هانا لوسيندا سميث
تصدير المادة
المشاهدات : 5880
شـــــارك المادة
الفرات شريانها الحي تحول إلى ناقل للأمراض.. ومتحفها تدمر.. وجسرها التاريخي صار هدفا للقذائف
في ضوء الغرفة المتقطع، نزع كاسر أبو أيوب سروال الجينز ومعطف الأديداس ليرتدي زيه العسكري ويحمل مسدسه. كانت أطياف الحياة العائلية السابقة، من أكواب القهوة الثمينة التي طليت حوافها، وصورة معلقة على الحائط تحيطه من كل جانب.
لكن الكلاشينكوف الذي اتكأ على الأرائك المنخفضة ألغي مظاهر الحياة المنزلية، تماما كما نزعت ثياب المعركة عن كاسر هويته المدنية السابقة. يشكل المنزل محطة انطلاق لمقاتلي كتيبة الفرقان التابعة للجيش السوري الحر، ويقع على مقربة من الحدود التركية لكنه يبعد أكثر من 500 كيلومتر من دير الزور، تلك المحافظة النائية، التي لم تلق حظها من التغطية، شمال شرق سوريا، التي تحاول كتيبة الفرقان انتزاعها ببطء وبشكل مؤلم من أيدي النظام. هنا في هذا المنزل الأمن يقوم المقاتلون العائدون من العلاج الميداني أو الاستراحة في تركيا بارتداء زيهم العسكري والتزود بالأسلحة استعدادا لمسيرة طويلة وخطيرة للعودة إلى خطوط المواجهة. كان كاسر في المرحلة الأخيرة من رحلة العودة من إسطنبول، حيث كان يعالج من الجراح التي عانى منها إثر معركة في سبتمبر (أيلول) الماضي. وبينما ينزع عنه قميصه كشف عن الندوب الكثيفة التي كانت تغطي الجزء العلوي من جسده. وقال: «أصبت برصاصة دوم دوم في 3 سبتمبر (أيلول) وقاموا بعلاجي قدر استطاعتهم في دير الزور، وفي الثاني أكتوبر (تشرين الأول) تم نقلي إلى إسطنبول، وفي 29 أكتوبر (تشرين الأول) عدت إلى القتال مرة أخرى على الجبهة، أحمل آثار جراحة داخلية». استغرقت رحلتنا إلى دير الزور ثماني ساعات على طول طريق تمكن الجيش السوري الحر من السيطرة عليه قبل شهرين. وما إن غادرنا منطقة الباب حتى قام السائق بالضغط على المكابح بشدة في نقطة تفتيش لم نرها إلا بعد أن تجاوزناها. على مدى ثلاثين ثانية كانت الأجواء متوترة، ورفع كاسر بندقيته الكلاشينكوف التي وضعها أسفل مقعد السائق، ثم عاد ليخفضها مرة أخرى بعدما أكد الفحص الحذر للأوراق أن الرجال الذين لوحوا لنا كانوا من المعارضة، حيث تبدو نقاط التفتيش السورية سلوكا مختلفا وخطيرا في الظلام، فهناك الكثير منها إلى جانب الطريق. سلكنا طريقا مختصرا إلى دير الزور لكنه كان ملتويا، وضيقا ومليئا بالحفر نتيجة سنوات من الإهمال. في السابق كان من المستحيل على كاسر ورجاله أن يسافروا عبر هذا الطريق فلا تزال طائرات النظام تقصفها عادة، لذا قدنا بهدوء وكنا نتوقف بشكل منتظم لإطفاء الأضواء الأمامية. على طول الطريق كان كاسر يتحدث حول كيفية توليه قيادة كتيبة الفرقان، التي تسيطر الآن على كل ريف دير الزور نصف المدينة تقريبا. ويقول: «كنت قائد الفريق المحلي لكرة القدم لذا علمت أنني قائد جيد. وأنا أعامل رجالي في الكتيبة بنفس الطريقة التي أعامل بها لاعبي - باحترام». يتحدث المقاتلون في السيارة ويمرحون مثل زمرة من أصدقاء المدرسة القدامى، كل منهم يحمل لقبا فمحمد البالغ من العمر 25 عاما يلقب بالمهندس، ويجعله النمش والابتسامة على وجهه أقرب إلى سلوك المراهق، لكنه شهد الكثير من القتال في الجبهة الأمامية من الجنود الأشداء، ويقول كاسر: «كان في جيش النظام لكنه انشق وانضم إلينا قبل ثلاثة أشهر، وكان جزءا من المجموعة التي حررت هذا الطريق». ينظر المهندس إلى الخلف من مقعد السائق ويزمجر. وعلى عكس محمد (المهندس)، لم يكن كاسر جنديا متمرسا - فعندما بدأت الثورة كان يعمل نجارا. وكان ينبغي أن يلتحق بالجامعة بعد الثانوية العامة لدراسة الهندسة لكن رفضه الانضمام إلى حزب البعث حرمته من ذلك. ويقول عن ذلك: «كان هناك شخص أدنى مني في الدرجات لكنه التحق بالجامعة وأنا لم أفعل. كان ذلك هو الحال في سوريا، فكي تنجح ينبغي أن تدعم النظام، لذا عمل في عدة وظائف وخلال أوقات فراغه كان يلعب كرة القدم. ويقول لعبت في خط الوسط مثل ستيفن غيرارد». خلال الأيام الأولى من الثورة السورية تركز انتباه العالم على مظاهرات درعا ودمشق، لكن المظاهرات اندلعت في دير الزور بعيدا عن دائرة الضوء وكان كاسر هناك أيضا. ويقول: «كنت معارضا للنظام على الدوام مثل كل الناس هنا، وكنت أعلم أن الشعب السوري سينتفض ذات يوم ضد بشار الأسد. دائما ما تسقط الديكتاتوريات»، وبعد سنة انضم إلى قوات المعارضة. اليوم تدور رحى بعض أشرس المعارك في دير الزور، المدينة القديمة التي تسير مع منحنى الفرات الخصيب. ويسيطر النظام على محافظة تضم بعض أكثر الموارد الطبيعية قيمة - مثل الفوسفات والملح والنفط، ويقول كاسر: «كانت دير الزور تتمتع بأفضل اقتصاد في سوريا، من الزراعة والسياحة والصناعة، لكن النظام أفقر الشعب هنا». على مدى 8 أشهر قامت الطائرات الحكومية بتمشيط المدينة وقصفت كل شارع فيها. ودفع القتال العنيف سكان البلدة الذي يعيشون وسط المدينة إلى الرحيل عنها إلى القرى المحيطة. كانت خيوط الفجر الرمادية تزحف عبر السماء خلال اقترابنا من السهول الصحراوية خارج المدينة، كاشفة عن سحب الدخان السوداء الكثيفة تتصاعد في الأفق. كان الدخان مؤشرا على الحرب بقدر ما كان مؤشرا على مبان ونقاط تفتيش سويت بالأرض، إذا كانت تجيد قراءتها. نقص النفط في سوريا التي تخوض حربا خلق حاجة ملحة للوقود، جعل الناس يتحلقون حول البراميل المشتعلة في الضوء الأبيض في الساعات الأولى من الصباح. في بعض أنحاء المحافظة يقترب النفط الأسود من السطح حتى أنه يطفو من الأرض من تلقاء نفسه، وقد ابتكرت بعض الشركات الجديدة طريقة لتكريره إلى كيروسين لبيعه في السوق السوداء لكن الخطط لا تتضمن تدابير لحماية الأفراد في هذه القرى من الدخان الأسود المسرطن الذي يهب على منازلهم. هذه الصناعة الرائجة يراها الأطباء قنبلة طبية موقوتة، فيشير أحد الأطباء في المحافظة إلى أنه عاين أشخاصا أصيبوا بالصداع والإسهال وآلام الصدر جراء استنشاق الدخان. ويقول: «توقف النظام عن إرسال الوقود إلى مناطق المعارضة في دير الزور، لذا بدأ السكان في فتح حقول النفط بمعدات بسيطة. لكنهم لا يعلمون أخطار تكرير النفط ولا توجد لديهم معدات ملائمة أو نصائح بشأن كيفية استخدام ذلك بصورة آمنة. وسوف يتسبب ذلك في المستقبل في حدوث سرطانات وجميع أنواع المشكلات الأخرى». بالقرب من مدينة دير الزور كانت تأثيرات الحرب أكثر جلاء. فهناك شوارع كاملة من المنازل والمحال التجارية ومحطات الغاز حطمتها القذائف ورحل عنها أصحابها. وقدنا عبر شوارع يلفها الصمت إلى منزل كاسر، الذي يقع على بعد نصف كيلومتر خلف خط المواجهة. عندما بدأ القتال رحلت عائلته الكبيرة عن المنزل وتجمعوا هنا - ثلاثة أشقاء وثلاث أخوات مع أبناء أخواتهم ووالدته وعماته. وينام الجندي الشاب في الجيش السوري الحر في الغرفة الأمامية ليكتظ المنزل بشكل أكبر. وعلى غرار المنزل الأمن على بعد 100 كيلومتر إلى الغرب، أصبح منزل كاسر، خلية هجينة رائعة من منزل عائلة وقاعدة عسكرية. وتستقر كومة من الكلاشينكوف أسفل ملصق «مرحبا كيتي» على حائط غرفة النوم، وقاعدتهم الخشبية عليها كتابات من الحروب السابقة. هذه البنادق قديمة لكنها بالغة القيمة وأسلحة منتشرة في سوريا اليوم. قبل الانتفاضة كان من الممكن شراء الكلاشينكوف مقابل 35,000 ليرة سوريا، لكنها سعرها تضاعف حاليا. اعتادت نساء تلك العائلة على وجود هذه البنادق في ظل أصوات الغارات الجوية والقصف. وقفت الفتيات في سن المراهقة لالتقاط صور لهن وهن يحملن بنادق الكلاشينكوف، لكن أم كاسر لا تزال تغطي أذنيها وتشعر بالخوف عند استخدام أبنائها بندقية قنص لإطلاق النار خلف المنزل بالتناوب، ومع تحليق طائرة مقاتلة في أنحاء الحي وإطلاقها لإحدى القذائف التي زلزلت أركان البيت بأكمله، خفضت عينيها قائلة: «إننا نعيش في جحيم». خلف المنزل تقف مجرد هياكل لأشجار فاكهة، ماتت بسبب نقص الماء، مبعثرة في الحقول؛ حيث يقول كيسار وهو يسير بين الحقول لقد أحببت العيش هنا على مقربة من النهر والحقول. كانت تلك الأرض خصبة العام الماضي. وكان مركز مشروع البحوث الزراعية يعج بالكمثرى والرمان والقمح. ولكن سلاح المدفعية ضرب نظام الري قبل أربعة أشهر والآن باتت التربة متعطش للماء. رغم تفتح زهور مجموعة من أشجار الكرز التي تغذت على الأمطار الغزيرة التي هطلت في الشتاء الماضي، لكنها لن تنجو من الحرارة الحارقة في موسم الصيف الذي يقترب بسرعة. أشار كاسر إلى صورة لبشار الأسد تم تشويه ملامحها ملقاة على أرضية يكسوها الغبار. ليس من السهل عند النظر إلى هذا البستان المتهالك نسيان أن قوات الديكتاتور لا تبعد عنه سوى 500 متر فقط. عند التجوال في ملجأ خرساني لم نتمكن سوى من استراق النظر إلى جسر المعلق في دير الزور، الموجود على بعد خمسين مترا من الطريق الذي أصبح ساحة للقناصة. يبلغ عمر الجسر 85 عاما، وظل رمزا للصناعة والابتكار في المدينة، ولكنه أصبح في الأسابيع الماضية هدفا لقذائف النظام. يمكن القول إن بات ضحية أخرى من ضحايا هذه الحرب الحالية. يقول كاسر: «عمر هذه المدينة ستة آلاف عام، فقد كانت جميلة، وكانت تنعم بالكثير من التراث الحضاري. هذه الحرب تدمر كل شيء. لقد دمر المتحف بالكامل في أغسطس (آب)، والآن يدمر النظام الجسر أيضا». وفي الوقت الذي تحتضر فيه المناظر الطبيعية في دير الزور ببطء، يخشى الدكتور أبو حمزة، في مستشفى الميادين، من أن يعاني سكان دير الزور من الإصابة بمرض التهاب الكبد الوبائي وفيروس نقص المناعة البشرية؛ حيث يقول: «أصبح بنك الدم فارغا منذ عام، ونحن لا نستطيع الحصول على المزيد من الإمدادات، ليس لدينا أي هيئة بحثية لتحليل نوع الدم الذي يتبرع به الناس. باتت الأولوية هي إنقاذ حياة الناس الذين أصيبوا، ولكنني أعلم أنه في المستقبل سوف يعاني الكثير من هؤلاء الناس جراء أمراض الدم المنقولة». لدى الدكتور أبو حمزة في الوقت الحاضر الكثير من المخاوف الوشيكة، حيث اصطحبنا إلى قريته القورية، حيث تحول نهر الفرات، شريان حياة دير الزور، إلى مجرى مائي ناقل للعدوى والمرض. فمنذ عدة شهور لم يتم تنقية مياه النهر بالكلور، ولم يتم معالجة مياه الصرف الصحي التي تتدفق فيه، وبالتالي يعاني 50 ألف شخص يعيشون في البلدة من هذا الوضع. هناك بالفعل ألف حالة مؤكدة تعاني من التيفود. وأنهى الطبيب بيده ثلاث حقائب كاملة من التذاكر الطبية للمرضى. كانت الحقائب موجودة على أرضية المستوصف. يقول: «إن هذه الحالات المؤكدة التي لديها مالا لدفع تكاليف الاختبار. هناك ما لا يقل عن ألف حالة هنا تعاني من نفس الأعراض». قد يضعف مرض التيفود مع مرور الوقت دون أي علاج، ولكن يكمن خوف الدكتور أبو حمزة الحقيقي من وباء الكوليرا. «هناك بالفعل حالات يشتبه في إصابتها بهذا الوباء، وسوف تكون كارثة إذا تأكدت شكوكنا». وأضاف: «يمكننا التعامل مع التيفود، ولكننا لا نستطيع التعامل مع الكوليرا. إذا كان لدينا وباء من ذلك النوع، فسوف يموت نصف الناس». تسبب الكوليرا حالة من القيء الشديد والإسهال، وتؤدي إلى الوفاة من خلال ما تلحقه بالجسم من جفاف وفشل كلوي. ويعاني مرضى الكوليرا من فقدان لترين من الماء من أجسادهم يوميا، ويحتاجون إلى عشرة أكياس من المحلول الملحي لتعويض هذا النقص. يدرك الأطباء في دير الزور أنهم بحاجة للحصول على إمدادات حاليا ليتمكنوا من التصدي لانتشار هذا الوباء، ولكن انقطعت لديهم السبل في الحصول على تلك الإمدادات من أي جهة. يقول الدكتور أبو حمزة «وعدت المنظمات غير الحكومية بمنحنا الأدوية والمعدات، ولكن لم يقدموا لنا شيئا. إنهم بارعون في الحديث لكنهم لم يفوا بوعودهم». تسلط كلمات الطبيب الضوء على حقيقة واضحة: أن دير الزور أصبحت محافظة منسية في هذا الصراع. إن هذه المحافظة المحاصرة المعزولة يجري سحقها ببطء بفعل الحرب. يحدث كل هذا بعيدا عن الكاميرات التلفزيونية التي تتجه بأنظارها إلى معاناة الشعب في كل من حلب وحمص ومخيمات اللاجئين. وحينما يخيم ظلام الليل تلتف أسرة كاسر حول زوجين من الشموع لشرب الشاي الحلو انتظارا أن يبدأ عمل المولد الكهربائي بالإضافة إلى تحدثهم عن الحرب الدائرة في دير الزور. يعتقد البعض أن الحرب ضد النظام يمكن أن تمتد إلى عدة أشهر، ولكن يختلف البعض الآخر مؤكدين أنها قد تستغرق أعوام. وفي كلتا الحالتين، سيخوض الناس هذه الحرب وحدهم. لقد ضاقت الحياة بهذه الأسرة مثلها مثل الكثير من الأسر، فليس لدى الأطفال مدارس يذهبون إليها، ولا أماكن آمنة يلعبون فيها. وكل ما يمكن للنساء أن تفعله هو الانتظار حتى ينتهي هذا الكابوس في ظل فقدهن أحبائهن كل يوم في جبهة هي الأكثر خطورة في العالم. وفي الوقت نفسه ليس لديهن خيار سوى الاستسلام لقواعد الحرب الدائرة في دير الزور المنكوبة – تلك القواعد التي ليس لديهن أي يد فيها وينضالن كثيرا لاستيعابها.
وفي نهاية المطاف يقول المهندس: «في أحد الأيام وجدت قطة بالقرب من خط المواجهة، فأنقذتها وأطعمتها إلى أن بقيت معي أسبوعا، ولكنها عندما خرجت إلى الشارع، قام قناصو النظام بإطلاق الرصاص عليها. هذا ما يفعلونه في محافظة دير الزور - إنهم يطلقون النار على أي شيء يتحرك».
الشرق الأوسط
كلنا شركاء
أمين العاصي
المرصد الاستراتيجي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة