إيمان محمد
تصدير المادة
المشاهدات : 3409
شـــــارك المادة
سأفضفضُ لكِ قليلاً يا صديقتي.. أتعلمين.. قبل أن آتي إليكِ هيّأتُ نفسي معنويّاً لئلا أنفعل، ولا أغضب، ولا أعاتب، ولا ألوم...
جراحي التي حملتها في طريقي إليك كانت أكبر من أن أحصيها لكِ، وأعذاركِ كانت أكثر من أن تعدّيها على مسامعي.. فضلاً عن استطاعتي الاستماع لشيء بتنا أنا وأنتِ نعرفه جيّداً... فكفانا نخادع بعضنا وتعالي نتحدّث على بساطٍ أحمديّ..
لم تكوني كما أعرفكِ، ولستُ كما تعرفين... غيّرتنا الثّورة معاً، وغيّرت داخلنا الكثير... لا تسألي أيّ ثورة، وأيّ تغيير... هو ذاته الذي جعلكِ تغالطين، وتعيشين حالة الإنكار هذه... هو ذاته الذي يقولُ عنه تُجّاركِ حين نسألهم "كيف الوضع"؟؟ فيجيبون.. "هناك كركبة" يوم الجّمعة!! بالله عليكِ هل هناك كركبة أكبر من تغيير مسمّيات الأشياء، فمتى نضع النّقاط على الحروف؟!! أعرفُ أن قلبكِ معي، مع حمص، مع حماة وبانياس وإدلب ودرعا واللاذقية وجسر الشّغور... لكنّ إجاباتكِ عليّ قاتلة حين أخبركِ عن القصف وضرب الرّصاص، فتجيبون على لسانكِ فوراً... "الحمد لله... نحن ما عنّا شي!!". لحظتها أجبت: "الحمد لله إنو عنّا كل شي". أجل.. لدينا مدينة منكوبة لكنها سيّدة نفسها، وشعب مكلوم لكنّه بكرامته، وثورة أكلت كلّ شيء لكنّها أبقت لنا ما هو أغلى من كلّ شيء، فلا تحمدي ربّك على المذلّة والعبوديّة، واسألي الله العافية... أدهشني ألا أرى صور الطاغية في واجهة المطار.. كانت هناك صورة واحدة مجعّدة، وكأن أرجل الثّوّار داستها، ثمّ جاء الشّبّيحة عندما اكتشفوا بأن النّظام لم يسقط بعد فعلّقوها.. الصورة لبشّار بين التّراب يغرس فسيلة!! لكنني رأيته بين التّراب يحفر قبره، ليغرس الثّوّار فوق الرّكام الذي سيتركه الفسائل... ها أنتِ ستجيبين ببطء، تحاولين التّفاعل دون جدوى، لأنك لا تريدين أيّة خسائر... تريدين ثورة تقام بجهاز التّحكم عن بعد، ترددين دعاء: "اللهم حوالينا ولا علينا".. وكأنّكِ تفهمين أن معركتنا التي نخوض هي نوعٌ من الأذى، لكنّ الخير كلّ الخير فيها لو تعلمين!! كئيبة أنتِ يا عزيزتي رغم مظاهر الحياة.. شبه ميتة من كرامة، لستُ أدري كيف استطعت إخفاء شعوري بالاختناق وأنا أتابع سيري في العمق، ورسمت على وجهي صورة جامدة، وأخفيتُ دموعي.. ولكن.. إلى متى؟!! كانت هنالك مظاهرة عند محطّة الحجاز، في قلبكِ، سبع دقائق من الحرّيّة، سبع دقائق من الكرامة، قادها أبطالك الشّجعان هناك، بالله عليكِ كيف طاب لقلبكِ أن تراقبي زينة شبابك وشابّاتكِ يواجهون الموت بكلّ إيمان، وتغاضيتِ عن الوقوف لدعمهم... صوتكِ شحّ عن هتاف، قلبك لم يعد له نبض يُسمع، عيناك مغمضتان... لكنّه ليس وقت النّوم فلم تتظاهرين أنك تحلمين بالغد الأفضل؟!! ياه يا دمشق!! لو تعلمين كم أنتِ كبيرة.. وكم أنتِ قادرة على ابتلاع النّظام ودهسه وإرغام أنفه على الاستسلام.. الحيّ فيكِ مدينة، ومدنكِ إن قامت قيامتها، فأيّ نظام سيردعها؟ أيّ شبّيحة سيتبعثرون في اتّساعها؟؟ أيّة آلة قمع ستكفيها؟؟ فكّري بعقل ولو لمرّة، ستعلمين أن الأمر باستطاعتك مهما كانت القبضة قويّة.. أنت مدينة تعدل دولة، مدينة قادرة على حماية كل المدن، ونصرتها، ودعمها... لكنها لم تفعل، لأنها لا تُريد، وباتت تُباهي بأبطال قلّة، طوتهم السّجون والتّعذيب، وأرهقتهم المعتقلات والتحقيقات وعيون الرّقباء التي باتت مادتها الرئيسية، لأنهم قلة.. لأن أهلك لا يريدون لهم ولا لنا الخلاص سريعاً... فلا تنكري هذه الحقيقة!! كانت ثائراتكِ أجمل ما رأيتُ فيك، رأيتُ في عيونهم عيون دمشق الجميلة، وفي حماسهم استرجعت أيام أمجاد وعِزّة، وفي مشروعاتهم الصّغيرة كنت أعرف أن الأمور ستعود لخير، فقط لأنهن مع ثواركِ وقفوا ليحموا حماكِ، لينفوا عنكِ خطيئة الصّمت... وأصواتهم القليلة نجحت في شقّ جدار ذلك الصمت، فلتسجّلي في كتاب التّاريخ الجديد كم كانوا كباراً، وكم كان غيرهم أقزاماً ضمن أسواركِ.. أخبري قاسيون نيابة عنّي بأنّي لم أره، ولم أفكّر في رؤيته، شعرتُ لوهلة أنه غير موجود، أو أنّ أنواره كانت مطفأة!! المهم.. فليعم أنه كان صامتاً إلى حدّ الغياب، وليعلم كم هو مؤلم على أيّ إنسان يزوركِ فلا يتفقده، ولا يتمنّى لو أنه اختلس ولو نظرة صغيرة له... عائدة فوراً إلى حمص، على جدار النفق قرأت عبارة نفاقٍ لبشّار، ضحكت من سذاجتها، وضحكتُ من خوف الجنود الذين يفتّشون السّيّارة، وجيوب المواطنين... تمنيتُ لو حملتُ في جيبي قنبلة، وعلى ظهري قذيفة تهدم الحاجز، تهدم السّور ليُفتح بيننا وبينكِ طريق، لعلنا نتواصل مجدداً... حمص تستقبلني كأمّ حنون، وجهها الطّيب يزداد ضوءاً وبهاء، شباب الإغاثة يتبعثرون كالعادة في كلّ مكان.. الفتيات يتحركن بصمت وفاعليّة، الجنازات والشّهداء يرسمون ملامح مدينة جديدة حدودها باتت باللون الأحمر، ليس على الخريطة فقط بل على أرض الواقع، رسمتها دماء الشّهادة... وجهُ شابٍ كالوردة يبتسم على ورقة النعي... ورفاقه يقفون قرب داره يتأهبون لزفافٍ مختلف! وخبرٌ يتصدر صفحات أخبارك عن خمسة عشرة جثّة لطفل في مشفاكِ الوطنيّ... وجثث أخرى تُسلّم تحت التعذيب، والرّستن تُقصف، وكرم الزّيتون، الإنشاءات تُهاجم، بابا عمرو تُحاصر، القصورُ تُهدد بالاغتيال... هذه المدينة التي أدمنت البقاء فيها دون خوف... ها هي حروفي التي أكتبها وأنا أسمع قرع طبول المتظاهرين تحت داري... لأشاركهم لعن روح حافظ... لأداوي بعض أشواقي بهتاف الحرية التي نصنع.. أيّاً كانت أحوال المدن، يبقى الثّوّار في كل مدينة هم زينتها، هم أبرز معالمها... يخلد الشعب العظيم، واللعنات تطارد الظالم إلى قبره.. *** كان هذا منذ مدة.. كانت يومها حمص أفضل حالاً منها اليوم.. كان هنالك أناسٌ فيها يُذبحون، لكنهم تحت سُقف بيوتهم، كانت هنالك جُدرانٌ تحمينا من رؤية بشاعة العالم في الخارج، كانت الأحياء مليئة بقاطنيها، وأصوات الأطفال بضحكهم وبكائهم تطغى على صوت القذائف.. كانت حمص كالأم الجريحة تحتضن أبناءها بعطف قبل أن يُقطّعوا أوصالها، وينتزعوا منها خيرة من تحب منهم... كانت حمص مدينة، واليوم هي أطلال مدينة نقف عليها، نحاول ألا نَبكِيها أو نُبكيها... لأنّ من يقطع عهود الانتصار لها لا بدّ أن يتمتّع بشيء من رباطة الجأش حتى يفي بوعوده... كانت جولة من حمص الجريحة إلى دمشق، وغداً مشوار أمل من أطلال مدينة أعشقها يحفّه الشوقُ قبل الفراق... فلا تسلوني عن مشاعري بل اسألوا عن هذه الحُرّة الأبيّة كلّ دفاتر العشّاق..
المصدر: المركز الإعلامي السوري
أحمد خيري العمري
حسان الجاجة
جلال زين الدين
ناصر العمر
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة