..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


اضاءات

في ظلال قوله تعالى "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"

سيد قطب

١٠ سبتمبر ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 7274

 في ظلال قوله تعالى
(2).jpg

شـــــارك المادة

قال الشهيد سيد قطب -نحسبه والله حسيبه- في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ).
"إنّ محمداً ليس إلا رسولاً. سبقته الرسل. وقد مات الرسل. ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله..
هذه حقيقة أولية بسيطة. فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة؟!

 


إنّ محمداً رسولٌ من عند الله، جاء ليبلّغ كلمة الله. والله باقٍ لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتدّ المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل..
وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول. وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة!
إنّ البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقلٌ في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ..
والمسلم الذي يحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً. الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة. وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم، وبكل مشاعرهم، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره- صلى الله عليه وسلم-.. هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرّق بين شخص محمد- صلى الله عليه وسلم- والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.

إنّ الدعوة أقدم من الداعية:
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ..
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، العميقة في منابت التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق.
وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية. فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق- سبحانه- يتوجه إليه المؤمنون..
وما يجوز أن ينقلب أحدٌ منهم على عقبيه، ويرتدّ عن هدى الله. والله حي لا يموت..
ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المنير:
(أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)..
وفي التعبير تصوير حيٌّ للارتداد:

(انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).. (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ).

فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسّم معنى الارتداد عن هذه العقيدة، كأنه منظر مشهود، والمقصود أصلاً ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة، ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف: إنّ محمداً قد قتل، فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين، وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين، وانتهى أمر الجهاد للمشركين!

فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا، فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب، كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس- رضي الله عنه- فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم، وقالوا له: إنّ محمداً قد مات: «فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم».

(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) ..
فإنما هو الخاسر، الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق.. وانقلابه لن يضر الله شيئاً. فالله غني عن الناس وعن إيمانهم. ولكنه- رحمة منه بالعباد- شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم، ولخيرهم هم. وما يتنكّبه متنكّبٌ حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله. وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق، وتعوجّ الأمور كلها، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة، وتستقيم في ظله النفوس، وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها، والسلام مع الكون الذي تعيش فيه.

(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) ..
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج، فيشكرونها باتباع المنهج، ويشكرونها بالثناء على الله، ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيباً على شكرهم، ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة، وهو أكبر وأبقى..
وكأنما أراد الله- سبحانه- بهذه الحادثة، وبهذه الآية، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو حي بينهم.

وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد- صلى الله عليه وسلم- ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه مَن قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه!
وكأنما أراد الله- سبحانه- أن يأخذ بأيديهم، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى.

العروة التي لم يعقدها محمد- صلى الله عليه وسلم- إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون!
وكأنما أراد الله- سبحانه- أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط.

حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو يُقتل، فهم إنما بايعوا الله. وهم أمام الله مسؤولون! وكأنما كان الله- سبحانه- يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى- حين تقع- وهو- سبحانه- يعلم أنّ وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم. فشاء أن يدرّبهم عليها هذا التدريب، وأن يصلهم به هو، وبدعوته الباقية، قبل أن يستبدّ بهم الدهش والذهول".

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع