هشام الشامي
تصدير المادة
المشاهدات : 5897
شـــــارك المادة
في الثامن من آذار / مارس من عام 1982م خطب الرفيق الفريق أول حافظ الأسد قائلاً: "ما حدث في حماة حدث وانتهى".
هكذا لخص القائد التاريخي الملهم -حسب رأي عبيد الأسد- شهراً كاملاً من المعارك (الوطنية والقومية) لجيش الأسد العقائدي؟؟!!، الذي أعطي صلاحيات كاملة لانتهاك حرمات وحقوق وحريات وحياة مدنيين عزل، فارتكب المذابح الجماعية الرهيبة، والإبادة السادية الشاملة، والقصف الجوي والمدفعي والصاروخي، واستباح المحرمات وانتهك أعراض الحرائر، وقتل الشيوخ والنساء والأطفال، ومثل بالموتى، وبقر بطون الحوامل، وأباد عائلات بكاملها، ودهس المرضى والجرحى بالدبابات والمجنزرات، ودفن المئات في قبور جماعية، وسرق ونهب المحلات التجارية والمجوهرات والأموال والممتلكات، وفجر مساجد المدينة وكنائسها، وسرق البنوك والمتاحف والمقتنيات الأثرية، وبتر أطراف السيدات وقطع الأذنين من أجل أخذ المصوغات الذهبية، ودمر أحياء على رؤوس قاطنيها، وغير معالم مدينة من أقدم مدن التاريخ، على يد سرايا الدفاع بقيادة العقيد رفعت الأسد وعلي ديب، وسرايا الصراع بقيادة عدنان الأسد، والوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر، والفرقة العسكرية الثالثة بقيادة شفيق فياض، واللواء (47) مدرعات بقيادة العقيد نديم عباس، واللواء (21) دبابات بقيادة العقيد فؤاد إسماعيل، والفوج (41) إنزال جوي، والفوج (114) مدفعية ميدان وراجمات صواريخ، وعشرات الطائرات المروحية، وقوات المخابرات العسكرية بقيادة يحيى زيدان، وأمن الدولة بقيادة موفق الزعبي، ومحمد رأفت ناصيف، والأمن السياسي بقيادة وليد أباظة، وقوات المرتزقة الخاصة، وشبيحة النظام الطائفيين، والكتائب الحزبية المسلحة، كل هذا الجيش الكبير العرمرم من المرضى الساديين والطائفيين الحاقدين الموتورين، وبأوامر مباشرة ومتابعة لحظية من الرفيق الرئيس وشقيقه، استباحوا مدينة حماة الآمنة على مدى شهر شباط كاملاً، في أفظع مذبحة وأبشع مأساة عرفها العصر الحديث، فقتلوا خلال أقل من شهر أكثر من 40 ألفاً، واعتقلوا وشردوا أضعافهم، وتركوا المدينة مدينة أنقاض وأشباح، وهم يفاخرون بنصر كبير حققوه على مدنيين مسالمين، ومواطنين أبرياء، يفترض أنهم سُلّحوا من أموالهم وعرق جبينهم لحمايتهم من العدو الخارجي، وتأمين أمنهم وسلامتهم، بعد أن تركوا جبهة الجولان المحتل ساكنة سكون المقابر، وأفضل جبهة آمنة حسب وصف قادة الصهاينة أنفسهم. لقد أراد الأسد الأب من هذه المجزرة الشنيعة التي دمرت أكثر من ثلثي المدينة دفن تطلعات الشعب السوري كله في الحرية والعدالة والمساواة تحت أنقاض مدينة أبي الفداء إلى الأبد ليبني فوقها حلمه في مملكة الخوف والصمت والرعب والإرهاب. ونحن إذ نحيي الذكرى المؤلمة الثلاثين لهذه المجزرة الرهيبة، والذي يوافق يوم الخميس القادم الثاني من شباط فبراير والذي يوافق بدء هذه الحملة الشرسة بعد حصار طويل للمدينة امتد من دخول الجيش إليها في نيسان إبريل من عام 1980م وتحويلها إلى سجن كبير، وارتكابه عدة مجازر صغيرة -مقارنة مع هذه المجزرة الكبيرة- كمجزرة حي البرازية والفراية وباب البلد في منطقة السوق، ومجازر البارودية وجسر الهوى قي الحاضر في نيسان –أبريل- 1980م، إضافة إلى إذلال أهل المدينة وإجبارهم على السجود لصور حافظ ورفعت، واعتقال وقتل رموز المدينة والتمثيل برجالاتها وتعذيب أحياء حتى الموت في قرى محيطة بحماة لإذكاء وشحن النزعة الطائفية المقيتة كما فعل بالدكتور عمر شيشكلي (45 سنة) رئيس جمعية أطباء العيون في سوريا، والذي فقئت عيناه حياً، وخضر شيشكلي (80 سنة) أحد رجالات الكتلة الوطنية، وزعيم بيت الأمة أيام الجهاد ضد المستعمر الفرنسي والذي حرقوه حياً أمام أبنائه بصب الأحماض العضوية (الأسيد) عليه ثم نهبوا بيته المليء بالتحف والمقتنيات الأثرية، والدكتور عيد القادر قندقجي أخصائي العظام، وصاحب مستشفى القندفجي في منطقة طريق محردة والذي مثلوا بجثته ورموه على طريق الشيخ غضبان على بعد 30 كم من حماة، أما زوجته الألمانية فقد أصيبت بالجنون عند رؤيته ميتاً، وقد مثل بجثته وشوهدت مرات عديدة بعدها وهي تقول بلكنتها الغربية: "سوريا ما في ديموكراتي -أي ديمقراطية-"، وأحمد قصباشي (55 عاماُ) الذي قلعوا أظافره وبتروا بعض أصابعه قبل أن يقتلوه حقداً ولؤماً. ولن ندخل في تفاصيل المجزرة الكبرى المروعة والتي أصبحت معروفة للداني والقاصي؛ والتي هي في الحقيقة مجموعة مجازر مفجعة؛ ففي كل حي من أحياء المدينة المستباحة حدثت مجازر جماعية عديدة، وبإمكان القارئ أن يراجع ما أصدرته لجان حقوق الإنسان السورية والعربية والعالمية عن هذه المجزرة الفظيعة؛ ومن ذلك ما نشرته عن هذه المجزرة قبل ستة أعوام اللجنة السورية لحقوق الإنسان والموجود على موقعها وعلى مواقع المعارضة السورية الأخرى تحت عنوان: (مجزرة حماة: شباط / فبراير 1982م جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية). لكنني أشهد أنني عاينت بنفسي بعض آثار المجزرة، وقابلت بعضاً ممن شهدها من أبناء هذه المدينة المنكوبة، ومنهم من كان قد هرب من جحيم المجزرة ولجأ إلى القرى والمدن المجاورة، وكان أكثر ما يؤلمهم حقاً أنهم تفرقوا عن أزواجهم وأبنائهم وإخوانهم وأهليهم ولا يعرفون أين هم الآن؟ ومن بقي منهم على قيد الحياة، ومن دفن تحت الأنقاض، أوفي مقابر الحقد الجماعية؟؛ حيث كانت المدينة محاصرة من جميع الجهات وقطعت عنها الاتصالات الهاتفية. وشاهدت أحياء كبيرة قد دمرت بالكامل، وقرأت الحزن والصمت والقهر والكآبة في وجوه النساء والأطفال والشيوخ، وشعرت أنني أعاين مدينة أشباح، وتأثرت تأثراً بليغاً. وخلصت يومها أن حماة لم تكن هي وحدها المقصودة لذاتها من هذه الجريمة المنكرة، بل كل مدن وقرى سوريا بحريتها وكرامتها وعزتها وماضيها ومستقبلها، كان القصد البعيد والهدف الحقيقي هو إسكات كل صوت حر شريف في وطني الأسير. وكنت قد تساءلت قبل خمس سنوات أي بعد ربع قرن من المجزرة التساؤلات المشروعة التالية: - لماذا يصر النظام في سورية على دفن رأسه في الرمال كالنعام؟ ولا يريد أن يفتح ويحاسب ويعالج تلك المأساة الإنسانية التي لم تندمل جروحها المتقيحة، هل يظن أن الصمت والهروب يجعل الناس تنسى مع مرور الأيام؟ هل تستطيع الأم أن تنسى أبناءها؟ هل يمكن للزوجة أن تنسى زوجها؟ هل ينسى الطفل الذي أصبح رجلاً أن هناك من قتل أبويه وتركه يعيش في الحياة وحيداً يتيماً؟ هل تنسى العائلات كم فقدت من فلذات أكبادها وخيرة شبابها؟ وكم انتهكت من حرمات؟ وكم عانت من ويلات؟ هل يتعظ هذا النظام من التاريخ؟ أم أنه لا يرى ما يجري ويُدمي القلوب في الجار القريب العراق؟؟؟ - لا بدّ من المصالحة الوطنية، ولا يفيد تكرار المعزوفة البعثية الخالدة صباح مساء عن الوحدة الوطنية والحرية والمساواة والعدالة التي ينعم بها شعبنا المقهور في سورية!! يجب أن يعرف رأس النظام أنه بسكوته وعدم إنهاء وإغلاق الملفات الدموية التي ميّزت ووسمت عهد أبيه؛ واستمراره على نفس النهج في كبت الحريات وتكميم الأفواه يجعل كل ما حصل في عهد أبيه يجيّر لحسابه ويكتب في صحيفته ويتحمل مسؤوليته كاملة، أما إذا وقف وقفة رجل مع نفسه كما فعل ملك المغرب مع جميع من ظُلم في عهد أبيه الحسن؛ وكذلك ما فعل ملك البحرين؛ فأن شعبنا الطيب سيبدل سيئات أبيه حسنات تسجل في صحيفته، وسيكون بذلك قد وضع قدمه فعلاً في أول طريق الوحدة الوطنية والزعامة الحقيقية، أقول هذا الكلام والذي كررته كثيراً من قبل ومنذ آلت السلطة لطبيب العيون بشار قبل سبع سنين رغم أن رأي أكثر أبناء شعبنا أن الوقت بات متأخراً، ولو أراد الرئيس أن يفعل شيئاً لشعبه ووطنه لكان فعله خلال السنوات السبع التي انقضت من حكمه، والتي تعادل تقريباً دورتين كاملتين لرئيس أكبر دولة في العالم وهي الولايات المتحدة، وهي أطول فترة يحلم الرئيس هناك أن يحكم بها أمريكا (ثماني سنوات). - هل الشعب السوري أقرب إلى النظام الحاكم في دمشق أم الأعداء الصهاينة الحاقدين؟ لماذا يتهافت المسؤولون السوريون على تقبيل أقدام وأيادي الصهاينة والأمريكان؟ ويرسلون لهم الرسائل الصريحة المتتالية وبكل اللغات التي يفهمونها؛ ويرجونهم أن يجربوهم ليثبتوا لهم طيب النوايا وحسن الجوار؛ ويقدمون لهم كل التنازلات التي لم يكونوا يحلمون بها؛ بينما يرفضون الاعتراف لشعبهم بحقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة بدون قوانين طوارئ؛ وبدون حزب قائد؛ وبدون فروع أمن ومخابرات تلاحق حتى أحلام المواطنين وآمالهم، وبدون سجون ومعتقلات وبدون تمييز ونظرة شوفينية وتفرقة طائفية عنصرية. والله إنهم لن يأخذوا من الصهاينة والأمريكان إلا الوعود الكاذبة والسراب، أما شعوبهم إذا ما أعادوا لها كرامتها وحريتها فسيحمونهم بأرواحهم ويفدونهم بدمائهم فعلاً لا قولاً؛ ولا يغرّنّهم صريخ هتيفتهم ومنافقيهم وأبواقهم الكاذبة الذين ستنفضون عنهم كما انفضت بطانة صدام عنه مع أول رصاصة وجهت إليه؛ وسوف يبيعونهم كما باع الأسخريوطي المسيح قبل صياح الديك. ويومها لن ينفعهم نعيب غربانهم ولا نعيق بومهم.
ما كل من مدحوا الشجاعة أقدموا *** فأشد أسلحة الجبان كلام
إذا لم نتعظ من التاريخ ومما يجري حولنا فنحن أغبى الناس؛ ولن يكون مستقبل وطننا كما نريد له أن يكون. إننا إذ نستذكر مجزرة حماة بعد ربع قرن من ذكراها المؤلمة لا لنجتر التاريخ ولكن لأننا نحلم بسوريا قوية متماسكة معافاة سليمة من العقد التاريخية والقهر المطبق والإذلال اليومي والأمراض المستعصية المزمنة، فهل يتحقق هذا الحلم الجميل؟؟!! واليوم وبعد ثلاثة عقود من هذه المجزرة الشنيعة ولم يزل جزاروها من دون حساب، نريد أن نجيب عن السؤال الذي يطرحه البعض: لماذا اختيرت مدينة حماة لهذه المجزرة المريعة، هل اعتصام بضع عشرات من المسلحين حسب تصريحات أبواق النظام تبرر تدمير هذه المدينة فوق ساكنيها؟؟!! وحنى نفهم ما حصل نعود لنستذكر بعضاً من تاريخ هذه المدينة الحديث، (وهي الضاربة في جذور التاريخ من العصر البنوليني، أي العصر الحجري الحديث قبل خمسة آلاف سنة من ولادة المسيح -عليه السلام- كما اكتشفت بعثة الآثار الدنمركية). يقول أكرم الحوراني -أحد شهود العيان من أبناء مدينة حماة وأحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي فيما بعد؛ (أسسه مع ميشيل عفلق وصلاح بيطار عندما كانوا في منفاهم في لبنان أيام حكم العقيد أديب الشيشكلي- في مذكراته: "في صباح 30/ نيسان –إبريل- 1945م هوجمت مدينة حماة بالطائرات الفرنسية التي استمرت تلقي قنابلها ومتفجراتها الثقيلة على البيوت أكثر من عشر دقائق، فأسقط المجاهدون ببنادقهم طائرتين، وجروا حطام إحداهما من قرية معرين إلى قلب المدينة بعد انتهاء المعركة. وتبع ذلك وصول حملة عسكرية ضخمة قدمت من حمص تضم عدداً من الدبابات والمصفحات وأربعاً وعشرين سـيارة كبيرة مشحونة بالجنود، ومدفعين من العيار الثقيل، وكان يقودها الكومندان (سيبس) جاءت من جنوب حماة فجوبهت بمقاومة شديدة من مجاهدي تل الشهداء عين اللوزة، فارتدت واتجهت غرباً تريد الوصول إلى الثكنة باختراق جبهة كرم الحوراني -اسم حي غرب جنوب حماة-، وفي الوقت ذاته خرجت فرق الخيالة من الثكنة لنجدتها، فكانت المعركة الضاربة الباسلة التي استمرت من السابعة صباحاً وحتى الثامنة مساء بين المجاهدين ببنادقهم القديمة وبين قوات نظامية بأحدث الأسلحة والعتاد، في أرض مكشوفة لا تصلح لحرب العصابات، وعلى الرغم من وصول سلاح الطيران الفرنسي وقصف المدينة قصفاً كثيفاً أدى لتهديم مئة وعشرين منزلاً، مع ذلك صمدت المدينة واندحرت الحملة المدرعة وقتل قائدها (سيبس) وبعض معاونية من ضباط المدفعية، وبقيت مئات الجثث في أرض المعركـة، وأسـقط المـجاهدون طائرة وعطبوا أخرى سـقطت في قرية حر بنفسه، وغنم المجاهدون سيارتين وعدة رشاشات وسيارة كبيرة مشحونة بقنابل المدفعية، وعطلوا دبابتين وعدداً من المصفحات، ومدفعاً من عيار (270) بوصة ومدفعين عيار (75) ملم، وسحبوا كل هذه الغنائم إلى ساحة العاصي وسط المدينة. وصمم المجاهدون بعد وصول راكان المرشد -شيخ عشيرة- مع رجال عشيرته، صمموا على دخول الثكنة الشرفة الحصينة -شمال غرب حماة-، وفيما هم يعدون العدة لدخولها وصلت طلائع الجيش البريطاني التي أنقذت الجيش الفرنسي من أهالي حماة، وكانت مهمة البريطانيين فرض وقف القتال، وكان ذلك يوم 1/حزيران-مايو-1945م. ويؤكد هذا الكلام ما قاله الجنرال البريطاني (باجيت) القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط في مذكراته عن تلك الفترة، وكان الجيش البريطاني قد تدخل ليفصل بين الثوار السوريين والجيش الفرنسي، يقول الجنرال (باجيت): لقد أنقذنا الأهالي في سوريا من الجيش الفرنسي عام 1945م، إلا في مدينة حمـاة فقد أنقذنا الجيش الفرنسي من الأهالي!!!. وكان مجاهدي حماة في طليعة الثوار الذين أعلنوا الثورة على الفرنسيين أثناء الثورة السورية الكبرى عام 1925م التي عمت القطر من الشمال وثورة إبراهيم هنانو، إلى دمشق وثورة الغوطة، إلى جبل العرب وثورة سلطان باشا الأطرش، إلى جبال العلويين وثورة الشيخ صالح العلي، وقد قاد الثورة في حماة فوزي القاوقجي وسعيد العاص ومصطفى عاشور وعثمان الحوراني وآخرون. كما شارك رجال حماة في الكتلة الوطنية منذ تأسيسها، وكان من أبرز رموزها من أبناء تلك المدينة المجاهدة توفيق الشيشكلي وحسني البرازي، والدكتور صالح قنباز، وكان لهذه الكتلة دوراً بارزاً في عملية المقاومة والتحرير من الاستعمار الفرنسي. لينشد شاعر العاصي بدر الدين الحامد في ذكرى الجلاء مخاطباُ الشهيد يوسف العظمة:
يا راقداً في روابي ميسلون أفق *** جلت فرنسا وما في الدار هضام ذكرى الجلاء هو الدنيا وزهوتها *** لنا ابتهاج وللطاغين إرغام
كما استنفرت حماة برجالها أثناء حرب 1948م مع الصهاينة، فمنهم من دخل مع قوات النقيب أديب الشيشكلي في لواء اليرموك الثاني النظامي، ومنهم من تطوع مع القوات الشعبية التي قادها الدكتور مصطفى السباعي، حتى باتت المدينة شبه خالية من الرجال أثناء تلك الحرب، وقد خاض هذان الفصيلان معارك شجاعة، وحققوا فيها انتصارات حقيقية، جعلت اسم الشيشكلي والسباعي على لسان كل فرد في الوطن السوري الحبيب. وقد بقيت هذه المدينة قبل وبعد الاستقلال مثال الوطنية والتسامح والتآلف، حيث عاش فيها المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب، وكنت لا تستطيع التمييز بينهما لتشابه عاداتهم وملابسهم، حتى النساء المسيحيات كن يتحجبن في هذه المدينة المحافظة، وكان أبناء الريف والبادية يفضلون التعامل مع أبناء هذه المدينة المسامحين، مما جعلها أشهر المدن السورية بالمنتجات الحيوانية والزراعية، فأصبح السوريون جميعاً يرغّبون بأجبانهم وألبانهم، فيقولون: جبن حموي، ولبن حموي، وسمن حموي، ومشمش حموي، وخضار حموية … وقد شارك أبناء المدينة بكافة أطيافها في الحياة البرلمانية الوليدة بعيد الاستقلال، بتنافس ديمقراطي تفصل فيه صناديق الاقتراع، وكنت تجد في هذه المدينة المسالمة، المسيحي على قوائم الإخوان المسلمين، كما تجد العربي إلى جانب الكردي -كآل البرازي، وآل الزعيم، وآل كوجان، وآل الكردي..-، والتركي -كآل التركماني، وآل العظم، وآل قوجة، وآل القوشجي…-، وأبناء الريف والبادية مع أبناء المدينة، في تآلف ومحبة قل نظيرهما. وعندما انقلب العسكر على الحياة البرلمانية والمدنيّة كان أبناء حماة في طليعة الرافضين للديكتاتوريات، ووقفوا بشجاعة عندما جبن آخرون في وجه حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، رغم أن الثاني كان من أبناء المدينة، والأول كلف رئيساً للوزراء من أبنائها –وهو محسن البرازي-. فليس غريباً إذاً على هذه المدينة المحافظة والشجاعة أن تكون في طليعة المدن التي وقفت في وجه العسكر البعثيين الذين وصلوا إلى السلطة على ظهر الدبابة في 8/ آذار من عام 1963م، وأعلنوا حالة الطوارئ والأحكام العرفية منذ ذلك التاريخ، وألغوا الحياة المدنية والانتخابات البرلمانية، ومنعوا الأحزاب، وبدؤوا بإثارة واستفزاز حفيظة الشعب المؤمن المحافظ، بأفكارهم الإلحادية التي فرضوها على المجتمع. ورفعوا شعارات: (يا أخي قد أصبح الشعب إلهاً)، و(لا تسل عني ولا عن مذهبي* أنا بعثي اشتراكي عربي)، و(آمنت بالبعث رباً لا شريك له * وبالعروبة ديناً ماله ثاني).. وكانت أحداث حماة التي انطلقت شرارتها في السابع من نيسان –أبريل- 1964م أي بعد عام فقط من استلام عسكر البعث السلطة في سوريا، دفاعاً عن القيم التي أمن بها شعبنا، ورداً على استفزازات البعثيين، وتحرشات الحرس القومي (مليشيات البعث)، حين انطلقت المظاهرات من جميع مدارس حماة مطالبة بالحريات العامة، ووقف استفزازات البعثيين، وهنا تدخل الحرس القومي البعثي لقمع التظاهرات وعندما فشل، طلب عبد الحليم خدام محافظ حماة من وجهاء المدينة إعطاءه مهلة، حتى يفاوض المسؤولين في دمشق للنظر في مطالب الجماهير لكنه عاد بخفي حنين، وتدخل الجيش البعثي العقائدي هاتفاً: (هات سلاح وخوذ سلاح * دين محمد ولّى وراح)، واستغل حمد عبيد وزير الدفاع البعثي تلك الأحداث للثأر من أديب الشيشكلي الرئيس الحموي الذي قُمع عصيان جبل العرب في عهده، فحسم المعركة بالنار والحديد، بعد أن قتل حوالي سبعين من أبناء المدينة، ودمر مسجد السلطان فوق رؤوس المحتمين فيه. [وقد كتبت جريدة الحياة في (24/4/1964م) تقول: "إن المطلعين على مجرى الأحداث في حماة يقولون إن الذي قصف المدينة بالمدفعية هو العقيد حمد عبيد، وإنه اغتنمها فرصة للانتقام بسبب قصف جبل الدروز في عهد الزعيم أديب الشيشكلي بقيادة المقدم فؤاد الأسود"]". ويذكر أكرم الحوراني في مذكراته: "لقد كانت الحجج التي تذرع بها الضباط الطائفيون للانتقام من حماة حججاً مفضوحة ومشبوهة، ولا أظن الجاسوس كوهين كان بعيداً عن الإثارة الطائفية بين هؤلاء الضباط مما سيأتي تفصيله فيما بعد، فمن حماة انطلقت كتائب الفداء الأولى إلى فلسطين عام (1948م)، كما كانت حماة أكثر المدن حماساً للوقوف في وجه الديكتاتور أديب الشيشكلي". وحكمت المحاكم العسكرية الميدانية برئاسة الضابط البعثي مصطفى طلاس بالإعدام على عدد كبير من علماء ووجهاء مدينة حماة، واقتحمت المحال التجارية المغلقة ونهبت محتوياتها، واعتقل الكثير من المواطنين. كما أصدرت الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية وهم مجموعة من المثقفين من محامين وأطباء ومهندسين وصيادلة بياناً بتاريخ (21/4/1964م) جاء فيه: "في هذا اليوم نتوجه إلى شعب سوريا الذي لا ينام على ضيم، ونقول للطغمة الحاكمة: أن الشعب إن أمهل فهو لا يهمل، وأن ساعة الحساب قد دقت. إن الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية تدعو كافة المواطنين للالتفاف حولها ومتابعة العصيان المدني حتى تتحقق مطالب الشعب وهي: 1- إلغاء حالة الطوارئ. 2- إطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور. 3- تشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية تتولى إجراء انتخابات حرة نزيهة لإقامة حكم ديمقراطي سليم". ولم يقتصر العصيان على مدينة حماة فقط، بل توسع ليشمل باقي المدن الرئيسية في سوريا كدمشق وحلب وحمص، على شكل إضرابات واحتجاجات عامة، وهنا تدخل الرئيس محمد أمين حافظ وطلب مقابلة عالم حماة الجليل، الشيخ/ محمد الحامد - رحمه الله -، واتفقا على تهدئة الأمور، مقابل إصدار الرئيس الحافظ عفواً رئاسياً عاماً على جميع المعتقلين والمحكومين. وهذه الفتنة التي حصلت في حماة، والتي لم تعالج بحكمة، مازال السوريون يعانون من جراحها التي لم تندمل بعد، وهي التي جعلت الشيخ مروان حديد ينفصل ببعض شبابه عن جماعة الإخوان المسلمين، مقرراً اللجوء للعمل المسلح ضد السلطة البعثية الغاشمة والتي بدأت باستخدام السلاح والبادي أظلم، حسب رأيه. وكلنا يعلم ماذا حل بسوريا نتيجة هذه الفتنة من أحداث ومجازر مأساوية في نهاية السبعينات وعقد الثمانيات من القرن الماضي، وآثار تلك الأحداث التي لم تحل حتى الآن، والتي تبقى تنذر بانفجار البركان. واستمر الصراع بين السلطة والشعب في حماة وسائر المدن السورية طيلة سنين البعث العجاف، وكانت المسيرات الشعبية والإضرابات والاحتجاجات سمة الشارع السوري، وكانت الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية، كعيد المولد النبوي في كل عام مناسبة تذكر بها الجماهير السلطة بأنها لا يمكن أن تتخلى عن مطالباتها المشروعة مهما اشتدت قبضتها الأمنية، وكانت أحداث الدستور عام 1973م، والذي كرست بنوده الهيمنة والوصايا لفئة فاسدة من المجتمع على رقاب العباد والبلاد، فاندلعت المواجهات الشديدة مرة أخرى، وحرقت فروع الحزب والمخابرات، وتدخل الجيش ليسكت الشعب بالقوة العسكرية، وليسوق العلماء والوجهاء إلى السجون والمعتقلات. وتوالت تصريحات القادة البعثيين المرضى التي تنم عن حقد أعمى على هذه المدينة الجميلة الآمنة، وخاصة من رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ الأسد، الذي قال في مرات عديدة: "سأمحو حماة من الخريطة"، و"ستقول الأجيال اللاحقة كانت هنا مدينة اسمها حماة"، و"سأجعل حماة مزرعة للبطاطا"، و"سنقيم مكان حماة حدائق ومزارع وفنادق ومقاصف ومطاعم ونسكر على أنقاضها". ويقول الحوراني في مذكراته: "ومن المؤلم أن مدينة حماة قد ظلت بعد أحداث عام (1964م) هدفاً للتنكيل الطائفي؛ إذ تعرضت مرة أخرى عام (1982م) للتدمير والتنكيل بأهلها بوحشية فاقت كل تصور عندما استباحت المدينة ما يسمى بالقوات الخاصة بقيادة علي حيدر، وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسـد شقيق حافظ الأسـد، فقصفت معظم أحياء المدينة على رؤوس أهلها، واعتدت على أعراض نسائها، وكانت حصيلة القصف استشهاد أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيد، من أبنائها وبناتها، كما هدمت مساجدها الأثرية وقضت على معالمها التاريخية، ومنها قصر العظم الأثري، الذي كان متحفاً للمدينة فنهبت محتوياته من التحف الأثرية للعهود التاريخية التي تعاقبت على المدينة". ويقول الحوراني: "لقد كان هذا الأسلوب الاستفزازي هو الأسلوب الذي اعتادت السلطات البعثية استعماله لتفجير النقمة الشعبية واستدراجها ثم إجهاضها قبل نضجها وتمام استعدادها، مع استعداد السلطات الكامل لمواجهة الانفجار". ويقول: "إنني لا أشك أبداً بأن يداً سوداء خارجية كانت وراء ما تعرضت لـه مدينة حماة في المرتين من خراب وتقتيل وتنكيل وحشي، وإنه لمن دواعي الأسى والحزن أن يناضل الشعب السوري ويقدم التضحيات خلال أكثر من أربعين عاماً في عهدي الاستعمار الفرنسي والاستقلال في سبيل ترسيخ الوحدة الوطنية بين مختلف طوائفه ومذاهبه؛ ثم تستيقظ هذه العصبيات الموؤودة بعد الثامن من آذار بشكل مجنون". واليوم وبعد أكثر من عشرة أشهر من ثورة الكرامة السورية التي انطلقت شرارتها في 15/ آذار –مارس- 2011م، وهتافات شعبنا التي تشق عنان السماء صباح مساء، على طول وعرض الوطن من حوران الشهامة وسويداء بني معروف في الجنوب إلى قامشل وأزادي وحلب البطولة وإدلب الشجاعة في الشمال ومن بوكمال ودير وميادين النشامى في الشرق إلى لاذقية العرب وبانياس الرجولة وتلكلخ الكرامة وزبداني البطولة في الغرب بما في ذلك أبطال دمشق وريفها الأشاوس وأحرار العاصي أبناء خالد وأبي الفداء: (الموت ولا المذلة، بعد اليوم ما في خوف، عالجنة رايجين شهداء بالملايين، ما في للأبد ما في للأبد عاشت سوريا ويسقط الأسد…). لن يستطيع الأسد الابن الذي يظن أنه سيكرر ما فعله أبوه أن يسكت هذا الشعب الثائر العظيم الذي لن يلدغ من جحر مرتين، فإذا اقتحمت حماة تداعت لها القامشلي والبوكمال وجبل الزاوية وحوران وكافة مدن وقرى سوريا تردد على قلب رجل واحد: (يا حماة إحنا معاك للموت). فهل اقتنع الأسد الابن أن المجازر تقتل شهداء لكنها تحيي شعوباً؟؟؟؟ وقريباً -بإذن الله- سنقول للراحل عبد المعين الملوحي الذي قضى قبل أن يتحقق حلمه حين أنشد:
تُرى أيعـود للعاصـي صباه؟ *** فيرفـل بعـد في ثـوب قشيـب ترى أأنام والصفصاف يضفي *** عليّ الظلّ في المرج الخصيب؟
نعم سيعود...
المصدر: موقع أخبار الثورة السورية -نقلاً من : مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية
خالد الخاني
مدونة بوح الياسمين
نازك أبو رحمة
مدونة صبا قلبي
كل انسان لايرضى بحكم. الله فأن الله سيسلط عليه الفجار وخاصة لاهل الاسلام اذا تركوا شرع الله .ومن ثم لعنة الله على اكرم الحوراني الذي كان له الدور الكبير في ايصال النصيرية للحكم سوريا. والحمدلله الله بعد 50 عام أظهر نتن هذا النجس اكرم والى ماكان يرمي اليه .
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة