمُوعُ لا الجَمِيعُ، أَي إِنَّ مُعظَمَ رِجَالِ الشَّعبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعدَ أَن كَانُوا كُلُّهُم عَبِيدًا لِلقِبطِ، بَل مَعنَى المـَلِكِ هُنَا الحُرُّ المـَالِكُ لِأَمرِ نَفسِهِ وتَدبِيرِ أَمرِ أَهلِهِ، فَهُوَ تَعظِيمٌ لِنِعمَةِ الحُرِّيَّةِ والِاستِقلَالِ بَعدَ ذَلِكَ الرِّقِّ والِاستِعبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفسِيرُ المـَأثُورُ; فَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ، مَرفُوعًا عِندَ ابنَ أَبِي حَاتِمٍ: (كَانَت بَنُو إِسرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِم خَادِمٌ ودَابَّةٌ وامرَأَةٌ كُتِبَ مَلِكًا)، وفي حَدِيثِ زَيدِ بنِ أَسلَمَ: (مَن كَانَ لَهُ بَيتٌ وخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ)، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ في مَرَاسِيلِهِ، تَفسِيرًا لِلآيَةِ بِلَفظِ (زَوجَةٍ ومَسكَنٍ وخَادِمٍ)، ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ مِثلَهُ عَن ابنِ عَبَّاسٍ وعَن مُجَاهِدٍ؛ وعَن ابنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخرَى سَتَأتِي بِنَصِّهَا، وقَد صَحَّحُوا سَنَدَهَا، والمـَرفُوعُ ضَعِيفُ السَّنَدِ. والمـَعنَى الجَامِعُ لِهَذِه الأَقوَالِ أَنَّ المـُرَادَ بِالمـُلكِ هُنَا: الاستِقلَالُ الذَّاتِيُّ، والتَّمَتُّعُ بِنَحوِ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ المـُلُوكُ مِن الرَّاحَةِ والحُرِّيةِ في التَّصَرُّفِ وسِيَاسَةِ البُيُوتِ، وهُوَ مَجَازٌ تَستَعمِلُهُ العَرَبُ إلى اليَومِ في جَمِيعِ مَا عَرَفنَا مِن بِلَادِهِم، يَقُولُونَ لِمَن كانَ مُهَنَّئًا في مَعِيشَتِهِ، مَالِكًا لِمَسكَنِهِ، مَخدُومًا مع أَهلِهِ، فَلَانٌ مَلِكٌ، أَو مَلِكُ زَمَانِهِ; أَي يَعِيشُ عِيشَةَ المـُلُوكِ، وتَرَى مِثلَ هَذَا الِاستِعمَالِ المـَجَازِيِّ في رُؤيَا يُوحَنَّا، قَالَ: (1: 6 وجَعَلَنَا مُلُوكًا وكَهَنَةً).

وذَهَبَ بَعضُ المـُفَسِّرِينَ إلى أنَّ المـَعنَى أَنَّهُ جَعَلَهُم مُلُوكًا بِالقُوَّةِ والِاستِعدَادِ بِما آتَاهُم مِن الحُرِّيةِ والِاستِقلَالِ وشَرِيعَةِ التَّورَاةِ العَادِلَةِ التي يَرتَقُونَ بِها في مَرَاقِي الاجتِمَاعِ، وهو بِشَارَةٌ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ مِنهُم مُلُوكٌ بِالفِعلِ; لأنَّ مَا استَعَدَّت لَهُ الأُمَّةُ مِن ذلك في مَجمُوعِهَا لابُدَّ أَن يَظهَرَ أثَرُهُ بَعدَ ذلك في بَعضِ أَفرَادِهَا. وهَذَا المـَعنَى لا يُعَارِضُ مَا قَبلَهُ، بَل يُجَامِعُهُ ويَتَّفِقُ مَعَهُ، فَإِنَّ تِلكَ المـَعِيشَةَ المـَنزِلِيَّةَ الرَّاضِيَةَ هي الأَصلُ في الِاستِعدَادِ لِهَذِهِ العِيشَةِ الثَّانِيَةِ، عِيشَةِ المـُلكِ والسُّلطَةِ؛ فإِنَّ الشُّعُوبَ التي يَفسُدُ فيها نِظَامُ المـَعِيشَةِ المـَنزِلِيَّةِ لا تَكُونُ أُمَمًا عَزِيزَةً قَوِيَّةً; فهي إِذا كان لها مُلكٌ تُضَيِّعُهُ، فَكَيفَ تَكُونُ أَهلًا لِتَأسِيسِ مُلكٍ جَدِيدٍ؟!
فَليَعتَبِرِ المـُسلِمُونَ بِهَذَا، وليَنظُرُوا أين هم مِن العِيشَةِ الأَهلِيَّةِ التي وصَفنَاهَا"[103].

وقد خيب بنو إسرائيل ظن موسى بهم، حيث غلبت على أنفسهم ذلة العبودية، واستكانة المستضعف، وفضلوا القعود عن الجهاد وتحمل أعبائه؛ فإنهم لم يستطيعوا التخلص من ربقة القوة المادية والسمو بأرواحهم إلى فضاء الحرية، لأنه "متى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب"[104].
يقول سيد قطب في ظلاله وهو يحكي كيف أن أبشار المصريين ضربت حتى ذلوا، في عهود الطاغوت الفرعوني، ثم في عهود الطاغوت الروماني: "ولم يستنقذهم من هذا الذل إلا الإسلام، يوم جاءهم بالحرية، فأطلقهم من العبودية للبشر بالعبودية لرب البشر؛ فلمَّا أن ضرب ابن عمرو بن العاص -فاتح مصر وحاكمها المسلم- ظَهْرَ ابن قبطي من أهل مصر -لعل سياط الرومان كانت آثارها على ظهره ما تزال، غضب القبطي لسوط واحد يصيب ابنه من ابن فاتح مصر وحاكمها، وسافر شهراً على ظهر ناقة، ليشكو إلى عمر بن الخطاب -الخليفة المسلم- هذا السوط الواحد الذي نال ابنه! وكان هو يصبر على السياط منذ سنوات قلائل في عهد الرومان. وكانت هذه هي معجزة البعث الإسلامي لنفوس الأقباط في مصر، وللنفوس في كل مكان، حتى لمن لم يعتنقوا الإسلام. كانت هذه هي معجزة هذا البعث الذي يستنقذ الأرواح من ركام آلاف السنين من الذل القديم، فتنتفض هكذا انتفاضة الكرامة التي أطلقها الإسلام في أرواحهم، وما كان غير الإسلام ليطلقها في مثل هذه الأرواح"[105].

إن الحرية تنطلق ابتداء من الشعور النفسي بها باعتبارها هبة إلهية لا حقا وضعيا، فإذا غاب هذا المعنى ارتكس الإنسان في براثن العبودية. وإذا كان واهب الحرية هو الله ابتدءا فإنه المستحق للتعبد له لا لسواه، وبهذا يتحرر الإنسان إلا من خالقه ومالكه.

يقول سيد: "ما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله، ويفر إلى الله بجملته، وينجو من العبودية لكل أحد، ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده. فهذا هو التحرر إذن، وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية! ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر. فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه، أو في مجريات حياته، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة. لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله، وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله. وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان"[106].

ولأن "أكرم ما في الإنسان" هي "حرية الاعتقاد"، بحسب سيد: "فالذي يسلبه هذه الحرية، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته؛ ومن ثمَّ يدفعه بالقتل"[107].

والضعفاء "هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله، حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه، وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة، ودانوا لغير الله من عبيده، واختاروها على الدينونة لله. والضعف ليس عذراً بل هو الجريمة، فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحرية -التي هي ميزته ومناط تكريمه، أو أن ينزل كارهاً. والقوة المادية- كائنة ما كانت- لا تملك أن تستعبد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه؛ أما الضمير، أما الروح، أما العقل، فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال!

من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟! من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟!
لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة.
فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء.
إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان! إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان!
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان!
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم: ((إنَّا كُنَّا لكُم تَبَعاً فهَل أَنتُم مُغنُونَ عنَّا مِن عَذابِ اللهِ مِن شَيءٍ))؟"[108].
وإذا كان "مِن المـَعقُولِ والثَّابِتِ بالتَّجَارِبِ: أنَّ سُوءَ حالِ المـُؤمِنِينَ وأَهلِ الحَقِّ في أيِّ حَالٍ مِن ضَعفٍ أو فَقرٍ أو عَمَلٍ مَذمُومٍ، يَجعَلُهم مَوضِعًا أو مَوضُوعًا لافِتَتَانِ الكَفَّارِ وأَهلِ البَاطِلِ بِهِم، بِاعتِقَادِ أَنَّهُم هم خَيرٌ مِنهُم، كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعضَهُم بِبَعضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيهِم مِن بَينِنَا))؛ وقال: ((وَجَعَلنَا بَعضَكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرُونَ))"[109].. فكَيفَ إذَا خَذَلَ أَهلَ الحَقِّ حَقُّهُم وكَفَرُوا نِعمَةَ رَبِّهِم؟ وجعلوا من أنفسهم أذلة صاغرين وعبيدا مستضعفين؟!

الحرية هدف للجهاد:
إن خطاب الله تعالى للإنسان، وشرائعه التي أوجبها عليها، تهدف فيما تهدف لترسيخ حرية الإنسان، كي لا يقدم على أمر من غير نية خالصة وهدف صحيح وإيمان تام. فهي تنتزعه من كل القيود والأغلال والآصار وتبعث في نفسه الانعتاق ليكون سيدا في هذا الكون كما أراد الله له أن يكون: ((وإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فيهَا ويَسفِكُ الدِّمَاءَ ونَحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ))[110]؛ ((ولَقَد كَرَّمنَا بَنِي آَدَمَ وحَمَلنَاهُم في البَرِّ والبَحرِ ورَزَقنَاهُم مِن الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلنَاهُم على كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلًا))[111].
ومراد الله تعالى من فرض الجهاد على الأمة المسلمة، متى ما تمكنت من إقامة مجتمعها ودولتها، وامتلكت القدرة على المواجهة، وعزمت عليها بمنطق شوروي، هو تحطيم كل الحواجز والقيود التي تحول دون وصول الناس لدعوة الحق وعرضها عليهم، والقضاء على كل سلطة تحول بينهم وبين الدخول في هذا الدين إن هم رغبوا فيه.
فليست غاية الجهاد القتل لمجرد القتل، بل هو وسيلة يتم من خلالها عرض الخيارات المنطقية للقوى المناوئة، فإما أن تدخل في الإسلام وتلتزم بشرائعه، وإما أن تخضع لسلطانه وإن بقت على دينها ومعتقدها، وإما أن يكون السيف الحكم.
ويترك الناس أمام هذه الخيارات أحراراً، حتى وإن اختاروا البقاء على الكفر والخضوع لسلطان الإسلام بدفع الجزية.
وبهذه النفسية خرجت جيوش الإسلام تفتح البلدان لتقول للناس: كونوا أحرارا وإن كنَّا ندعوكم لأعظم مراتب الحرية العبودية لله! فإذا اعتنقوا هذا الدين ودخلوا فيه اختيارا، بعد معرفة وفهم، لم يكونوا مخيرين في الخروج منه، لعدة اعتبارات:
الأولى: أن دخولهم فيه التزام منهم مؤبد به، كما هو معلوم من مضمون رسالة الإسلام. ولا يحق للمرء التراجع عمَّا التزم به، وإلا تحمل مسئولية إخلاله بالالتزام.
الثانية: أن دخوله خروج من العبودية إلى الحرية الحقة، واعتراف بالعبودية المطلقة لله، والخروج منه ردة عن العبودية المطلقة لله إلى عبودية غيره، وتخل عن التكريم الإلهي للإنسان بالحرية والخطاب! وفي ذلك دعوة للنفوس الضعيفة لدواعي العبودية الباطلة وتجريء عليها، فكان لابد من سد باب الفتنة على الناس، فإنه لا قيمة للنفس البشرية بدون الأمرين: الحرية والتكليف.
وبذلك يكون الدين لله، أي الدينونة في الأرض، فلا طغاة أو مستبدون أو جبارون يصدون عن الحق ويذلون عبيده ويستضعفونهم ظلما وقهرا. وليس المقصود بالدين هنا العقيدة والتعبد الشرائعي وإنما السلطان والطاعة؛ حيث تكون كلمة الله هي العليا. فإذا تحقق ذلك لم تكن في الأرض قوة أو سلطة تحجب نور الله وهداه عن عباده، أو تضلهم عن سبيله، أو تحرمهم من اللحاق بركابه.
إن الإسلام يحارب الإكراه تحت أي اسم وبأي ذريعة كانت: ((لا إِكرَاهَ في الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِن الغَيِّ فمَن يَكفُر بالطَّاغُوتِ ويُؤمِن باللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى لا انفِصَامَ لَهَا واللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))[112]، وينبه حامل الرسالة لهذه الحقيقة: ((ولَو شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَن في الأَرضِ كُلُّهُم جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ))[113]، ((.. ومَا أَنتَ عَلَيهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّر بِالقُرآَنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ))[114]، ((فذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَستَ عَلَيهِم بِمُسَيطِرٍ))[115].
وإذا لم يتمكن المسلم –أو الفئة المسلمة- أن يعلن عن معتقده وأن يمارس شعائر دينه بأمان ودون تضييق، بحيث تقوم مصالحه الدنيوية دون أن يفتن في دينه، وجبت عليه الهجرة –إذا كان مستطيعا- إلى أي بلد يمكنه فعل ذلك بحرية وأمان. فالهجرة مقابل الفتنة في الدين، حتى ولو كانت إلى بلد كافر يوجد فيه الأمن والعدل والحرية، كما كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة. يقول تعالى: ((يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعبُدُونِ))[116].
ومتى تخلى الإنسان عن حريته في اعتقاد ما يراه حقا، وممارسة ما يراه صوابا، وآثر الذلة والهوان ظلم نفسه: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المـَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ في الأَرضِ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَت مَصِيرًا. إِلَّا المـُستَضعَفِينَ مِن الرِّجَالِ والنِّسَاءِ والوِلدَانِ لا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً ولا يَهتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا. ومَن يُهَاجِر في سَبِيلِ اللهِ يَجِد في الأَرضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ومَن يَخرُج مِن بَيتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدرِكهُ المـَوتُ فَقَد وَقَعَ أَجرُهُ عَلَى اللهِ وكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا))[117].

الخلاصة:
نخلص مما سبق أن لا تعارض البتة بين الحرية والشريعة، فالأولى هبة إلهية للإنسان استحق معها مخاطبته وتكليفه بالشريعة. لهذا كان جوهر رسالة الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- هو تمكين الناس من هذه الهبة ليخاطبوا بالرسالة، بعيدا عن الخوف والترهيب، والإكراه والجبر. ومتى نزعت الحرية من الإنسان واستضعف واستذل واستعبد نزع عنه مقوم من مقومات تلقي الرسالة، لأنه والحالة هذه يكون مسخا غير صالح للخطاب والتكليف. لذلك فإن تكاليف الشريعة في حق المسلم العبد (أي الرقيق) ليست هي ذاتها في حق المسلم الحر؛ فقد وضع عنه منها نظرا لحالته الوضعية.
وإن العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، المطالبين اليوم بحرية الشعوب العربية والإسلامية عموما، لا يهدفون بمناداتهم للحرية دعوة الناس للكفر وإن وقع بعضهم في الكفر[118]، بل هدفهم استعادة الخصيصة الربانية التي كرم الله تعالى بها الإنسان في النفس البشرية لتمتلك إرادتها في اعتقاد ما تؤمن به، وممارسة ما ترتضيه من شعائر وسلوك.
وإذا وجب الجهاد وإزهاق النفوس المؤمنة لتحرير البشر، وإخراج الكفار من قبضة قوى الجبروت والطغيان ليختاروا بعد ذلك بين الإسلام والكفر(!)، مع قيام سلطان دولة الإسلام وتمكنها من قهرهم، فلأن يناضل دعاة الإسلام اليوم لتحرير شعوب المنطقة من جبروت وطغيان الأنظمة والحكومات –وعامتهم من المسلمين- أوجب؛ فإن غاية الهجرة تحرير المسلم من مثل هذه القيود بخروجه من أرضه، وتحريره في بلده إذا أمكن أولى، خاصة إذا لم يُمكِن الدعاة والعاملين إلا ذلك.
وإذا كانت إقامة الشريعة على الوجه الأكمل والأشمل مقدورة بعد ذلك فهو نور على نور؛ وإلا فإنه يسع العلماء ما يسع الأنبياء مع أقوامهم.
يقول ابن تيمية: "إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليما إلى بيانها.
يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)). والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم -كالمجنون أو العاجز عن العمل- فلا أمر عليه ولا نهي؛ وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه -كالجنون مثلا.
وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا؛ ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه.
ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم"[119].
وعليه فإن منطق العقل والفطرة والشرع يدل على أنَّ الحرية أولا لو كانوا يعقلون.

 

------------------------------------------------------------
[1]  الظلال: ج6/3917- 3918.
[2]  رواه مسلم.
[3]  المائدة: 7.
[4]  رواه ابن ماجة في سننه، عن ابن عباس، وكذلك الترمذي في سننه، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، وصححه الألباني.
[5]  تفسير الشعرواي: ج14/8514.
[6]  الدُّخَانِ: 17- 21.
[7]  الشُّورَى: 23.
[8]  تفسير ابن كثير: ج7/141.
[9]  الضدان هما اللذان لا يجتمعان ويمكن خلو المحل منهما. كالسواد والبياض باعتبارهما وصفا لشيء. فهو يمكن أن يكون أبيضا أو أسودا، وفي حال كان موصوفا بأحدهما لم يجز وصفه بالآخر، لكن يجوز وصفه بغيرهما كالإحمرار مثلا. والنقيضان هما اللذان لا يجتمعان ولا يمكن خلو المحل منهما. كالوجود والعدم باعتبارهما وصفا لشيء. فهو إما أن يكون موجودا أو معدوما، ولا يمكن وصفه أنه غير موجود غير معدوم. وكالحياة والموت، والحركة والسكون، إذا عُلم أن الموصوف خلا من أحدهما ثبت الآخر قطعا.
[10]  الأحزاب: 64- 68.
[11]  سبأ: 31- 33.
[12]  يقول سيد قطب: "إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده، ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب؛ إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله. يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله –سبحانه، يقرر حق المحتاجين جميعاً في أن ينالوا العون والمساعدة، ما داموا في غير حالة حرب مع الجماعة المسلمة- دون نظر إلى عقيدتهم". الظلال: ج1/315.
[13]  الدخان: 30- 31.
[14]  ((يَسُومُونَكُم)) هو مِن سَامَهُ خَسفًا، إِذا أَولَاهُ ظُلمًا، قَالَ عَمرُو بنُ كُلثُوم:
إِذَا مَا المـَلِكُ سَامَ النَّاسَ خَسفًا **** أَبَينَا أَن نُقِرَّ الخَسفَ فِينَا
ومَعنَى ((سُوءِ العَذَابِ))، أَشَدُّهُ وَأَصعَبُهُ، كَأَنَّ قُبحَهُ زَادَ. "واعلَم أَنَّ كَونَ الإِنسَانِ تَحتَ يَدِ الغَيرِ، بِحَيثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، لَا سِيَّمَا إِذَا استَعمَلَهُ فِي الأَعمَالِ الشَّاقَّةِ الصَّعبَةِ القَذِرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِن أَشَدِّ أَنوَاعِ العَذَابِ. حَتَّى إِنَّ مَن هَذِهِ حَالَتُهُ رُبَّمَا تَمَنَّى المـَوتَ". تفسير الرازي: ج3/505.
[15]  البقرة: 49.
[16]  الأعراف: 141.
[17]  إبراهيم: 6.
[18]  غافر: 23- 25.
[19]  الأعراف: 127- 129.
[20]  طه: 44- 47.
[21]  الدخان: 17- 24.
[22]  الأعراف: 104- 105.
[23]  القصص: 4.
[24]  الدخان: 20.
[25]  يونس: 83.
[26]  الشعراء: 18- 19.
[27]  الشعراء: 18- 22.
[28]  انظر: تفسير الطبري: ج17/559- 560؛ وتفسير الثعالبي: ج7/161.
[29]  انظر: تفسير الرازي: ج24/497؛ وتفسير الواحدي: ج3/352؛ وتفسير البغوي: ج3/465؛ وتفسير أبو السعود: ج6/238.
[30]  انظر: تفسير مجاهد: ج1/510؛ وتفسير الطبري: ج17/560- 561؛ وتفسير ابن أبي حاتم: ج8/2756؛ وحاشية الشهاب على تفسير البيضاوي: ج1/19؛ وتفسير الماوردي: ج4/168.
[31]  تفسير الواحدي: ج3/352.
[32]  تفسير يحيى بن سلام: ج2/499.
[33]  تفسير البغوي: ج3/465.
[34]  تفسير ابن كثير: ج6/138.
[35]  تفسير القاسمي: ج7/451.
[36]  أضواء البيان: ج6/89.
[37]  طه: 47.
[38]  تفسير الشعراوي: ج15/9287.
[39]  تفسير الشعراوي: 17/10552.
[40]  التحرير والتنوير: ج18/63.
[41]  الدخان: 18.
[42]  تفسير الطبري: ج22/24- 25.
[43]  تفسير الثعالبي: ج5/196.
[44]  الدخان: 21.
[45]  تفسير ابن عطية: ج5/70- 71.
[46]  تفسير السعدي: ج1/771.
[47]  التفسير القرآني للقرآن، عبدالكريم يونس الخطيب، دار الفكر العربي، القاهرة: ج13/194- 195.
[48]  المـُؤمِنُونَ: 47.
[49]  التحرير والتنوير "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد"، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984هـ: ج25/295- 296.
[50]  التحرير والتنوير: ج25/295- 296.
[51]  طه: 47.
[52]  تفسير الماتريدي: ج7/284.
[53]  تفسير الماتريدي: ج4/519. وانظر: تفسير مقاتل بن سليمان: ج3/28- 29. تفسير السمرقندي: ج2/401.
[54]  تفسير ابن عطية: ج4/227. وانظر: تفسير الثعالبي: ج4/57. وتفسير ابن جزي: ج2/8.
[55]  انظر: تفسير الوجيز للواحدي: ج1/696. تفسير الوسيط للواحدي: ج3/208. تفسير السمعاني: ج3/333. تفسير البغوي: ج3/263. تفسير الرازي: ج24/495. تفسير الثعالبي: ج6/246.
[56]  انظر: زاد المسير في علم التفسير: ج3/336. تفسير النسفي: ج2/367.
[57]  تفسير يحيى بن سلام: ج2/498.
[58]  يونس: 83.
[59]  الأعراف: 127.
[60]  تفسير السعدي: ج1/506.
[61]  تفسير السعدي: ج1/589.
[62]  تفسير القاسمي: ج7/138.
[63]  انظر: روح البيان: ج5/392؛ والتفسير المنير للزحيلي: ج16/214.
[64]  يونس: 83.
[65]  تفسير ابن كثير: ج4/287.
[66]  ج6/137.
[67]  من العجيب أن سيد قطب –رحمه الله- ذهب إلى أنَّ موسى "لم يكن رسولا إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته. إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون". وهذا كلام لا دليل عليه، بل هو يتعارض مع طبيعة الرسالة التي يبعث الله بها الأنبياء لأهل زمانهم من أي جنس كانوا. وإلا فما معنى أن يأخذ الله تعالى فرعون وجنده وقومه بالعذاب، ويحكم عليهم بالنار؟! وكيف يحاججهم مؤمن آل فرعون فيقول: ((وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ))، غافر: 34. فلو لم يكونوا مخاطبين برسالته فما المعنى من هذه المحاججة؟! هذا مع صريح كثير من الآيات في أنَّ الله أرسل موسى وهارون لفرعون لدعوته للتوحيد وإبلاغه ببينات الرسالة!
والصحيح: أنهما أرسلا إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل جميعا، فلما أنكرهم فرعون وقومه، ووقفوا منهم موقف المكذب والمعرض والمحارب لم يكن في مخاطبتهم بشريعة معنى، لذلك جاءت الشريعة مخاطبة بني إسرائيل بعد نجاتهم واستقلالهم بشئونهم. ولهذا فقد أخطأ في هذا الشأن أيضا صاحب تفسير التحرير والتنوير إذ يقول: " ولم يُرسَلَا بِشَرِيعَةٍ إِلى القِبطِ". ج18/63. لأن إنزال الشرائع يتعلق بوجود الأمة الملتزمة بها القادرة على إنفاذها! ولذلك قلَّ إنزال الشرائع بمكة المكرمة وكثر في المدينة.
[68]  تفسير الظلال: ج4/2337.
[69]  تفسير الظلال: ج5/2590.
[70]  تفسير أبي السعود: ج6/19. وربما تضمن الأمر المعنيين معا: "وهَذَا الكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مُوسَى أُمِرَ بِإِخرَاجِ بَنِي إِسرَائِيلَ مِن بِلَادِ الفَرَاعِنَةِ لِقَصدِ تَحرِيرِهِم مِن استِعبَادِ المــِصرِيِّينَ". التحرير والتنوير: ج19/110.
[71]  الدخان: 22- 23.
[72]  تفسير مقاتل بن سليمان: ج3/820.
[73]  التفسير المنير للزحيلي: ج19/131.
[74]  تفسير المقباس من تفسير ابن عباس: ج1/262.
[75]  الأعراف: 134.
[76]  فتح القدير، للشوكاني: ج2/272.
[77]  تفسير مفاتح الغيب: ج14/ 347- 348.
[78]  البحر المحيط: ج5/152.
[79]  تفسير الظلال: ج4/ 2340.
[80]  المؤمنون: 47.
[81]  تفسير الطبري: ج19/35- 36. تفسير النسفي: ج2/470. تفسير الرازي: ج23/279. تفسير الشعراوي: ج16/10048. وفي قولهم هذا دليلٌ على أَنَّهُ طَلَبَ مِنهُم الإِيمانَ كما سبق وذكرنا؛ خِلَافًا لِمَن قَالَ إِنَّ مُوسَى لم يَدعُهُم إلى الإِيمَانِ، ولا إلى التِزَامِ شَرعِهِ. البحر المحيط في التفسير، أبو حيان: ج5/129.
[82]  تفسير القاسمي: ج7/290.
[83]  الأعراف: 127.
[84]  البحر المحيط: ج5/143.
[85]  مفاتيح الغيب للرازي: ج14/341. وانظر: زاد المسير: ج2/145.
[86]  انظر: البحر المحيط: ج5/143. وقُرِئَ ((وَيَذَرْكَ)) بالجَزمِ. وقَرَأَ أَنَسٌ وَنَذَرَكَ بِالنُّونِ وَالنُّصبِ أَي يَصرِفُنَا عن عِبَادَتِكَ فَنَذَرُهَا.
[87]  انظر: البحر المحيط: ج9/250.
[88]  تفسير المنار: ج9/70.
[89]  غافر: 25.
[90]  تفسير الرازي: 27/506. والبحر المحيط: ج9/249.
[91]  انظر: تفسير البغوي: ج4/109.
[92]  البحر المحيط: ج5/144.
[93]  تفسير ابن كثير: ج7/139.
[94]  التفسير القرآني: ج5/461.
[95]  غافر: 26.
[96]  الدخان: 22- 31.
[97]  الظلال: ج6/3904.
[98]  تفسير المنار: ج6/279.
[99]  الظلال: ج3/1364- 1365.
[100]  ج3/1364- 1365.
[101]  تفسير المنار: ج6/279.
[102]  المائدة: 20- 22.
[103]  تفسير المنار: ج6/267- 268.
[104]  ج3/1352.
[105]  ج3/1364- 1365.
[106]  الظلال: ج1/392.
[107]  الظلال: ج1/189.
[108]  الظلال: ج4/2096.
[109]  تفسير المنار: ج11/384.
[110]  البقرة: 30.
[111]  الإسراء: 70.
[112]  البقرة: 256.
[113]  يونس: 99.
[114]  ق: 45.
[115]  الغاشية: 21- 22.
[116]  العنكبوت: 56.
[117]  النساء: 97- 100.
[118]  ومن ألزمهم بذلك كمن يلزم موسى –عليه الصلاة والسلام- بكفر بني إسرائيل وهم يقولون: ((يَا مُوسَى اجعَل لنا إِلَهًا كما لهم آَلِهَةٌ))، أو وهم يعبدون العجل وينصبونه إلها: ((هذا إِلَهُكُم وإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ))، أو وهم يقولون: ((أَرِنَا اللهَ جَهرَةً))! بعد أن أخرجهم من جبروت فرعون وطغيانه. وهذا لا يقول به عاقل!
[119]  مجموع الفتاوى: ج20/ 59- 61.

 

 

مركز نماء للبحوث والدراسات

تعليقات الزوار

..

أبو عبادة - سوريا

٤ يونيو ٢٠١٤ م

جزيت خيرا، مقال طيب، والخلاصة:
نخلص مما سبق أن لا تعارض البتة بين الحرية والشريعة، فالأولى هبة إلهية للإنسان استحق معها مخاطبته وتكليفه بالشريعة. لهذا كان جوهر رسالة الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- هو تمكين الناس من هذه الهبة ليخاطبوا بالرسالة، بعيدا عن الخوف والترهيب، والإكراه والجبر. ومتى نزعت الحرية من الإنسان واستضعف واستذل واستعبد نزع عنه مقوم من مقومات تلقي الرسالة، لأنه والحالة هذه يكون مسخا غير صالح للخطاب والتكليف. لذلك فإن تكاليف الشريعة في حق المسلم العبد (أي الرقيق) ليست هي ذاتها في حق المسلم الحر؛ فقد وضع عنه منها نظرا لحالته الوضعية.
وإن العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، المطالبين اليوم بحرية الشعوب العربية والإسلامية عموما، لا يهدفون بمناداتهم للحرية دعوة الناس للكفر وإن وقع بعضهم في الكفر[118]، بل هدفهم استعادة الخصيصة الربانية التي كرم الله تعالى بها الإنسان في النفس البشرية لتمتلك إرادتها في اعتقاد ما تؤمن به، وممارسة ما ترتضيه من شعائر وسلوك.
وإذا وجب الجهاد وإزهاق النفوس المؤمنة لتحرير البشر، وإخراج الكفار من قبضة قوى الجبروت والطغيان ليختاروا بعد ذلك بين الإسلام والكفر(!)، مع قيام سلطان دولة الإسلام وتمكنها من قهرهم، فلأن يناضل دعاة الإسلام اليوم لتحرير شعوب المنطقة من جبروت وطغيان الأنظمة والحكومات –وعامتهم من المسلمين- أوجب؛ فإن غاية الهجرة تحرير المسلم من مثل هذه القيود بخروجه من أرضه، وتحريره في بلده إذا أمكن أولى، خاصة إذا لم يُمكِن الدعاة والعاملين إلا ذلك.
وإذا كانت إقامة الشريعة على الوجه الأكمل والأشمل مقدورة بعد ذلك فهو نور على نور؛ وإلا فإنه يسع العلماء ما يسع الأنبياء مع أقوامهم.
يقول ابن تيمية: "إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليما إلى بيانها.
يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)). والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم -كالمجنون أو العاجز عن العمل- فلا أمر عليه ولا نهي؛ وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه -كالجنون مثلا.
وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا؛ ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها؛ وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه.
ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل فإنه نافع.
ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم"[119].
وعليه فإن منطق العقل والفطرة والشرع يدل على أنَّ الحرية أولا لو كانوا يعقلون.

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع