محمد العبدة
تصدير المادة
المشاهدات : 3690
شـــــارك المادة
من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، وسننه في المجتمعات البشرية أن الأمر العظيم لا بد له من إرهاصات ومقدمات تهيئ له وتعين من يحمله على تحمل الأعباء الكبيرة. وقد قال الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً" ولذلك كانت هناك إرهاصات وتمهيدات لهذه النبوة وهذه الرسالة، ومنها: الرؤيا الصادقة فكان لا يرى صلى الله عليه وسلم رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ، وحبب إليه التحنث في غار حراء مبتعداً عن الناس وعن أجواء الوثنية. وجاء في الحديث أنه كان في مكة حجر يسلم عليه، يقول: السلام عليك يا رسول الله.. بل إن اختياره من بني هاشم ومن قريش ومن العرب كان مقدمة لأن يحمل هذا الجيل من العرب الرسالة لأنهم كانوا أقرب للفطرة وأبعد عن ذل وسطوة الطغيان وفيهم ذكاء وأخلاق عالية فكانوا مهيئين لحمل الرسالة . وهذه السنة واضحة في الأمثلة التالية: 1 ــ التدرج في البلاغ : لقد بدأ بالأمر البسيط (اقرأ) ثم (قم فأنذر) ثم (وأنذر عشيرتك الأقربين) ثم أبناء مكة (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) ثم إلى ما جاورها من البلدان (ولتنذر أم القرى ومن حولها ) ثم إلى البشر جميعاً ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) . وقد جاء في الحديث قوله : صلى الله عليه وسلم لقريش ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم) فقوله صلى الله عليه وسلم هو تخطيط للمستقبل . 2 ــ المرحلة المكية والمرحلة المدنية: فقد جاء في السور المكية أصول الإسلام وأسسه (التوحيد والايمان، الأعمال الصالحة، الأخلاق، قصص الأنبياء، أعمال القلوب)، وجاء التطبيق التفصيلي للشرائع والجهاد في السور المدنية واستمر هذا النهج بطريقة ما حتى حجة الوداع . 3 ــ التدرج في التشريع: تحريم الخمر: قالت عائشة رضي الله عنها "إنما نزل أول ما نزل منه (القرآن) سور من المفصل فيه ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبداً". وقد وقع التحريم على أربع مراحل: 1ــ قوله تعالى (تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً) ففرق بين السكر والرزق الحسن من العنب 2 ــ (وإثمهما أكبر من نفعهما) 3ـــ (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) 4 ــ (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه) فرض الجهاد: وقد مرَّ بأربع مراحل: 1ـ مرحلة الكف (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) . 2 ـ الإذن بالجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) 3 ـ قتال من قاتلهم (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم) 4 ـ قتال المشركين كافة (وقاتلوا المشركين كافةً كما يقاتلونكم كافةً) فرض الصلاة: كانت الصلاة ركعتين في الغداة ومثلها في العشي، ثم نسخت بفرض الصلوات الخمس وزيدت الظهر والعصر والعشاء فأصبحت أربع ركعات. فرض الصيام: عندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة جعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء ثم كان التخيير بين الصوم أو إطعام مسكين (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم) . ثم أوجبه إيجاباً عاماً جازماً (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) . وهنا لا بد أن نقف ونتذكر الأشياء التالية: 1 ـ الاعتقاد الجازم بأن تحكيم الشريعة وتطبيق أحكامها فرض واجب، ولا خيار لمسلم ولا مسلمة في ذلك. وهناك فرق بين من يؤمن بهذا الواجب ولا يعطله إن استطاع وبين من يحرف أو يتنازل لضغوط تأتي من هنا وهناك . 2 ـ الحكم على الشيء أنه حرام أو مباح أو واجب، قد انتهى ولا رجوع للتدرج في ذلك، فقد اكتمل الدين كفرض الصلاة والصيام والحج ولا نسخ في الأحكام كتحريم الخمر والميسر وتحريم الزنا ولكن في مسالة القتال والجهاد في سبيل الله، فالعلماء يفرقون بين مرحلة الضعف ومرحلة القوة فالحال التي أخبر الله فيها أن المسلمين يسمعون أذى من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، هذه الحال نسخت عند من يرى الأمر بقتالهم، ولكن ابن تيمية يقول: "الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم". يقول العلامة ابن الوزير: قوله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) وقوله (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) لا دليل على نسخ ذلك وأمثاله، إلا عند من يتوهم التعارض، أو خفي عليه اختلاف الأمرين عند اختلاف الحالين" ( القوة والضعف )، فالإسلام حتى في مرحلة التدرج وهي مرحلة لا نسخ فيها وقد كمل الدين فرّق بين الأعماق والسطحيات في نفسية الأفراد والمجتمعات ، يقول الشيخ صبحي الصالح رحمه الله ” فكل قضية عميقة الجذور في نفس الأفراد اتخذت شكل تقليد اجتماعي أو عرف دولي فللإسلام فيها موقف المتمهل الذي يؤمن بأن البطء مع التنظيم خير من العجلة مع الفوضى، وكل قضية سطحية تنزلق إلى نفس الفرد أو الجماعة فتفسد عليها فطرتها فهي جريمة ولا يجوز السكوت عنها، فليقطع الإسلام فيها برأيه، وفي ضوء هذا نظر الإسلام إلى القتل والغش والسرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل والزنافحرمها مرة واحدة تحريماً قاطعاً ( ولا تقربوا الزنا ) وكذلك السرقة (فاقطعوا أيديهما…… ) فالحلال حلال قطعاً والحرام حرام قطعاً ولكن التدرج يكون في التطبيق حسب الاستطاعة هذا مع وجود نية صادقة لتطبيق الإسلام وليس التحايل على النصوص ، ومع وجود خطة لاستكمال التطبيق عند القدرة، ولا يؤجل شيء مقدور عليه انتظاراً للتطبيق الكامل. فقد جاء في الحديث الشريف (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) وكذلك ألا يترتب على التطبيق مفسدة أعظم من المصلحة كما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة وأدخلت فيها حجر إسماعيل وجعلت لها بابين…) أقوال بعض العلماء : سئل الإمام مالك رحمه الله عن الرقيق العجم يشترون في شهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه، فهل يجبرون على الصيام أم يطعمون قال: أرى أن يطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام. ويقول ابن تيمية : ”"فالواجب على المسلم أن يجتهد وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما عجز عنه فإن تولية الأبرار للأمة خير من تولية الفجار" . تجربة عمر بن عبد العزيز رحمه الله عندما ولي الخلافة دخل عليه ابنه عبد الملك وقال له : يا أبت لم لا تنفذ الأمور، فوالله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور قال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة) وروي عنه "لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت فيكم العدل". وقال أيضاً : "ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير "وكبر عليه الصغير، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره ……" أي لا بد أن يقيم لهم السنة والعدل ويزيل البدعة والظلم حتى تصلح أحوالهم.
وفي العصر الحديث، وفي محاضرة للشيخ أبي الحسن الندوي في الباكستان والتي من المفترض أن تطبق الإسلام لأنها انفصلت عن الهند على هذا الأساس يقول مخاطباً علية القوم، ومن خلال تعليقه على آية (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) الملاحظ هنا: أمر ونهي وليس التماساً ورجاء، والأمر والنهي يتطلبان شيئاً من القوة والغلبة والقوة والغلبة لا تأتيان إلا إذا كان الغصن الذي نريد أن نصنع عشنا عليه (دولة إسلامية) متيناً قوياً، فلئن كان هناك مجتمع قد بلغ في عبادة النفس والهوى والولوع بالمعاصي، فلا يُرجى نجاح إذا لم يكن هناك خطة تراعي وضع هذا المجتمع، وإذا كانت التربة (كثيباً مهيلاً) فإنه لا يتصف بتماسك معنوي، وليس معنى ذلك أنني أُشير بتأجيل تطبيق الشريعة ولكن لا بد أن نغير موازين القبح والحسن عند هذا المجتمع حتى يتحمل المسؤولية والعبء الثقيل". إذن لا بد من تطبيق سنة عمر بن عبد العزيز، أن يقام العدل وإصلاح أحوال الناس وتقديم الخدمات لهم، وإصلاح القضاء والإعلام ونشر الثقافة الإسلامية، ثم انتزاع الفساد وأماكن الفساد، وإزالة المنكرات، ويبدأ الإصلاح بإرجاع أمور المعاملات والعقود والشركات لتكون منسجمة مع الشريعة الإسلامية . وأما مقولة (خذوا الإسلام جملةً أو دعوه) فهي صحيحةٌ في جانب الاعتقاد الجازم بأن هذه الشريعة هي خيرٌ للإنسان، أي الاستسلام لهذا الدين، أما في التطبيق العملي فهو متعلق بالاستطاعة وعدم وجود الموانع القاهرة، والاستفادة من الزمن لقطع المراحل الضرورية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ــ كمسألة الرق مثلاً 2 ــ معالم الشريعة / 139 3 ــ الطريق إلى السعادة / 68
محمد نور حمدان
فايز الصلاح
محتسب الشام
فهد العجلان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير