عيسى الشعيبي
تصدير المادة
المشاهدات : 2262
شـــــارك المادة
لم تمر أيام صعبة ومحرجة على التدخل الإيراني في سورية، المتوطد منذ نحو ست سنواتٍ حافلةٍ بالإنجازات والمكتسبات المتفرقة، كمثل هذه الأيام المتدحرجة من سيئ إلى أسوأ، بالنسبة لحاضر ذلك الوجود ومستقبله، وهو الذي بدا حتى الأمس القريب وجوداً راسخاً، عميقاً وطويل المدى، بل وغير قابل للاحتواء، بعد أن استثمرت فيه الجمهورية الإسلامية كثيراً من الأموال والدماء والدهاء، وكرّست عبره حضوراً إقليمياً طاغياً لا يشقّ له غبار، وجعلت منه الحلقة المركزية الصلبة في حضورها الإمبراطوري الممتد من بلاد فارس إلى شواطئ لبنان. تضافرت، في شهر مايو/ أيار المنصرم، جملة طويلة من العوامل والمتغيرات المثيرة للانتباه، بدأت في التاسع منه، حين استدرجت إسرائيل رد فعل إيرانيا، ضعيفا ومحدودا على الغارة التي كان قد شنّها سلاح الجو الإسرائيلي على مطار "تي فور"، حيث القاعدة الإيرانية الأكثر أهمية. ومع أن الفعل الإسرائيلي المبيت جاء واسعاً ومؤلماً، شمل نحو خمسين هدفاً ثميناً، إلا أن رد فعل طهران كان صغيراً بكل مقاييس الوعيد والتهديد المعهودة من نظام الملالي، ومثيراً لخيبة الأمل من المفعمين بالخطاب الرائج حول محو الكيان الصهيوني من الخريطة في غضون ست دقائق ونصف الدقيقة، قائلين، في قرارة أنفسهم؛ أهكذا يكون الانتقام؟ قبل يوم من تلك الضربة التي مثلت نقطة تحول في مسار المواجهة الإسرائيلية الإيرانية، الجارية حتى ذلك الوقت على نار هادئة، كان رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في موسكو لحضور احتفالات روسيا بالنصر في الحرب العالمية الثانية. وقبل يومين فقط، كان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يعلن انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران. وفيما لم تعرف نتائج زيارة نتنياهو على الفور، كان الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مدعاة ابتهاج إسرائيلي منقطع النظير، وهو ابتهاج ترجم نفسه على أرض الواقع في تلك الضربة الشاملة التي افتتحت زمناً جديداً، أكثر حدةً، وأوسع مدى من ذي قبل، في مدار المواجهة غير المباشرة، الدائرة بين القوتين المتبارزتين على الأرض وفي السماء السوريتين. لم يمض سوى وقت ضئيل للغاية، حتى تبين أن تغيراً ما قد طرأ على الديناميات الإقليمية المتفاعلة تحت غلالةٍ رقيقة، فبعد أسبوع من زيارة نتنياهو تلك، كان بشار الأسد في موسكو يصدع لرغبة روسية معلنة على رؤوس الأشهاد، بضرورة انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي السورية. وفي تلك الأثناء، كان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، يعلن بنود استراتيجية بلاده إزاء إيران، ومنها شرط انسحاب إيران من سورية، الأمر الذي شد من أزر إسرائيل، ومنحها أكثر من ضوء أخضر واحد، لمواصلة عمل دؤوب طويل المدى، لإخراج إيران من نقطة ارتكاز مشروعها التوسعي شرق البحر المتوسط. منذ ذلك الوقت، وهو وقت قصير جداً، يمكن ملاحظة عدة متغيرات متصلة جميعها بإيران حصراً، أولها اختفاء التهديد الذي درجت عليه طهران بالانتقام، في كل مرة كانت تتعرّض فيها لضربة إسرائيلية، وثانيها صمت آيات الله وتجاهلهم هذه الضربات الموجعة والمتصاعدة، امتثالاً لمقولة و"إذا بليتم فاستتروا". أما ثالثها فقد تمثل في انكشاف إيران المروع أكثر من أي وقت مضى، أمام سلسلةٍ لا نهاية لها من غارات الطائرات الإسرائيلية، بما في ذلك طائرات الشبح إف 35، زد على ذلك جسارة إسرائيلية متزايدة على إيران، وثقة بالنفس لا سابق لها، وصفتها صحيفة هاآرتس بأنها تبجح، أو كمن يضع إصبعه في عين عدوه. في ظل مثل هذه الأجواء المواتية لممارسة أشد تجليات العدوانية الفظّة، وإبراز سائر مظاهر الغطرسة التقليدية، بدأت إسرائيل ما يشبه حرب استنزاف للوجود الإيراني في سورية، وتخلت عما تعرف باسم سياسة الغموض البناء المتبعة، وبالغت كثيراً في ضغوطها السياسية والحربية، وأمعنت في الاستقواء على بلدٍ لا سلاح جوي له يعتد به، حيث راحت تغير على نحو شبه يومي (كل 36 ساعة تقريباً) على مختلف الأصول والممتلكات الإيرانية، وتطلب انسحاب كامل القوات الإيرانية من جميع الأراضي السورية، مستغلة ازياد الهوة بين موسكو وطهران من جهةٍ أولى، وتعاظم الضغط الأميركي على ما يسميه ترامب الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم من جهة ثانية. وعلى نحوٍ متناغم إلى أقصى الحدود، مع السياسة الأميركية الهجومية المعلنة تجاه إيران، راحت واشنطن تهدّد، فيما أخذت تل أبيب تنفذ وتقتص من هذا الوجود الذي بات خروجه من سورية أقرب ما يكون إلى مطلب روسي أميركي إقليمي عربي مشترك، وهو ما أحدث وضعاً وجدت فيه إيران نفسها أمام جحيم فُتح عليها من السماء، لا رادّ له، يستنزفها على طول الخط، ويقوّض كل منشأة أو قاعدة عسكرية معروفة لها في الجغرافيا السورية، ويجعلها في وضعٍ شبه مستحيل، بين تحمّل هذا العذاب إلى أجل غير معلوم وتجرّع كأس السم مرة أخرى، على غرار ذلك الكأس الذي تجرّعه آية الله الخميني عام 1988 في نهاية سنوات الحرب الطويلة مع العراق. قد يكون من المبكر استنتاج أن إيران ستُرغم، في المدى المنظور، على المفاضلة بين هذين الإكراهين المريرين، تحمّل خسائر بشرية ومادية ثمينة من دون طائل، أو الانسحاب من سورية، هكذا من غير حصةٍ عادلةٍ من الكعكة السورية المسمومة، لا سيما أن كلا البديلين يعني نهايةً مدويةً لمشروعها التوسعي في المنطقة العربية، ويؤكد لكل من كان لديهم الشك في أن إيران مجرد نمر من ورق، هي بالفعل ظاهرة صوتية، استمدت عناصر قوتها من مظاهر ضعف المحيط المجاور، ناهيك عن استثمارها الناجح لما سمّته مظلومية وكلائها الشيعة العرب هنا وهنالك، غير أن عامل الزمن سيتولى وحده إرغام الدولة التي تعذّب نفسها بنفسها الآن، (تنكر ذلك وتهوّن منه وتعتّم عليه) على طي صفحة هذه المغامرة المكلفة التي أخذت شمسها تميل إلى الغروب، تحت ضغط تحولاتٍ كبرى، لم تخطر على بال أحد من قبل. ولعل نقطة الانعطاف الحاسمة في المسار الإيراني المتدحرج من درك إلى درك أسفل لن تتأخر طويلاً، وقد تحدث في أي لحظة، وذلك على ضوء متغيرين رئيسين محتملين في المدى القريب؛ أولهما الانفجار المحتمل في العلاقة مع روسيا، وظهور ذلك إلى العلن بصورة سافرة، تحت ضغط شعور إيراني ثقيل بالخديعة، إن لم نقل الخيانة، من جانب الدولة الكبرى الحليفة حتى الأمس القريب، خصوصاً مع كل هذا التماثل الروسي الإسرائيلي حد التطابق، إزاء الوجود العسكري الإيراني المستهدف قياماً وقعوداً، من دون أي تحفظ، أو ربما تشجيع، من الشريك في معركةٍ طويلةٍ لم تضع أوزارها بعد، وثانيهما تقدّم العقوبات "التي لا مثيل لها في التاريخ" المقدّر لها أن تثقل على أيدي نظام الملالي أكثر من أي وقت مضى، وتجعل من قدرته على الاستمرار في المكابرة والعناد والمراوحة عمليةً مكلفةً، ولا فائدة منها. وهكذا يتضح لكل ذي لب أن إسرائيل، المسنودة بموقف روسي مباغت، وآخر أميركي متعمق، صنعت لنفسها هذه الفرصة النادرة، وحققت لذاتها هذا الاختراق غير المسبوق في جدار ما ظلت تزعم أنه خطر مصيري، يهدّد وجودها من أساسه، وذلك بعد أن استغلت التحولات الأشمل في ميزان القوى الدولية بشأن سورية، هذه التحولات التي لم تتقاطع أبداً إلا عند المصلحة الاستراتيجية للدولة المتحفزة لحصد الجوائز بالجملة، حيث نسّقت تل أبيب التناغم بينها وبين روسيا، ليصبّ في صالح الخطة الأميركية الرامية إلى طرد إيران من محور اتكائها الأساسي في المشرق العربي، ووظفت عناصر التفوق الجوي لديها على نحوٍ امتلكت فيه زمام المبادرة بالكامل، الأمر الذي مكّنها من الاستقواء على إيران، حشرها في الزاوية، وجعل كل خياراتها في سورية شبه مستحيلة.
زياد الشامي
هشام ملحم
مهنا الحبيل
أفق أولوطاش
المصادر: العربي الجديد
العربي الجديد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة