راتب شعبو
تصدير المادة
المشاهدات : 2497
شـــــارك المادة
يتم التعامل مع الوضع في إدلب (في سورية) على أنه مجرّد معضلة عسكرية، ومشكلة إنسانية أساسها الخوف على مصير المدنيين من القتل والتهجير، بمعزلٍ عن المسارات السياسية التي أفضت إليه. المعضلة الإدلبية التي هي تكثيف عميق للمعضلة السورية اليوم (قوى إسلامية تفرض سيطرتها بالقوة، نظام سياسي "استعماري" مرهون لحماته الخارجيين، إرادة شعبية مقهورة أمام قوى الأمر الواقع، وقوى خارجية تحدّد مصير السوريين وفق مصالحها)، هي أثر متبقٍ من ثورةٍ تاهت، منذ سنوات طويلة، حين دخلت أروقة الدول، وتوسّمت خيراً في مؤسساتٍ دولية، وظيفتها وأد الثورات، وليس مناصرتها. والحق إنه ليس من السهل الجزم في الإجابة على السؤال الثقيل: هل تستطيع ثورة، في هذا العصر، أن تنتصر من دون مناصرة دولية، وبالتالي هل كان للثورة السورية (أو غيرها) ألا تتوه؟ في كل حال، ينتظر الأهالي في إدلب ما يتقرّر بشأنهم في القمم واللقاءات التي لا حضور سورياً فيها. لا تتوقف النتيجة المرجّحة في إدلب اليوم على قرار الفصائل العسكرية الإسلامية التي نمت على حساب الثورة، ثم انحسرت تحت الضغط العسكري، وتجمّعت هناك: إذا قبلت هذه الفصائل الاستسلام، سوف تدخل قوات النظام وحلفائه إدلب، على الضد من إرادة النسبة الغالبة من الأهالي، كما تدخل جيوش الاحتلال؟ وإذا رفضت الاستسلام، فإنها سوف تخوض معركةً، تبدو محسومةً سلفاً، على الرغم من التكاليف المتوقعة، والنتيجة الراجحة ستكون دخول قوات النظام وحلفائه، بعد مزيدٍ من القتل والتدمير، كما يدخل المحتلون؟ طغت سياسة الخارج بالكامل على سياسة الداخل السوري، والعنصر السياسي السوري الوحيد المأخوذ في حسبان سياسة الخارج (كل الخارج بما في ذلك الدول التي سمّت نفسها "صديقة الشعب السوري")، هو إرادة نظام الأسد في الاستمرار بأي ثمن. منذ سنوات، وضعت القوى الكبرى القطار السوري على سكّة نظام الأسد. ومنذ سنوات، تبدو مواقف الدول التي تزعم دعم الشعب السوري، مضطربةً، لأنها متناقضة داخلياً، بعد أن وضعت نفسها في موقفٍ يقول: ضد الأسد مع الأسد. هذا ما جعل القوى الحليفة للنظام أكثر فاعليةً وانسجاماً. الموقف التركي في قمة طهران، في السابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، مع الرئيسين الروسي والإيراني، بدا كمن يُمسك العصا من المنتصف. مع بقاء الأسد وضد استرداد إدلب، (ليس رفضاً لنظام الأسد، بل خشية على المدنيين، وخوفاً من موجات النزوح). فيما بدا الموقفان، الروسي والإيراني، منسجمين أكثر مع الحقيقتين المتوافق عليهما دولياً، وتركيا ضمناً، أقصد الإبقاء على نظام الأسد، ومحاربة الإرهاب (اعتبرت تركيا هيئة تحرير الشام تنظيماً إرهابياً قبل أيام من القمّة المذكورة، بسبب رفض هذا التنظيم الطلب التركي حلّ نفسه). لذلك مال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى الدعوة الأخلاقية، مستشهداً بالشاعر الفارسي المتصوّف، سعدي الشيرازي، وكانت النتيجة السياسية طلب هدنة، لم يوافق عليها حليفا نظام الأسد، وإن اعتبراها "فرصة أخيرة للمصالحات قبل المعركة"، (المصالحات تعني، بلغة نظام الأسد وحلفائه، الاستسلام والخضوع، ليس فقط بالمعنى السياسي، بل بالمعنى الحياتي العام، بكل ما ينطوي عليه ذلك من إذلال ومهانة وتحكّم حتى بحق الحياة). يبدو التشدّد الروسي الإيراني، وفق هذه الصورة، سلاحاً في يد تركيا، في سعيها إلى ترتيب الوضع في إدلب، لصالح النظام وحلفائه، من دون هجوم عسكري. تظاهر الأهالي في إدلب، ضد الهجوم العسكري المرتقب، إدلبيون وغيرهم من السوريين الذين سبق أن هُجّروا إلى المدينة من مناطق سورية أخرى كانت خارجة عن سيطرة نظام الأسد. لم يعد للمظاهرات كبير وزن اليوم، بعد غرق الوضع السوري في المستنقع العسكري، وبعد أن دخلت محاربة الإرهاب على صميم لوحته. وفوق ذلك، تبدو هذه المظاهرات قليلة التأثير، لأنها بقيت، في خطابها وشعاراتها، ضمن حدود الإطار السياسي المفروض على المناطق التي خرجت فيها المظاهرات، سواء من الناحية التركية، أو من ناحية الفصائل الإسلامية بما في ذلك هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة). لم نجد في تلك المظاهرات أي تحدٍّ لقوى الأمر الواقع المسيطرة في مناطقها، ما يشي بأن المظاهرات لا تعكس بحرية الميول السياسية للناس، بل تعكس الواجهة الشعبية للقوى المسيطرة، بما يشبه مسيرات النظام. إلى جانب ذلك، بلغ إنهاك المجتمع السوري حداً جعل السوريين في حدود دنيا من التضامن، فلم نجد من يتضامن مع أهالي المنطقة الشمالية في محنتهم، تماماً كما لم نجد تضامناً مع أهالي ريف حمص أو الغوطة الشرقية أو درعا الذين تعرّضوا للقصف، وجرى تهجيرهم عقب صفقات مفروضة أو هزائم عسكرية. ليس لأهالي إدلب، أو للأهالي الذين جرى تهجيرهم من قبل إليها، منطقةٌ يختارون اللجوء إليها، مفضلين ذلك على أن يبقوا تحت رحمة النظام "المنتصر"، كما فعل الأهالي في غير مكان من سورية. ليس لإدلب إدلب أخرى. يقترح علينا الواقع السوري اليوم، إذن، أن نشهد علاقة الرفض في تحولها إلى خضوع معلن. ولنا أن نتخيّل شكل العلاقة المنتظرة بين نظامٍ حكم يرى في المعارضة، أي معارضة، ما لا يقل عن "خيانة"، وبين أهال يرفضونه إلى حدٍّ تفضيل ترك بيوتهم وأرض أجدادهم وأرزاقهم على البقاء تحت سيطرته، ويجدون أنفسهم مرغمين الآن على قبوله، والسكوت أمامه قهراً. هذا المصير "الذليل والاحتلالي" المتصوّر هو في أساس قول المتظاهرين "الموت ولا المذلّة"، وفي أساس خروج المتظاهرين تحت عنوان "المقاومة خيارنا". إنهم يرفضون ما يتصوّرونه واقعاً قادماً، ويشيرون إلى الخيار الوحيد المتبقي أمام الناس إزاء قاهريهم وهو "المقاومة". قد تكون المقاومة، بكل أشكالها، سبيلاً ناجعاً لكسر شوكة هذا النمط من الأنظمة، وحتى لو افترضنا أن إدلب يمكن أن تشكّل بدايةً لمقاومةٍ دعت إليها المظاهرات الأخيرة، فلا يبدو أنها مرشّحة لوصل ما انقطع، في لحظةٍ ما، من سياق الثورة السورية، أقصد الربط بين المقاومة والتحرّر، أن تكون المقاومة وسيلةً للتحرّر، وليس لاستبدال السلطات، بكلام آخر، أن تكون مقاومة وطنية وليست إسلامية، أو على الأقل ليست على الصورة الإسلامية التي عرضتها كل التنظيمات الإسلامية حتى الآن. من الراجح أن تختار القوى الإسلامية في إدلب المواجهة المفتوحة مع قوات النظام وحلفائه. وسيكون هذا، في ضوء التوازنات العسكرية والسياسية المتوضعة اليوم، خياراً سيئاً لأنه يفتقد إلى عناصر النجاح أولاً، ولأنه ينطوي على تبعاتٍ كارثيةٍ على السكّان ثانياً. أما إذا أفلحت تركيا في إقناع هذه القوى بعدم خوض معركة، باتت فاقدةً، إلى حد كبير، المعنى السياسي السوري، فسوف نغدو عندها أمام حساباتٍ أخرى، أقلّ مأساوية.
غازي دحمان
أنور مالك
سعد الكودري
مهنا الحبيل
المصادر: العربي الجديد
العربي الجديد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة