كارولين عاكوم
تصدير المادة
المشاهدات : 8441
شـــــارك المادة
أن يصبح الحصول على الدواء والطعام والتعليم من الكماليات.. هو المأساة بحد ذاتها. أن تتحول النظافة والقدرة على الاستحمام ولو بالماء البارد ترفا هو معاناة لا قدرة لأي إنسان على تحملها. في بلدة عرسال، حيث وجد النازحون السوريون ملجأ لهم في أكثر بلدات البقاع حرمانا، المعاناة مضاعفة.
أهالي المنطقة الذين فتحوا بيوتهم للعائلات السورية وتقاسموا معهم رغيف الخبز ويبذلون أقسى جهودهم لتقديم المساعدات لهم، ليسوا بأفضل حال وقدرتهم على التحمل ليست كبيرة. وهو الأمر الذي بدأ يظهر بشكل واضح في ظل زيادة عدد النازحين يوميا منذ بدء معركة القلمون الذي فاق لغاية اليوم عدد أبناء عرسال البالغ 35 ألف نسمة، لا سيما أن معظم نازحي القلمون هم من أبناء القصير الذين سبق لهم أن هربوا منها عند اندلاع المعارك هناك. في أحد مساجد البلدة الذي فتحت قاعاته لإيواء العائلات النازحة وفي صالة الأفراح التي تحولت إلى «صالة للبؤس» ينام فيها الأطفال والنساء إلى جانب أحذيتهم الصيفية المهترئة، صورة مختصرة لحالة شعب كتب عليه النزوح داخل بلده مرات عدة، وها هو اليوم يكمل مسيرته في بلد اللجوء. هنا مئات العائلات التي وصلت منذ ساعات أو أيام من القلمون إما في الحافلات أو على الدراجات النارية التي حملت عائلات بكل أفرادها، أو مشيا على الأقدام تحت المطر. في الخارج الرجال يترقبون وينتظرون ما قد يأتيهم من مساعدات، وفي الداخل النساء والأطفال يفترشون الأرض ويتقاسمون لقمة الخبز متحسرين على وضعهم ولسان حالهم «أي ذل هذا الذي نعيشه؟!». وعلى مسافة ليست ببعيدة من الجامع، 17 عائلة لا تجد بضع كيلومترات لترتاح عليها، فما كان أمامها إلا «العيش» في السيارات. يكاد المرء يعجز عن وصف حالة هؤلاء النازحين، حتى إنه يشعر بالخجل أمام عزة نفوسهم ودعواتهم و«أمنياتهم» التي لا تعدو كونها أدنى متطلبات العيش. فها هو يجد نفسه مكبلا أمام نائلة غزير التي تعاني مرض القلب وتحتاج إلى عملية سريعة، وهي تقول: «لم يعد أمامنا أي حل سوى أن نحفر قبورنا بأيدينا وندفن أنفسنا في التراب». ومن دعوات الحاجة خولى السح، التي قتل اثنان من أبنائها، أحدهم ذبح إثر انشقاقه عن جيش النظام، واعتقل الثالث (علي) لتتولى هي تربية أربعة أحفاد وتنتقل من بيت إلى بيت لجمع 90 ألف ليرة لبنانية، أي 60 دولارا أميركيا، ثمن أدوية زوجها المريض. هو الخجل الممزوج باليأس أيضا، يشعر به أي إنسان، أمام غدير، تلك الفتاة التي ترجوه الحصول على عمل مقابل أي مبلغ لتؤمن الدواء والطعام لأمها ووالدها وابنة أخيها اليتيمة، وفي لحظة عدم القدرة على إجابة بتول، ابنة السنوات التسع، التي لم يكن همها إلا السؤال عما إذا كان جاء دورهم في الحصول على مدفأة لتتخلص من البرد الذي يمنعها النوم طوال الليل. والشعور نفسه لا يختلف في حضرة فاجعة محمود شحود، بموت زوجته أمام أعين أولادها العشرة، وهو رغم ذلك يشكر الله على أنه استطاع تهريب خمسة من أبنائه، فيما أولاده الكبار لا يزالون محاصرين في منطقة الوعرة في حمص، بعدما تركهم إثر اشتداد المعارك هاربا إلى قارة. وعن المساعدات التي يحصل عليها، يقول: «تسلمنا عددا من البطانيات لكنها سرقت منا». فيما لا يمكن لمحدث الحاج عبدو عجاج إلا أن ينحني لصلابة هذا الرجل الثمانيني وهو يلاعب حفيده اليتيم، عبد الله، ابن السنوات الثماني، الذي فقد والده إثر سقوط قذيفة أمام منزلهم في القصير. وفي لحظة من الزمن، تتلاشى هذه الصلابة عند الكلام عن أرضه ومزرعته وشقيقه وأولاده الذين قتلوا أيضا في حمص، لكنه بعد أن يطلب من حفيده الابتعاد قليلا، ليقول بغصة والدموع في عينيه: «لم نمت في بلدنا لكننا نتمنى الموت كل يوم وكل ساعة هنا»، سائلا: «ما قيمة الإنسان عندما يترك أرضه وبلده؟». وحالة محمد الزهوري الذي لا يتردد في التعريف عن نفسه بالقول: «أستاذ في اللغة الفرنسية سابقا وإرهابي حاليا»، ليست أفضل بكثير. وإن كان لا يحمل سلاحا ليحارب به، بل هو تحول إلى «إرهابي بالكلمة» وبرفع صوته عاليا مطالبا بحقوقه وحقوق أولاده وأولاد شقيقه اليتامى في التعليم وفي الحصول على أدنى متطلبات العيش. يختصر الأستاذ وضع السوريين النازحين بالقول: «ما نطلبه هو أن نعامل كأي حيوان ليس أكثر، لأن الحيوانات تعامل بالتأكيد بطريقة أحسن وتتلقى عناية لا شك أنها أفضل من تلك التي تقدم لنا». ويقول محمد ساخرا: «هربنا من (قارة) نتيجة رمي الأزهار علينا»، مضيفا: «هذا النظام يريد محاربة كل مثقف ومتعلم بينما يقف المجتمع الدولي متفرجا أمام جرائمه. لو أن هذه المأساة يعانيها شعوب أخرى، غير عربية وبالتحديد غير السوريين، لكان العالم تحرك، لكنهم اليوم يتفرجون علينا ويفاوضون على بؤسنا مقابل مصالحهم». وفي حين يلقي باللوم على الدولة اللبنانية التي لم تستقبلهم كما يجب، مذكرا بما قام به السوريون في حرب يوليو (تموز) عام 2006 خلال استقبالهم اللبنانيين النازحين، يقول: «لا نريد أن نأكل ونشرب، نريد أن نعلم أولادنا. ما نحتاج إليه فقط دفاتر وأقلام ونحن نتطوع لتدرسيهم». في «صالة الأفراح» التي تؤوي 146 عائلة هربت من بلدة «قارة» وبعض بلدات القلمون، يحذرك محمد المسؤول عن التنظيم من التصوير قبل دخولها. المشهد لا يختلف عن قاعة المسجد. وعندما تسأل عن عدم كفاية المساعدات التي تصل إلى العائلات، ينفي محمد الأمر نفيا قاطعا، ويقول إن الكميات التي تصل تكفي للأعداد الموجودة وتزيد، لكن بعض الأشخاص يعمدون إلى بيع ما يحصلون عليه طمعا بالمال ويعودون فيما بعد إلى الاستيلاء على حصص غيرهم. وهنا يجلس أحمد إلى جانب جدته المعوقة ووالدته وأخته. هم العائلة الآن هو تأمين كرسي متنقل للجدة، لمساعدتها في التنقل وعلى الأقل في قضاء حاجتها. أحمد رغم تحذير والدته من الكلام خوفا عليه، يصر على الإفصاح عن رأيه، كاشفا عن اعتقاله سنة ونصف السنة بعد انتهاء خدمته العسكرية، بعدما ضبط وهو يتواصل مع المعارضة لتسليمهم اثنين من عناصر النظام، لكن بعد التحقيق معه أنكر الأمر بالقول إن تواصله مع الجيش الحر لم يكن إلا خوفا منهم، ولكن رغم ذلك يقول: «لو كنت أستطيع لسلمت النظام بأكمله وعلى رأسه الأسد إلى الجيش الحر». في عرسال، في هذه المنطقة البقاعية المخيمات تتوسع رقعتها يوما بعد يوم، رغم عدم وجود قرار رسمي من الدولة اللبنانية بذلك، فالبلدية كانت قد أخذت على عاتقها هذه المهمة بدعم مادي من بعض الجهات المحلية والعربية، قبل أن تبدأ مفوضية الأمم المتحدة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية التي تبذل بدورها جهودا كبيرة في هذا الإطار، بتشييد مخيمات تحت رعايتها. وبعد تزايد الأعداد التي تدفقت على عرسال في الأيام القليلة الماضية، بدأ العمل على إيجاد بدائل لإيواء النازحين، وذلك بإقامة عشرات الخيم وتحديد بعض المواقع التي تصلح لتشييد مراكز إيواء عليها. ومما لا شك فيه أن السباق في الحصول على خيمة بات على أشده بين العائلات التي تطمح لإيجاد مأوى لها يقيها برد البقاع وشتاءه القارس، وهنا يبدو من حصل على إذن تسلم إحداها كمن فاز بـ«جائزة الحياة الكبرى». على قطعة أرض عند أطراف بلدة عرسال، يرتفع مخيم يبدو للوهلة الأولى «كفندق خمس نجوم» مقارنة مع الخيم والملاجئ التي تؤوي العائلات السورية، لكن عند دخول هذا الموقع، الذي يضم عشرات الغرف المخصصة لعائلات الشهداء، تصبح الصورة أوضح وأكثر دقة. النساء يقفن بالصف لتعبئة المياه من الخزان المشترك. الأطفال يلهون على التراب في الخارج يترقبون كل شخص غريب يأتي لسؤاله عما إذا كان يريد تسجيل أسمائهم للحصول على مساعدات. ولعبة هؤلاء الوحيدة باتت الركض خلف الطابة أو الركوب مداورة على دراجة هوائية فقدت كل مقوماتها. يكفي زائر هذا المخيم أن يتحدث قليلا مع هؤلاء الأطفال ليدرك أن تلك المأساة سرقت منهم براءتهم وحولتهم إلى ناضجين عارفين بخفايا الحرب في بلادهم، ولا سيما منها الطائفية. هم يتحدثون عن أنواع الصواريخ والقذائف والبراميل، وعن أشلاء الجثث التي رأوها بأعينهم، وعن النظام والرئيس بشار الأسد؛ فها هو عبد الله يعبر عن اشتياقه لبيته ومدرسته في القصير، لكنه يستدرك قائلا: «لكن حزب الله وقوات النظام تمنعنا العودة، لذا فالأفضل بالنسبة إلينا الآن هو البقاء هنا». على باب إحدى الغرف في «مخيم الشهداء» تقف منى أحمد سويد، التي قتل زوجها إثر قذيفة استهدفت سيارته، وإلى جانبها بناتها الثلاث. تحاول منى بما تيسر معها من المال أن تحسن ظروف هذه الغرفة، بعدما تدفقت المياه عليها إثر تساقط الأمطار قبل يومين، بسبب عدم صلابة السقف. بعد دقائق من الكلام الهادئ تعبر منى عن خوفها على مصير بناتها ومستقبلهن، بصرخة نابعة من القلب قائلة: «كنا نعيش في قصور، وها نحن اليوم مشردون ننتظر بطاقة التموين التي نحصل عليها شهريا من الأمم المتحدة لنحصل على الطعام. كل الدول العربية منها والغربية ضد الشعب السوري. لو كانوا معنا لكانوا أسقطوا بشار الأسد وأعادونا إلى بلدنا. الجميع يقف إلى جانب النظام غير مكترث بوضعنا الكارثي. الكل يأتي إلى هنا ليتفرج على الذل الذي نعيشه ثم يذهب ويتركنا مع مأساتنا». الشرق الأوسط
أسرة التحرير
الجزيرة نت
ريان محمد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
محمد العبدة