..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

كم كان جارنا إنساناً!

عبد الكافي عرابي النجار

١٣ ٢٠١٨ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3037

كم كان جارنا إنساناً!

شـــــارك المادة

كنا في طفولتنا نصيد العصافير (بالفخاخ) في وادي باب تدمر في مدينة حمص، ثمّ يصبح ما نصيده من تلك العصافير المسكينة لعبة محببة لنا، وكان لنا جار يكبرنا بسنوات قليلة يتألم عندما يرانا نلعب بتلك العصافير، فيشتريها منّا ثمّ يطلقها، وهو يقول لكلّ عصفور أطلقتك لوجه الله تعالى، كان تصرّفه هذا يثير في نفوسنا كثيراً من إشارات الاستفهام وعلامات التعجب، لم نستطع في ذلك العمر أن ندرك لمَ يفعل هذا، بل كنّا بعد ذلك نتعمّد أن نلعب أمامه بما نصيده من عصافير ليشتريه منّا ويطلقه.

 

عندما كبرنا أدركنا كم كان جارنا هذا إنساناً، ونموذجاً راقياً للمحسنين من البشر. فالحياة تحتاج أن يكون فيها أناس لا تقاس عندهم الأمور بميزان كم سآخذ مقابل ما سأعطي، إنّ الإنسان الذي يعطي إنسانيته حقّها، لا يبحث عن الحقّ والواجب فقط، أوعن ما لي وما عليّ، وإنّما يبحث عمّا أستطيع أن أقدّم أو أفعل لغيري، إنسان هذا حاله، يجد سعادته في بسمة رسمها على وجه إنسان بائس، بفرحة أدخلها على قلب طفل محروم، بثقة أعادها إلى مظلوم مقهور، بنظرة حنان من عاجز يائس أعاد له أمله في الحياة. فالإحسان يحمل صاحبه على أن يخفف الويلات، ويمسح العبرات، ويكافح الآلام، ويدفع الأحزان.


سئل الضحاك عن قول الله عزّ وجلّ في سورة يوسف: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) – يوسف:37- قيل له: ما كان إحسانه قال: كان إذا مرض إنسان قام عليه، وإذا ضاق عليه المكان يعني في السجن وسع عليه، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة قال: بلغنا أنّ إحسانه أنّه كان يداوي مريضهم ويعزّي حزينهم، ويجتهد لربّه.

هذا هو الإحسان، ألا يكتفي الإنسان بالمطلوب منه، بل يزيد عليه، وكلما زاد عطاؤه علت مرتبته عند ربه، وارتقى بإنسانيته، ومن هنا ارتقى الذين: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) -الحشر 9-، الإحسان في صورته العليا صفة ربّ العالمين فهو الذي: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) -السجدة 32- أحسن على عباده بالإيجاد، وأحسن عليهم بالإمداد، يقبل التوبة، ويغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويفرج الكروب، ودعا عباده إلى الإحسان ورغّبهم به فأعلن لهم أنّه يحبّ المحسنين من عباده (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) -البقرة 195-وجعل رحمته قريبة منهم (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) -الأعراف 56-.

وقد خلق الله الإنسان وزوّده بما يستطيع أن يمّيز به بين الحقّ والباطل، بين الخير والشرّ، وبما أنّ الخير درجات، وبعض الخير أعظم من بعض، والإسلام دين يسمو بالإنسان، ويرتقي به في مدارج الكمال الإنساني، لم يطلب منه أن يسعى نحو الخير، ويجدّ ويجتهد في السعي إليه فقط، وإنّما طلب منه أن يشحذ همته، ويجدّ سيره، متوجهاً نحو علياء الخير وذروته، فقال الله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً) – تبارك2 - فهناك عمل حسن، وهناك عمل أحسن، والإحسان في الأمور مطلوب بجميع صوره وأشكاله، إلى كلّ شيء، وعلى كلّ شيء، و في كلّ شيء، ولكن إحسان كلّ شيء بحسبه ،يقول صلى الله عليه وسلّم: (إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء) أخرجه مسلم :5028.


فمطلوب من المسلم أن يرتقي بإيمانه إلى المراقبة الدائمة، فيكون مع الله في سكناته وحركاته، في جلوته وخلوته، في سره وعلانيته، وحيث السمع لله، والبصر لله، والجوارح لله، فـ (الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك) -متفق عليه- ومطلوب منه أن يحسن في عبادته، فيخلص فيها كامل الإخلاص لله تعالى، ويؤديها في أعلى صور كمالها، ومطلوب منه أن يحسن في تصرفاته وعلاقاته الاجتماعية، فيحسن إلى أسرته: إلى والديه وزوجه وأولاده، فلا يكتفي بالقدر الواجب، بل يبالغ في البر والرحمة بهم، والعناية بشأنهم، ويحسن إلى أرحامه وأقربائه، فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويدفع الأذى عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

ثمّ ينطلق في إحسانه إلى جاره وزميله في العمل، فيصبر على أذاهم، ويبذل لهم من ماله ونفسه ما استطاع، ويخالقهم بأعلى الأخلاق وأرفعها. ثمّ تتوسع دائرة إحسانه لتشمل النّاس جميعاً، فيرتقي بعلاقاته الإنسانية إلى أعلى درجات السمو والكمال، ولا يتعامل مع النّاس انطلاقاً من مبدأ الربح والخسارة وإنّما يتعاملون معهم انطلاقاً من مبدأ الإيثار والبذل والتضحية. ثمّ تتوسع دائرة إحسانه لتشمل غير الإنسان من المخلوقات، فمطلوب من المؤمن أن يحسن للبهائم، فيرحمها ولا يرهقها أو يقسو عليها، حتى البهائم التي أباح الشرع قتلها يقتلها بإحسان، فلا يعذبّها، ولا يحرقها بالنّار، ولا يحبسها حتى تموت صبراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) أخرجه مسلم :5028 وقد أعلن النبيّ صلى الله عليه وسلّم لأصحابه أنّ الجنّة فتحت أبوابها لبغي سقت كلبًا فغفر الله لها.- أخرجه مسلم (5821) ثمّ تتوسع دائرة إحسانه أكثر لتشمل كل عمل يقوم به، فهو مطالب أن يحسن صنعته ويتقنها، فإن كان بائعاً أحسن في بيعه، وإن كان صاحب حرفة أتقن حرفته وزاد على الحدود الواجبة في صنعته.


وفي الختام هذا نموذج راق من مواقف المحسنين روى البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الرزاق قال: جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية إنّ الله عز وجل يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) (فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ) فقال لها: قد عفا الله عنك قالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (قال اذهبي فأنت حرة). (شعب الإيمان 7 / 88).

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع