المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
تصدير المادة
المشاهدات : 8342
شـــــارك المادة
استولت قوى المعارضة المسلحة السوريّة يوم الرابع من آذار/ مارس 2013 على مدينة الرقة شمال شرق سورية، لتكون بذلك أول مركز محافظة يخرج عن سيطرة النظام السوري. وبالاستيلاء على المدينة تصبح محافظة الرقة (مساحتها 19620 كيلومترًا مربعًا، أي نحو 10.6% من مساحة سورية، وعدد سكانها 921 ألف نسمة)، خارج سلطة النظام بشكل شبه كامل، باستثناء مقر الفرقة العسكريّة 17 ومطار الطبقة العسكري.
وللمرة الأولى في مسار الثورة السوريّة أيضًا، يتمكن الثوار من أسر المحافظ، وأمين فرع حزب البعث العربي الاشتراكي، ورؤساء الأفرع الأمنية والعسكريّة. استحوذت التطورات الميدانية في محافظة الرقة على اهتمام إعلامي وسياسي واسع، لتثير أسئلة مثل: هل يشكل سقوط المدينة نقطة تحول في الصراع الدائر لإسقاط النظام السوري؟ أو هل يسمح ذلك بتكرار تجربة بنغازي إبّان الثورة الليبية؟ أو ما مدى إمكانية حصول تدخل عسكري محدود لإقامة منطقة عازلة أو آمنة في محافظة الرقة؟
تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على مدى أهمية سقوط الرقة في سياق التطورات العسكريّة والسياسيّة التي تشهدها الساحة السوريّة، كما تسعى لتحديد العوامل التي قادت إلى سيطرة الثوار عليها.
الرقة في مشهد الثورة السوريّة: تصنّف محافظة الرقة ضمن المناطق النائية في سورية؛ فهي تبعد عن العاصمة دمشق نحو 370 كيلومترًا، وتعدّ من أكثر المدن السوريّة تهميشًا. كما تتصدر قائمة المحافظات السوريّة في مستويات الفقر، والبطالة، والأمية، والتسرب من التعليم الأساسي. غابت الرقة عن الخطط التنموية الحكوميّة إبّان حكم الرئيس السابق حافظ الأسد على الرغم من تركّز كثير من المقدرات الاقتصادية فيها (سد البعث، وبحيرة الأسد، وسد الفرات، وحقول النفط، والقمح، والقطن). ولم يتغيّر هذا الواقع في عهد الرئيس بشار الأسد إلا بعد غزو العراق عام 2003؛ إذ تنبّه النظام إلى الخطر الأمني المحتمل في المناطق الشرقيّة والشماليّة الشرقيّة القريبة من العراق، فأخذ يعمل على ضمان ولاء شيوخ العشائر عبر منحهم امتيازات وعطاءات وتسهيلات وصلت في بعض المراحل حد تسليحهم. كما قدّم النظام لأبناء العشائر الموالية له في ريف الرقة، خلال السنوات الأخيرة، تسهيلات للانتساب إلى الجيش، والقوى الأمنيّة، والشرطة، ومؤسسات الحزب. وتفسّر هذه العوامل مجتمعة عدم التحاق الرقة بالثورة السوريّة في عامها الأول. كما تبيّن مدى نجاح شيوخ العشائر الموالين للنظام، ليس في إبعاد المحافظة عن الثورة فحسب، بل في دعم النظام أيضًا من خلال مشاركة بعض أبناء عشائرهم في قمع المظاهرات الصغيرة في مدينة الرقة، وكذلك في قمع الاحتجاجات في المحافظات السوريّة الأخرى. والجدير بالذكر، أنّ الرئيس بشار الأسد اختار مدينة الرقة مكانًا لأداء صلاة عيد الأضحى في 6 تشرين الثاني / نوفمبر 2011. فاجأت مدينة الرقة السوريين في الذكرى السنويّة الأولى للثورة في 15 آذار / مارس 2012 بخروج مظاهرات عدة فيها وبأعداد كبيرة، وكأنّها تعبّر عن رغبةٍ بدحض الانطباع العام السائد عنها بأنّها من المدن الموالية للنظام. واجه النظام هذه المظاهرات بالرصاص الحي، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص. وفي 17 آذار / مارس 2012 تحوّل تشييع القتلى في حي المنصور في المدينة إلى مظاهرة كبيرة شارك فيها أكثر من 100 ألف متظاهر، لتكون هذه المظاهرة أكبر حشد احتجاجي في الثورة خلال عام 2012[1]. أوضحت هذه المظاهرات أنّ ما يعوق مشاركة أبناء الرقة في الثورة ليس انحيازهم وتأييدهم للنظام، بل الدور الذي أدته بعض القوى الاجتماعية التقليدية (العشائر) في قمع الاحتجاجات الصغيرة، وإعاقة تطورها لتساير بقية المحافظات، ولا سيما محافظة دير الزور القريبة والمشابهة للرقة في تكوينها الاجتماعي. لم تدخل الرقة في الكفاح المسلح ضد النظام حتى أيلول / سبتمبر 2012 لأسباب عدة، أبرزها: 1. تأخر الثورة ذاتها في هذه المحافظة، ومن ثم، لم يُستخدم العنف بالكثافة ذاتها التي استخدم بها في المناطق الأخرى. 2. اعتماد النظام بصورة متزايدة على العشائر الموالية له وتسليحها، لمواجهة أي عمل احتجاجي أو مسلح في المحافظة. 3. نزوح مئات الآلاف من السوريين إلى مدينة الرقة باعتبارها ملاذًا آمنًا وبعيدًا عن المعارك بين الطرفين؛ إذ أصبحت مصلحة الجميع تقتضي عدم إدخالها في أتون الصراع المسلح، وكأنّه ساد اتفاق ضمني بهذا الشأن. وحين انطلقت المواجهات العسكريّة، فإنّها انطلقت من مصادر من خارج الرقة. فقد بدأت المواجهات العسكريّة في منتصف أيلول / سبتمبر 2012 ضمن ما أطلق عليه الثوار آنذاك معركة المعابر الحدوديّة. وبالفعل استطاعت كتائب ثورية السيطرة على معبر تل أبيض على الحدود السوريّة - التركيّة، تلته السيطرة على كامل مدينة تل أبيض في 20 أيلول / سبتمبر 2012. بعد ذلك، انسحبت قوات الجيش السوري من ريف الرقة وتمركزت في المقرات الأمنية والعسكريّة في مدينة الطبقة (55 كيلومترًا غرب مدينة الرقة)، بالقرب من السدود الإستراتيجية وآبار النفط، وفي مقر الفرقة 17، والأفرع الأمنية داخل مركز المدينة. شجّع انسحاب قوات النظام عددًا من فصائل المعارضة المسلحة (أبرزها أحرار الشام، الجبهة الإسلامية السوريّة، كتائب الفاروق، وجبهة النصرة) على التقدم ومحاصرة قوات النظام في مناطق وجودها، ومن ثم السيطرة عليها بشكل متتابع، وفق الآتي: • السيطرة على سد البعث في 4 شباط/فبراير 2013. • السيطرة على مدينة الطبقة وسد الفرات (أكبر السدود في سورية) في 11 شباط/فبراير 2013. • اقتحام السجن المركزي في الرقة في 3 آذار/مارس 2013. • الاستيلاء على مركز مدينة الرقة، وفرع الأمن السياسي، وفرع أمن الدولة، وفرع المخابرات الجويّة، وقصر المحافظ، وفرع الحزب في 4 آذار/مارس 2013، وأخيرًا السيطرة على فرع الأمن العسكري في 7 آذار/مارس 2013.
ساهمت عوامل عدة في سيطرة الثوار على أول مركز محافظة منذ انطلاق الثورة، أهمّها: خروج ريف حلب الشمالي والشرقي بشكل شبه كامل عن سيطرة النظام العسكريّة، علمًا بأنّه يشكل امتدادًا جغرافيًا للريف الشمالي الغربي لمحافظة الرقة، ما دفع عددًا من الكتائب الثائرة إلى التوجه شرقًا للسيطرة على بعض المواقع الإستراتيجية، ولا سيما آبار النفط والسدود. كما أدى قيام النظام بسحب جزء من قواته العسكريّة من محافظة الرقة، وإرسالها إلى مدينة دير الزور لوقف تقدم الثوار فيها ومنعهم من السيطرة على مطارها وعلى المعابر الحدودية مع العراق، إلى ضعف سلطته في الرقة. يضاف إلى ذلك، انتقال معارك ريف دمشق إلى تخوم العاصمة (جوبر، والقابون، وبرزة)، ما فرض على النظام وجود فرق عسكريّة، وبشكل دائم، لحماية دمشق، وهو ما حدّ من قدرته على إرسال تعزيزات عسكريّة إلى محافظة الرقة. كما جاءت معركة الرقة متزامنة مع عملية عسكريّة واسعة للنظام في حمص القديمة، إذ حاول خلالها حشد ما توافر من فرق وكتائب عسكريّة بهدف السيطرة عليها بعد حصار استمر أحد عشر شهرًا، ما أعاق إرسال تعزيزات عسكريّة سريعة لمنع الثوار من السيطرة على الرقة. لكنّ العامل الأهم في سقوط المدينة السريع والمفاجئ (بعد ثلاثة أيام فقط من القتال) تمثّل في حصول تعاون وتنسيق وتخطيط غير معهود بين مسلحين من داخل المدينة وبين الكتائب الثائرة خارجها؛ فالرقة التي شكّلت ملاذًا آمنًا لمئات الآلاف من السوريين باعتبارها منطقة خارج دائرة القتال، تحوّلت إلى أكثر المدن قابلية للسقوط بيد الثوار للسبب نفسه. فنتيجة لحصول بعض الشباب النازح داخل المدينة وكذلك القادمين إليها، وبخاصة من ريفي دير الزور وحلب، على السلاح، شكّلوا قوة قتالية لا يستهان بها. وقد شارك هؤلاء بفاعلية في الاستيلاء - وبسرعة - على المقرات والمراكز الأمنية والحكومية فور إعلامهم بساعة انطلاق الهجوم الذي تعتزم شنّه الكتائب الثائرة للسيطرة على المدينة. شكّل هذا التعاون بين الثوار داخل المدينة وخارجها مفاجأة كبيرة لقوات النظام، وكذلك للعديد من المتابعين لشؤون الثورة السوريّة. ويمكن القول إنّ التكتيك المتبع في الاستيلاء على الرقة جاء شديد الشبه بما حصل في معركة تحرير طرابلس الغرب خلال الثورة الليبية، عندما ثارت المدينة من الداخل بالتزامن مع هجوم الثوار عليها من الخارج، ما أوقع قوات النظام الليبي بين فكيّ كماشة. وقد أدت قوى إقليمية دورًا مهمًا في تسهيل التنسيق بين الثوار وإمدادهم بكميات من الأسلحة، ما ساعد في حسم معركة الرقة خلال فترة قصيرة نسبيًا.
السيطرة على الرقة: نقطة تحول أو محطة أخرى في الصراع: إلى جانب الأهميّة الرمزيّة والمعنويّة، يعتبر "سقوط" الرقة حلقة مهمّة في تأكّل سيطرة النظام العسكريّة على المناطق الشماليّة والشماليّة الشرقيّة. كما أنّ سقوط المدينة بيد الثوار سوف يؤدي إلى تشكيل تواصل جغرافي للمرة الأولى بين المناطق المحررة في الشمال والشرق، والتي ظلت حتى سقوط المدينة جزرًا معزولةً ومحاصرةً من قبل قوات النظام. ومن شأن هذا التطور أن يمنح الثوار حرية الحركة، والقدرة على نقل المقاتلين والأسلحة إلى المنطقة الشرقية لا سيما مدينة دير الزور والمعابر الحدودية مع العراق، وأن يسهم في الوقت نفسه في إعاقة قوات النظام وحركة إمداداتها المتجهة نحو الشرق. في هذا السياق، يمكن أن نفهم قيام النظام السوري بإخلاء اللواء 113 بالقرب من مدينة دير الزور وسحب قواته إلى مطار المدينة ومعسكر الطلائع، وهي نقاط تمركزه الرئيسة والمتبقية له في محافظة دير الزور. مع ذلك يبقى التطور الأبرز في معركة الرقة هو ظهور حالة غير مسبوقة من التنظيم والتخطيط والتنسيق الميداني بين قوى الثورة المسلحة. لم ينتج من سقوط الرقة كاملة بيد الثوار حالة شبيهة بحالة بنغازي في ليبيا، لأنّ التدخل العسكري الأجنبي غير واردٍ في سوريا، ولأنّ النظام السوري، خلافًا للنظام الليبي، ما زال قادرًا على شن حرب من دون سقف، تُستخدم فيها الصواريخ والطائرات. ويركّز النظام في الآونة الأخيرة على الدفاع عن العاصمة دمشق والمنطقة الوسطى (حمص وحماه)، بدلًا من استنزاف قدراته في استعادة السيطرة بريًا على المناطق الشرقية والشمالية الشرقية البعيدة، مستعيضًا عن ذلك باستخدام سياسة الذراع الطويلة (الطائرات وصواريخ سكود) في قصفها، بحيث لا تتمكن المعارضة السياسيّة من اتخاذها مركزًا لنشاطاتها على غرار ما حصل في مدينة بنغازي إبّان الثورة الليبية. أمّا دوليًا، فعلى الرغم من تغيّر المزاج الدولي من مسألة تسليح المعارضة السوريّة، وتدفق كميات أكبر من السلاح إلى الثوار، فإنّ ذلك لا يعني أنّ القوى الدوليّة، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، قد تحولت نحو تفضيل الحسم العسكري، إذ على العكس من ذلك، فهي ما زالت تحول دون حدوثه. هنا يمكن ملاحظة أنّ تليين موقف واشنطن من تسليح المعارضة (من دون أن تشارك هي في هذا التسليح) يأتي في إطار الرغبة في تغيير موازين القوى، بشكل يجبر النظام السوري على الدخول في عمليّة سياسيّة وفق اتفاق جنيف الذي جرى التوصل إليه في 30 حزيران / يونيو 2012. قد يُسهم سقوط الرقة كاملة بيد الثوار، وكذلك إنجازاتهم العسكريّة المتلاحقة، في إحداث تغيير جزئي في موازين القوى العسكريّة على الأرض لصالح الثورة. ويمكن القول، إنّ سقوط الرقة بيد المعارضة السوريّة يشكّل مكسبًا عسكريًا وسياسيًا مهمًا لها. وإذا توافرت الإرادة السياسيّة، فيمكن أن يشكّل ذلك أساسًا لإقامة حكومة سوريّة مؤقتة مقرها الداخل السوري، وهو موضوع ما زال يثير نقاشًا في صفوف المعارضة على الرغم من موافقة واسعة عليه، ولا سيما أنّ الهدف المعلن من إنشاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة كان إقامة جسم تمثيلي قادر على تشكيل حكومة.
------------------------------------------
[1] يمكن مشاهدة الحشود الاحتجاجية في مدينة الرقة يوم 17/3/2012 على الرابط
المرصد الاستراتيجي
مركز الحوار السوري
سامر أبو رمان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة