..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


اضاءات

يوم نجى الله فيه موسى

أمير سعيد

٢٩ سبتمبر ٢٠١٧ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3709

يوم نجى الله فيه موسى
minhajcanal.jpg

شـــــارك المادة

أن ينهزم جيش يمثل إحدى القوى العظمى في ذلك الزمان أمام فئة قليلة عزلاء من السلاح والعتاد، فرت بدينها وعقيدها من بطش طاغية؛ فتلك معجزة.

وأن تتحقق الهزيمة والجيش الظالم مقبل، والفئة المؤمنة توليه ظهرها، فتلك معجزة أخرى.

وأن يفنى الجيش عن بكرة أبيه؛ فتلك معجزة قاصمة..

وأن يغرق الجيش بعد أن ينصب له البحر فخاً؛ فتلك رابعة..

أن تتوقف قوانين الأرض المادية فيصير الماء مثل جبل صلب، ويتشقق فيمر المؤمنون من بين شقيه، فتلك معجزة كبرى منّ الله بها على المؤمنين يتقدمهم نبي من أولي العزم، موسى عليه السلام.

يوم عاشوراء، يوم النجاة، طور آخر من أطوار الانتصار التي لم تعرف البشرية له مثيلاً، حقيق بأن يحظى بعناية خاصة من المؤمنين.. المؤمنين على مر العصور، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم ، فصامه موسى ، قال : فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه " رواه البخاري، وفي رواية له أيضا " ونحن نصومه تعظيما له " وزاد مسلم في روايته " شكرا لله تعالى فنحن نصومه " ورواه الإمام أحمد بزيادة : " وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا ".

إن هذه أمتنا، أمة واحدة، ممتدة الجذور، متحدة بعقيدتها، متفردة بمنهجها؛ فما امتن الله به على نبييه نوح وموسى عليهما السلام والمؤمنين معهما جدير بأن نوليه نحن الآن احتفاء شكر وعرفان، وشكرنا – كما شكرهم – صوم واحتساب.

اليوم عظيم بلا مراء؛ فالنجاة حصلت فيه أكثر من مرة، وقد كانت دون تصور أي عقل بشري، إذ كيف يتصور بشر أن نبياً كذبه قومه لمئات السنين، يبني سفينته في الصحراء، بعيداً عن البحار ستحقق له هذه المعجزة الخارقة العظيمة، تغرق الأرض، كل الأرض، من أجله هو والضعفاء معه من المؤمنين؟!

وكيف يتسنى لإنسان أن يفكر بأن مستضعفين خائفين كالمؤمنين مع موسى عليه السلام، سيستعملهم الله بأنفسهم ليكونوا أداة لانفلاق البحر لهم من بعد عصا نبيهم.. {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم} ؟!

إنهما معجزتان عظيمتان، أغرق الله فيهما الكافرين، ونجى المؤمنين المستضعفين، ولو ما كانا لما كنا، ولما كانت بنو إسرائيل، يقول الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون }، "عدى فعل أنجينا إلى ضمير المخاطبين مع أن التنجية إنما كانت تنجية أسلافهم لأن تنجية أسلافهم تنجية للخلف فإنه لو بقي أسلافهم في عذاب فرعون لكان ذلك لاحقا لأخلافهم فلذلك كانت منة التنجية منتين : منة على السلف ومنة على الخلف فوجب شكرها على كل جيل منهم ولذلك أوجبت عليهم شريعتهم الاحتفال بما يقابل أيام النعمة عليهم من أيام كل سنة وهي أعيادهم وقد قال الله لموسى وذكرهم بأيام الله".. وكذا نجده في تنجية المؤمنين مع نوح عليه السلام، فلو كان الله أهلكهم لما كان على وجه الأرض من أحد.

يوم النجاة هذا لم يكن حرباً بين جيشين، ولا توافرت فيه أي أسباب مادية للنجاة، سوى توكل على الله، وإخلاص له سبحانه وتعالى، ودعوات صالحات استجيبت من فوق سبعة أرقعة.. { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } وسير في طريق الله بلا تردد ولا تراجع، وانقيادٍ بلا مماحلة أو ارتياب.. { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين }.. فكانت النجاة، وكانت المنة على خلف هؤلاء السلف.

والنجاة حينئذ كانت شاملة، نجاة من سوم العذاب، ومن تقتيل الأبناء، واستحياء النساء في الخدمة وغيرها، من إذلال، ثم ملاحقة، ومنع من مجرد حق السفر ومفارقة فرعون وقومه؛ فلقد كان من طغيان فرعون وآله أن عمد إلى منع بني إسرائيل من مجرد مفارقته والنجاة من إذلاله واستعباده لهم.. كان يمنعهم من السفر ويذلهم ثم يمن عليهم بهذا الاستعباد { وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل } ، ثم لما حاولوا الفرار من قهره واستعباده لهم وطغيانه، لاحقهم، ومن فرط كبره وغروره، تابعهم بجيشه حتى داخل البحر! ولقد كانت نجاتهم ليست من فرعون وحده، بل من آله وخاصته وتابعيه كلهم؛ فكلهم شاركوه الجريمة النكراء، بل زادوا عليه أحياناً، يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: "وإنما جعلت النجاة من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقا للفعل بمن هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيها على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم أقل رحمة وأضيق نفوسا من ولاة الأمور".

نعم، ذكر الله سبحانه فرعون في غير آية، لكنه في سورة البقرة ذكر آله، الذين تابعوه، وهم القبط، توكيداً على تشارك هؤلاء معه في جريمة الاستعباد والإذلال؛ فلقد أطاعوه في الجريمة، واستمرؤوا عبادته والخضوع له حتى النهاية، حتى إن المرء ليحار طويلاً، عند النظر إلى أولئك الذين شاهدوا المعجزة بأم أعينهم، وليس في معركة فرعون مع موسى وقومه ناقة ولا جمل ثم يستمرون ويخوضون بين طودين من الماء، حتى إنهم حين ترددوا – كما نكس أتباع النمرود حين كسر إبراهيم أصنامهم ثم عادوا من فورهم لغيهم – عاجلهم فرعون بحجة هزيلة لا تنطلي إلا على العبيد الذين يستخفهم الطاغية فيطيعون مثل جند فرعون، يقول البغوي: "ذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقا قال لقومه انظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا.. ادخلوا البحر"، فدخلوه خانعين خلف المؤمنين.

ويعلق على ذلك محمد بن يوسف الأندلسي في تفسيره الكبير، البحر المحيط، بقوله: "ولم يذكر فرعون فيمن غرق ; لأن وجوده معهم مستقر ، فاكتفى بذكر الآل هنا ; لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه ، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب ، وذبحهم أبناءهم ، واستحيائهم نساءهم ، فناسب هذا إفرادهم بالغرق".

ولقد كانت المعجزة ظاهرة، باهرة، كانت لتجعل كل مؤمن هياب من جنود فرعون وبطشهم، والبحر أمامه، ولا نجاة منظورة، مأخوذاً إلى تلك المعجزة بقلبه وعقله وجوارحه؛ فطاغية كمثل فرعون، قيل إنه قد جلس على عرشه أكثر من أربعة قرون (على ما في هذا القول من مبالغة لا تخلو من أصل وهو طول فترة حكمه)، من الظلم والاستعباد والضيم لهم؛ ويخرج مزهواً متكبراً متطلعاً لمقام سماوي ليس له، { يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا }!، فيركسه الله تحت سطح البحر غريقاً، ثم يخرجه مفضوحاً، عبرة عبر القرون.

كل هذا الصلف والكبر والطغيان، رآه المؤمنون زائلاً في لحظة واحدة، لم تستغرق طويلاً، يقول محمد بن يوسف الأندلسي: "هذه الخوارق العظيمة من فرق البحر بكم ، وإنجائكم من الغرق ومن أعدائكم ، وإهلاك أعدائكم بالغرق ، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه ، لم يصل ذلك إليكم بنقل ، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبي الذي جاءكم"، يقول محمد رشيد رضا في المنار " { وأنتم تنظرون } ذلك بأعينكم ، لولاه لعظم عليكم خبر غرقهم ولم تصدقوه"، وتلك منة أخرى تستحق شكراً أيضاً؛ فالهلاك حصل عياناً أمامهم وهم "ينظرون"، وفي أشد درجات الإحساس بالخوف؛ فلم يكن فرعون ليمزح معهم لو أدركهم، وها هم قد رأوا من جبروته وطغيانه أن قطع أيدي وأرجل السحرة حين آمنوا، فماذا كان ليفعل لو ظفر بهم؟!

فعلى قدر ما لاقته بنو إسرائيل من ظلم من فرعون وآله، كان الشكر متعيناً، إذ لابد أن تكون هذه الصورة ماثلة أمام الأعين والأذهان، ليس لهم وحدهم حال إيمانهم، بل أمام كل مؤمن يعاين شدة وابتلاءً، يقول بعض أهل التفسير: "إن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة. وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ.

والألم لا يذهب ضياعاً إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته.."

إن المبلغ الذي وصله فرعون في طغيانه كان مرعباً، والنجاة التي منّ الله بها على عباده المؤمنين، كانت – كما تقدم – شاملة؛ إذ لم يكن أذاه جسدياً فقط، على شدة ما لاقته بنو إسرائيل في هذا الصعيد وحده، بل أمطر المؤمنين دوماً بوابل من شائعات وأكاذيب، فلقد زعم فرعون أن موسى عليه السلام جاء ليخرج القبط من أرضهم، وأن دعوته إنما هي للإفساد في الأرض! والحق أن مطلب موسى عليه السلام هو تخلية فرعون بين بني إسرائيل وإرادتهم في الحرية والانعتاق، وهجرتهم من أرض مصر.

لم يكذب موسى في هذا، وحاشاه، وحين أهلك الله فرعون وجنوده تجلت صدق هذه الدعوة؛ فأكمل موسى وقومه طريق هجرتهم، وتركوا فرعون وجنده خلفهم غرقى، ونضبت من بعدهم مستنقعات الشائعات وإعلامها الفاجر.

استكثر فرعون عليهم مجرد "حرية التنقل" من بعد العبادة، ومن بعد أن جاءته جملة من المعجزات، التي كان لأقلها أن تحرك الصخر، لولا أن تلك القلوب التي قدت من حجارة تبقى عاجزة عن استبصار نور الشمس؛ فأذله الله، وأنجى المؤمنين.. وكان شكر هذا مندوباً إليه؛ فكيف لا يكون، ونحن أمة واحدة ممتدة الجذور، مؤتلفة الجذوع؟ نحن أولى حقاً بموسى عليه السلام من قومه الذين كفروا وبدلوا من بعده، ونحن مدعوون لشكر وعرفان على نجاة موسى عليه السلام، ومن قبله نوح عليه السلام في معجزة تعد علامة فارقة في حياة البشر، كل البشر، وهي تستحق حديثاً مطولاً هي الأخرى مع أنها لم يذكر حدوثها في يوم عاشوراء إلا برواية أحمد، وعن هذا يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: "وكأن ذكر موسى دون غيره هنا لمشاركته لنوح في النجاة وغرق أعدائهما"..

بأي حال، فإن امتداد هذه الأمة وارتباط أولها بآخرها، وتذكير شريعتنا دوماً بهذا، لهو أمارة واضحة على صحة منهجها وأصالته وقوته؛ حيث ترتبط عبادات صوم بشكر نعمة فداء إسماعيل عليه السلام واستسلام النبيين الكريمين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في يوم النحر لأمر ربهما، وكذا ما قيل في يوم عرفة، وما ذكر في يوم عاشوراء..

"أنا أحق بموسى منكم".. "ونحن نصومه تعظيما له"، إنه لولا نجاة قوم موسى، لما بقي لبني إسرائيل قائمة ولا حياة، ولا لاقى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة يهودياً واحداً، لكنهم حيث بدلوا دينهم ؛ فلا اعتبار بالقومية ولا بالوراثة؛ فنحن، يتقدمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أولى بموسى عليه السلام وبمن معه.. هكذا العقيدة تسبق كل الوشائج والصلات.. هكذا نحن لا نصوم يوم ميلاد نبينا، ولا يوم هجرته، ولا نحيي ليلة إسرائه ومعراجه؛ إذ إن ديننا ونبينا لم يأمرانا بهذا، وإنما ندبا إلينا صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء، وكان فداء إسماعيل واستسلامه وأبيه إبراهيم عليهما السلام عيد لنا.

بعمق هذا التاريخ، وقبله، يمتد ديننا، وترتبط أوصالنا.. يترك نوح عليه السلام ابنه ولا يسأل عنه من بعد ما تبين له أنه ليس من أهله، لكن يبقى للنبي الصابر نوح عليه السلام أهلاً يشكرون الله على نجاته واستقرار سفينته على الجودي حتى الآن، وإلى ما شاء الله للمؤمنين أن يحيوا.

هذا ولاؤنا، وذاك براؤنا من الكافرين حتى كان رسولنا الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على مخالفة اليهود حتى وهو يصوم يوماً يصومونه، فانتدب لنا صيام تاسوعاء وحادي العشر.. هذا يوم شكر وامتنان وعرفان بمعية الله، وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على مخالفة اليهود ولو توافقت عبادتنا معهم، كانت طائفة ضالة لا تفتأ تسعى لمخالفة المسلمين في كل عبادة وطاعة؛ فاختاروا ليوم عاشوراء لطماً عويلاً بدلاً من أن يكون – كما ارتضاه رسولنا صلى الله عليه وسلم – يوم شكر وتعظيم وامتنان!

هذا يوم شكرنا أن نجى الله موسى ونوحاً عليهما السلام، وهو كما ترون عظيماً جليلاً نبيلاً.. انظروا بعيداً حيث يحتفل الأمريكيون بـ"عيد الشكر"، يوم سلخوا فروة كل هندي هزموه في معركتهم لنهب بلادهم وسرقة أراضيهم.. هذا يوم نبل وإيمان.. وذاك يوم خسة ووحشية وعدوان..

هذا ديننا فارفعوا به رؤوسكم واستعلوا بإيمانكم على كل ما عداكم من أهل الكفر والابتداع.

المصدر: موقع المسلم

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع