عبد الجواد حمام
تصدير المادة
المشاهدات : 2341
شـــــارك المادة
بعد أن أُسدِلَ الستار على الانتخابات التركية الأخيرة، وما حملته في طيَّاتها من معانٍ ودلالات، وما صاحبها من شدٍّ واحتدامٍ، ثم ما أسفرت عنه من فوز مريح للمشروع التركي الناهض بقيادة حزب العدالة والتنمية وزعيمه المميز رجب طيب أردوغان، فإن مما يلفت النظر أن بعض المثقفين والمفكرين الإسلاميين من المتابعين للشأن العام أكثرَ ما استجلاه من هذه الجولة الانتخابية هو تبجيل الديمقراطية، والإغراق في التغنِّي بها، والتأكيد على أنها الحلُّ الناجع والشفاء النافع لكل داءٍ من أَدواءِ الأمة التي تعيشها، وأنها المخرج من كل سوء.
ولست هنا بصدد تحليل المقصود بالديمقراطية أو بيان مفهومها وفلسفتها وخلفياتها، ولا بصدد الدخول في سجالات ما بين نابذٍ لها وصادٍّ عنها، وبين مفتتنٍ بهواها ومُتَيمٍ بمحاسنها. ولكني بصدد تحليل تلك النظرة القاصرة والتنبيه عليها، فهي أشبه ما تكون بمن وقف أمام لوحة رائعة بديعة أجمع الناس على تميزها، فغاص هائماً في جمال إطارها المحيط بها، وأغرق مدحاً وثناءً عليه، وأفرغ جهده في التغني بحسن تصميمه وصنعته، واقتصر على ذلك فلا تراه وقف عند أصل اللوحة وجوهرها، ولا تذوق ما فيها من جمال أو أسرار أبدعتها ريشة مُتقِنَة فريدة حتى بلغت تلك اللوحة ما بلغت.
إن الذي جرى في تركيا ليس هو انتصار الديمقراطية في حقيقة الأمر، ولكن انتصار المشروع، المشروع الأصيل الذي تمسَّك بهوية الأمة ووقَّر ماضيها وتراثها، وانطلق إلى ميادين الحياة المعاصرة، ليربط القديم بالجديد، ويصلح بين الماضي والحاضر، ويقدم النموذج الأنسب والأكمل لنهضةٍ دنيويةٍ فذَّة ذات أصول أخلاقية وإيمانية ودينية واضحة، لا ينكرها إلا من رانت على بصره غشاوة أو قبع خلف نظارة سوداء في وقت السَّحَر!
إنه انتصار المشروع الحقيقي الذي وجد في نفوس الناس تعطشاً وحاجة، وهذا المشروع هو من يَستحق الثناء والمديح، ويَستحق أن يَتَداعى عليه العقلاء ليتدارسوه ويحللوه، ويأخذوا منه العبر والدروس في أدق تفاصيله ومراحل تجربته الطويلة؛ بل أن يدرسوا أيضاً بعض جوانب الخلل فيه لتُستَدْرك وتُقوَّم، فيزداد المشروع قوَّةً إلى قوَّتِه، ويكتمل نضجاً ورشداً على هو عليه اليوم.
أما الديمقراطية فهي في الواقع الأداة والوسيلة، وهي أداة صمَّاء ووسيلة مصمتة إن قُصِدَ منها حرية الانتخاب والاختيار للحاكم، وليست بمحلٍ لمدح أو ذمٍّ إلا من حيث إنها وسيلة وأداة، فهي إن أوصلت مشروعاً حضاريّاً طيِّباً تعلَّقت به القلوب والعيون، فقد أوصلت في أماكن أخرى وأزمان أخرى ما هو خلاف ذلك، بل على نقيضه والتضاد معه.
فقد أوصلت الديمقراطية هتلر وغيره إلى سدة الحكم فكان حكمهم وبالاً، ورفعت أخيرا ترمب على عرش أقوى دول العالم، فجعل يتلاعب بالعالم كله (حلفائه وخصومه على السواء) صباحَ مساءَ، فلا يستطيع أحد أن يفهم لهم استراتيجية ولا خطًّا واضحاً ينهجه.
وكذلك من الأمثلة المعاصرة القريبة جداً الحالة الماليزية، حيث أفرزت الديمقراطية حاكماً فاسداً حصَّل الأصوات اللازمة للحكم، ثم شرع يفرغ في جيوبه ما زرعته تلك النهضة الناشئة في سنواتها السابقة، حتى قُدِّرَ له أن يسقط بعودة الكاريزما المؤسِّسة، صاحبة المشروع الحقيقي محل الثقة والنظرة والفكر الحضاري البنَّاء.
ربما سيبادر بعضُ من يَقرأ هذا الكلام إلى الزَّجِّ بي في خانة العداء للديمقراطية، وتصنيفي من محبِّي الاستبداد والطغاة، والمسبحين بحمد الشمولية والديكتاتورية، فإن وصل قارئٌ إلى هذا حقّاً فإني أقول له: حنانيك حنانيك، ومهلك مهلك، فلستُ كذلك قط.
لا شكَّ أن أكبر مشكلة تواجه البلاد العاثرة والمتخلِّفة هو غرقها في أَتُّونِ الاستبداد، وانعدام الحرية الفردية والجماعية، وموت الحركة الطبيعية للجماعة الإنسانية فيها مع غياب مؤسسات المجتمع الأهلي، كل هذا بسبب عجز الناس عن قول كلمتهم بحرية، وعجزهم عن اختيار الأكفأ والأجدر ليتولى دفَّة القيادة.
ولا شك - والحالة هذه - أن أول شرط النهوض وضرورات المرحلة هو توفر الحرية والقدرة على اختيار الحاكم المصلح الكفء، هذا أساس وضرورة لا يختلف فيها عاقلان، ولا يتمارى فيها ذوا لبٍّ، لكنَّ السؤال المهمَّ الذي هو بيتُ القصيد مما أرمي إليه ومما توحيه المناسبة: ثم ماذا؟ فأن تكون حريةُ الإنسان في الاختيار والانتخاب ضرورةَ المرحلة، لا إشكال فيه البتة، بل هذا هو الأصل، وهو أبسط حقوقه المدنية والدينية والإنسانية، لكن أن تغدو تلك الضرورة غايةً، وأن تصبح النهايةَ التي يشدوا إليها المفكرون والمنظِّرون والنخبة! فهذا هو القصور، وأيما قصور، وأن يعكف بعض الإسلاميين على التغنِّي بالديمقراطية، وبالديمقراطية فقط؛ فهذا – في نظري– ضرب من ضعف النظر غريب، ولون من عمى الألوان عجيب.
إننا إزاء هؤلاء كمن بلغ به العطشُ مبلغَه، وأخذَ منه كلَّ مأخذ، ثم أتيح له بعد جهد جهيد ماءٌ عذبٌ صافٍ من صُنبور لطيفِ المنظرِ جميلِ الشكلِ، فما أن شَرِب وارتوى حتى ارتدَّ على الصنبور مادحاً وشاكراً، وفي محاسنه وخصائصه هائماً مُتغنِّياً، باذلاً له من أنواع الشكر والامتنان ما غيرُه أحقُّ به منه، وهو ذلك الماء الصافي الذي رواه بعذوبته ونقاوته وبرودته، والذي أطفأ منه عطشاً قاتلاً، وظمأ مُشْفياً.
صحيح أن الصُّنبور هو الأداة، وهو المسلك الذي نفذ منه الماء حتى وصله ورواه، لكنَّ الأداةَ هي الأداة، والوسيلة تبقى وسيلة ولا تنقلب غاية عند العقلاء، فالماء كان يمكن أن يصل ذلك الظامئ من نهر أو نبع أو سماء أو غيرها.. وكون الناس اصطلحوا على الصنابير مناهلَ للمياه، وارتضوها وسيلةً سهلة مريحة، وخادمة ميسرة، فلا حرج ولا ضير، ولكن ما نفعها إن فُقِدَ الماءُ الصافي، أو عَدِمَ الماءُ عذوبتَه ونقاوتَه فصار أُجاجاً؟
ولا يفوتني أخيراً أن أقف عند من يقول رادّاً ومُمتَعِضاً: إن مَن انتصروا في الجولات الانتخابية - وهم أصحاب المشروع - هم أنفسهم يصرِّحون بأن الديمقراطية هي التي انتصرت؟ وأقول: شتَّان بين الصِّنفين، وفرق كبير بين الحالين، فهؤلاء فاعلون سياسيون، منفذون على أرض الواقع ومباشرون، وهم من يتلقى الصدمات ويعالج الأزمات اليومية والمشكلات العويصة، ومن أهم مكتسبات نجاحهم حقيقةً هو التمكين الحر للناس والمحافظة على ذلك، فحُقَّ لهم أن يفتخروا بهذا، وأن يعدوه من أكبر إنجازاتهم، لكن ما قيمة هذا إن فشل المشروع وتولَّى السُّدةَ من ليس بكفء، أفسنشكر الديمقراطية عندها مرة ثانية، ونقول للناس: إنها انتصرت فتحملوا فكل ما تأتي به هو الخير؟
وأما الصِّنف الذي نتكلم عنه هو صنف المفكرين والنخبويين، الذين ننتظر منهم - وتنتظر الأمة - أن لا يقفوا عند الأدوات والوسائل، وأن لا يقتصروا على ضرورات المراحل، وألا تشغلهم الأزمات العابرة، فهذا ليس عملهم بل عمل السياسيين المنخرطين مباشرة من الصنف الأول، وإنما دورهم المنشود أن ينفذوا إلى معالم المشروع الواعد، وأن يرسموا لنا ملامح طريق النهضة المرجوة، التي ترفع الناس من بؤس الواقع وظلمته، وتأخذ بهم إلى النجاح والحضارة، وتبوِّئهم مكانتهم اللائقة بهم كمسلمين بين الأمم.
إبراهيم حميدي
محمد إلهامي
ماجد كيالي
عمار البرادعي
المصادر: مدونات الجزيرة
مدونات الجزيرة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة