عبد الرحمن عبد الله الجميلي
تصدير المادة
المشاهدات : 7467
شـــــارك المادة
النظام السوري نظام غير إنساني، لا يعرف رحمة ولا شفقة، لا يعرف خلقاً ولا أدباً، لا يعرف عهداً ولا ميثاقاً، بدأ نظامه بسيولٍ من الدماء في ساحات دمشق، ثم ملأ السجون بكلِّ الأحرار من السياسيين والعسكريين ثم نسيهم وراء القضبان. حوَّل المدارس إلى شعارات تقدِّس شخص الرئيس لا غير، حوَّل النقابات العمالية جميعها إلى الصُّداح صباح مساء باسم حامي سورية فخامة الرئيس، حوَّل الجيش والقوات المسلحة إلى ذاكرين ومسبحين -ليس لله- ولكن لشخص الرئيس... حوَّل كلَّ شيء في البلد إلى الرئيس، فهو المعلم الأول، والعامل الأول، والفلاح الأول، والجندي الأول... وهكذا دواليك.
ثم حوَّل النظام السوري عناصر الحزب القائد -زعموا- إلى عيونٍ تنقل أخبار الناس، وأحاديثهم ومناقشاتهم إلى الجهاز المقدَّس الموحد في البلد (المخابرات). فإذا قال معلمٌ في مدرسة رأياً في مسألة اجتماعية أو اقتصادية فضلاً عن السياسية، هبَّ الرفاق الحزبيُّون زرافاتٍ ووحداناً إلى أوليائهم من الفروع المخابراتية لإعلامهم بوجود مواطن له رأي ما غير رأي الحزب القائد. ثم تتولى هذه الأجهزة الأمنية المخابراتية عملية جرّ هذا المواطن إلى مكاتب التحقيق، لِيَلقى هناك السباب والشتائم والتهديدات... فإن عاد المعلم إلى تكرار إبداء آرائه في القضايا الحياتية جُرَّ جرّاً شديداً، ورُمي في الزنازن إلى أجل غير مسمّى، ثم لا يتجرأ أهله أن يسألوا عنه... إنما ينتظرون الفرج من الله. هكذا يعيش الشعب السوري... وممَّا يلاحق الشعبَ السوري دائماً، ويطارده في يقظته وفي منامه، في ليله وفي نهاره، ما رأى وسمع من مجازر وقتل وانتهاك وإذلال لكثير من أبنائه، بل والكثير من جيرانه في لبنان وغيرها. هل تغيبُ عن الذاكرة السورية مجزرةُ حماة واستباحة المدينة بعد تدميرها، ومجزرةُ جسر الشغور وما حصل فيها من قتل واعتقال وهدم للمنازل، ومجزرةُ حي المشارقة في حلب حيث دفنوا القتلى بالجرَّافات في مقابر جماعية، وما حصل من مجازر في اللاذقية ودمشق وغيرها في أرجاء البلاد، وهل تغيب عنها مجزرةُ تدمر وما حصل فيها من تعذيب قتل للسجناء على يد السفاح رفعت الأسد... وغيرها وغيرها. بل هل تغيب عن الذاكرة السورية مجازر النظام في دول الجوار، كما حصل من حصار ودك لمدينة طرابلس عاصمة أهل السنة في لبنان، حيث عمل النظام بالتعاون مع مليشيات الحي النصيري في (بعل محسن) لتصفية شباب ورجال أهل طرابلس. ومجزرة تل الزعتر حيث قام بقتل أكثر من سبعة عشر ألفاً من الفلسطينيين في هذا المخيم هدية إلى أسيادهم في تل أبيب. واليوم ثار الشعب السوري والذاكرة أَرِقَةٌ مُتعبة بأحداث الماضي ومخاوف المستقبل، ثار الشعب السوري على استحياء -أو قل على خوف- منادياً: حرية حرية. فلم يتعرَّض لحاكمه المستبد بكلمة ناقدة، ولا إشارة لامِزَة، فكانت المجازرُ الكبيرة ردَّ النظام، وكان الحقدُ والكره الأسود بَسْمتَه ووجهه، فراحَ يقابل (حرِّية حرِّية... الشعب يريد كرامة... )، قابل هذا بالطلقات النارية المركَّزة إلى الرأس أو الصدر... فيسقط المواطن أرضاً كما يسقط الطائر من رمية الصيَّاد. وإذا بذاكرة الشعب السوري تُعيد له ذكريات حماة وجسر الشغور... تعود له بذكريات الرئيس الأسد الأب الذي سفك الدماء مع أخيه رفعت وأعوانه... تعود بصورة الأسد الابن وأخيه ماهر ومن والاهما من العصابات الإجرامية. عادت ولكنها توسعت لتشمل سورية كلها من درعا جنوباً إلى حمص والرستن وتلبيسة... وسط سورية إلى إدلب وحماة شمال غرب البلاد إلى دير الزور والبوكمال شمال شرق البلاد... والنَّزيف هنا وهناك. عادت ليظهر الحقد الكبير من هذا النظام إلى شعبه مرة أخرى. ظهر في صور كثيرة منها: تعذيب الأطفال حتى الموت، وقد رأينا ما فعلوا بحمزة الخطيب، وهاجر الخطيب، وثامر محمد الشرعي... وقد رأينا كيف خلعت كتف الطفل ثامر، وقلعت أسنانه، وقطع شيء من لحم وجهه... ثم سُلِّم بعد ذلك إلى أهله. ومنها إهانة من وقع في أيديهم ورَكْله على وجهه بالأرجل، مع الدَّهس والدَّوس على ظهورهم وبطونهم وصدورهم، واستحقارهم والسخرية بمطلب الحرية التي ينادون! أصبحت صورة النظام البعثي في أذهان الشعب السوري خليطاً من القتل والتصفية والتعذيب والوحشية والإهانة والسخرية، لا لأعداء الأرض والوطن من الخارج، بل إلى أبناء الشعب... لذلك لا غرابة من هروب الآلاف إلى خارج البلاد من درعا إلى الأردن، ومن تلكلخ إلى لبنان، ومن إدلب إلى تركيا... لا هرباً من حربٍ أهلية قائمة، وإنما من جيشٍ كان المطلوب منه حماية الشعب وبذل الأرواح في صيانة حريته وكرامته. هذه أم الشهيد داود الشيخ من أهالي جسر الشغور لم تستطع ذاكراتها أن تفصل بين أحداث الماضي وآلام الحاضر ومخاوف المستقبل، وقفت على جثمان ابنها شهيد الحاضر لتربطه بأبيه –زوجها- شهيد الماضي... وكلاهما من ضحايا النظام البعثي. وقفت لتعطي العالم بأسره دروساً في الإيمان الحقيقي، والتوحيد الخالص، والارتباط القوي بالله ربِّ العالمين، وقفت ويا أروع ما وقفت! وقفت ويا أعذب ما نطقت به شفتاها من كلمات الصبر والثقة والعزَّة واليقين بالله –تعالى-! فهل نستفيد من هذا الدرس العملي من أمِّنا أمِّ الشهيد داود الشيخ؟! أم هل نستفيد من هذا الصَّفاء الرُّوحي، والقلب المليء بمحبَّة الله والرضا بقضائه، والتعلُّق بما وعد من معيَّةٍ ونَظْرة وعطاءٍ لأحبابه الصادقين؟! فهل يمكن بعد ذلك أن تعود الحياة الطبيعية للشعب السوري في ظل حكومةٍ عدوُّها الوحيد هو شعبها السوري؟ لقد كنت دائماً وأنا في بلدي –سورية- أفقد كل طمأنينة أو سكينة إذا ما رأيت سيارةً أو مجموعة من العناصر الأمنية، سواءٌ كانوا من الشرطة المدنية أو العسكرية أو شرطة المرور أو من حفظ النظام. أما رؤية دوريات الأمن السياسي أو العسكري أو أمن الدولة فإنها تفقدك كلَّ شيء يحسُّ به الإنسان من صفاته التي وهبها الله له، ولا أنسى وأنا عائدٌ يوماً إلى منزلي بعد زيارة لأقربائي في قرية مجاورة، إذ أوقفتني سيارة أمنية فلما رأوا السيارة فارغة من كل شيء وليس فيها إلا أنا ووالدتي وزوجتي وبعض من أولادي صرخ أحد العناصر بكل أدب ولطف قائلاً: "انقلع ولاك كِرْ". فانطلقت وأنا مسرورٌ بالنجاة، وتناسيت ما سمعته من سبٍّ مقذع وُجِّه إلي (انقلع... ولاك... كِرْ)... ! وكم يسمعها آلاف السوريين من الشبان والشيبان والعلماء والمثقفين من هؤلاء الذين يقال لهم (الأمن). لقد عرفنا وعرف الشعب السوري كلُّه أن هذا الأمن بكل فروعه لم يوضع لحفظ الأهالي ومصالحهم وأعراضهم وممتلكاتهم إنما وضع لحماية شخص الرئيس وانتهاك حرمات الشعب كلِّه. واليوم ماذا علينا نحن الشعب السوري؟ علينا ألا نطمس أعيننا عن هذه المشاهد التي نراها تنتقل من بلدٍ إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة، يوماً بعد يوم، فالنظام البعثي سيظل ينتقل إلى أرجاء البلاد مقتِّلاً ومعتقِلاً ومُذلاًّ لأبناء هذا الشعب، حتى يَخضع الشعب ويَذِل كما ذلَّ أربعين سنة فائتة. علينا أن نهبَّ جميعاً، في كلِّ مدينة، وكلِّ حيٍّ، وكل قرية، وكل منزلٍ ضدَّ هذا النظام السرطاني البعثي حتى يتم اقتلاعه من جذوره، لا ندعه يرتاح لحظةً، ولا يُعطى فرصة لإعادة تنظيم أموره، خاصة وقد بدأ أحرار الجيش يعلنون انشقاقهم عن هذا الجيش الذي وجَّه نيرانه إلى الشعب الأعزل. فهيَّا جميعاً، هيَّا شباباً، هيَّا كهولاً، هيَّا شيوخاً، هيَّا أطفالاً، هيَّا نساءً، هيا إلى الصّدع والنداء: الشعب يريد إسقاط النظام. علينا حماية الفارِّين من أماكن الاعتقال والتعذيب ومساندتهم بكل ما أوتينا من قوَّة، وألا نفكِّر براحتنا على حساب حياة إخواننا في طول البلاد وعرضها. علينا أن نستغلَّ طاقاتنا كلَّها، أناسٌ في التصوير والتوثيق، وآخرون في الاتصال بالقنوات وإعطائها الأخبار ممَّن يتميَّزون بالقوة والذكاء والحنكة السياسية، وآخرون يحمون المتظاهرين من الشبيحة وغيرهم. علينا أن نحقِّق المعاني والأخلاق والروابط العظيمة التي جاءت في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْع بَعْض، وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً، المُسْلِمُ أخُو المُسْلم: لاَ يَظْلِمُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هاهُنَا - ويشير إِلَى صدره ثلاث مرات- بحَسْب امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلم عَلَى المُسْلم حَرَامٌ، دَمُهُ ومَالُهُ وعرْضُهُ)) رواه مسلم. علينا أن نثق بربِّنا، ونحسن التوكُّل عليه، ونعلم يقيناً أنه معنا، لأننا المظلومون، والمعذَّبون، والمقهورون، ولنعلم أن المعية الإلهية هي خير مطلب، وأعظم مجتنى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}. ولعله يا أحبتي يكفينا قوله - تعالى -: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
خالد مصطفى
أبو مضر
محمد حسن عدلان
حسام السباعي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة