هشام جابر
تصدير المادة
المشاهدات : 2872
شـــــارك المادة
عندما دخلت القوات التركية العام الماضي الأراضي السورية -بعملية عسكرية أسمتها "درع الفرات"- بدءاً باستعادة جرابلسمن تنظيم الدولة الإسلامية، توقّف المراقبون أمام نقطتين: الأولى، أنّ التنظيم انسحب من جرابلس جنوباً دون قتال يذكر، حتى إنّه لم يلاحَق بأيّة ضربة جويّة من أيّة جهة، سواء من سلاح الجو التركي، أو الروسي، أو حتى طائرات التحالف الدولي. والثانية، أنه عندما قامت قوات سوريا الديمقراطية -ونواتها قوّات حماية الشعب الكردية- باستعادة مدينة منبج من تنظيم الدولة وأعلنت أنّها ستتابع إلى جرابلس، اعتبر كثير من المراقبين أنَّ هذا الإعلان خطأ جسيم يضاف إلى خطأ سبقه بأسابيع، وهو تحرّش قوات حماية الشعب الكردي والشرطة الكردية (الأسايش) بالحامية العسكرية السورية بمدينة الحسكة. استثمرت تركيا كلا الحدثين فاتّهمت الكرد بأن لديهم نوايا انفصالية، وأعلن رئيس حكومتها بن علي يلدرم أنّ هذه النوايا والتصرّفات تهدّد وحدة سوريا. وأنَّ انفصال الشريط الكردي يهدِّد وحدة تركيا أيضاً.
متغيرات ما بعد "الباب" نفذت تركيا "درع الفرات" بضوء أخضر من موسكو، وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنَّ الهدف من دخول قوات بلاده هو تأمين منطقة "عازلة" أو "آمنة" بمساحة 4000 كلم2. وقدَّر المراقبون -ونحن منهم- أنّ هذه المنطقة ستكون بمثابة مربّع، ضلعه الشمالي الحدود التركية بين جرابلس وأعزاز والجنوبي مدينة البابثم منبج. وصلت القوّات المدعومة من تركيا إلى مشارف مدينة الباب شمالاً وغرباً، بعد أن انسحب تنظيم الدولة إلى المدينة بقتال تأخيري. وكانت موسكو -حتى ديسمبر/كانون الأول الماضي 2016- تؤكّد أنَّ استعادة مدينة الباب ستتمّ على أيدي الجيش السوري النظامي. تقدّم الجيش السوري شمالاً باتجاه الباب، وسيطر على عشرات القرى بعد قتال "غير ضارٍ" مع التنظيم. وقلنا في حينه إنَّ ما يهدف إليه الجيش السوري -حتّى في حال أعطت موسكو الضوء الأخضر لأنقرة بدخول الباب، كجائزة ترضية لقاء استدارتها نحوها في موضوع حلب- هو في أقل الاحتمالات منع تنظيم الدولة من الاتجاه جنوباً بعد انسحابه من الباب، ثمَّ كبح الطموح التركي بالتوجّه إلى ريف حلب الشمالي الشرقي. وهذا ما حصل. أعلنت تركيا -التي بدأت القواتُ المدعومة منها التقدم شرقاً باتجاه مدينة منبج- أنّ هدفها الثاني هو استعادة المدينة من القوّات الكرديّة، ومن ثمّ الاستعداد لعبور نهر الفرات للمشاركة في استعادة الرقّة. حمل الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس الحالي الكثير من التغيرات السياسية والميدانيّة، فقد تقدّم الجيش السوري النظامي في ريف منبج الجنوبي والشرقي، بعد أن انسحبت القوات الكرديّة لمصلحته. وفاجأ رئيس الحكومة التركية المراقبين بتصريحه بأنَّ دخول الجيش السوري مدينة منبج "خيار غير سيئ"، شرط انسحاب كافّة القوى الكردية إلى شرق الفرات. ودخلت لأوّل مرة وحدة عسكرية أميركية مدينة منبج معلنة أنّها أتت لقتال تنظيم الدولة، ولمنع التقاتل بين الأطراف الموجودة على الأرض. وتقصد بها الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا، والجيش السوري النظامي، وقوات سوريا الديمقراطية التي هي نواة المجلس العسكري لمدينة منبج. واشنطن وجدت نفسها أمام خيارين أحلاهما مرٌّ؛ فمن جهة تحرص على صداقتها وحلفها مع أنقرة التي شاب علاقتَها بها توترٌ في نهاية عهد الرئيس السابق باراك أوباما. ومن جهة أخرى تؤكّد التزامها بدعم الأكراد في شمال سوريا، إذ يمثّل هؤلاء الورقة الأقوى لدى واشنطن في الميدان السوري، إن لم نقل الوحيدة. وهي بالتالي لا يمكن لواشنطن أن تسمح للجيش التركي وحلفائه بعبور نهر الفرات شرقاً للمشاركة في استعادة الرقّة، لأنّ ذلك ربّما يخلط الأوراق ويجعل الشريط الكردي بين فكّي الكماشة التركية.
ملامح خريطة المعركة والآن ماذا عن الخريطة الميدانية؟ صحيح أنّه لا يمكن الفصل المطلق، بين ما يجري في غرب الفرات -وتحديداً في منبج وريفها- وما سيجري في شرقه، وتحديداً معركة استعادة الرقة المرتقبة عاجلاً أم آجلاً. من هنا، جاء اجتماع أنطاليا بتركيا -الذي عُقد يوم 7 مارس/آذار الجاري وجمع رؤساء أركان الدول الثلاث: روسيا، وتركيا، والولايات المتحدة- ليرسم ما يمكن تسميته "مسوّدة" (Draft) خريطة ميدانيّة، تنتظر موافقة الأطراف المعنيّة عليها، وبالتالي إقرارها. واجتماع أنطاليا كان طابعه العسكري أقوى من صبغته السياسية، وقد نتج عنه فوراً تصريح تركي بأنّ أنقرة غير مستعدّة للقتال جنباً إلى جنب مع من تعتبرهم "إرهابيين"، وهي تقصد بذلك القوى الكردية مهما اختلفت تسمياتها. ويعني ذلك أنّ مسألة عدم مشاركة تركيا في استعادة الرقّة قد حسمت. أما غرباً، فإنّ القوات المدعومة من تركيا تقترب من مدينة منبج ولن تدخلها في أغلب الظن. أمّا سيطرة الجيش السوري النظامي على طريق الباب/الرقة ومساحات واسعة شرق وشمال مدينة حلب وتوسّعه، فهي في الواقع هدف عسكري إستراتيجي أو رسالة ميدانيّة لتركيا مفادها أن عليها أن تتوقّف حيث وصلت، وأنّ هذه المنطقة أرض سورية، وأنّ مدينة منبج خط أحمر. وكذلك الضفّة الغربيّة لنهر الفرات التي يسعى الجيش السوري النظامي للسيطرة عليها، لملء الفراغ الذي سيُحدثه انسحاب القوّات الكرديّة المرتقب من مدينة منبج، وكامل منطقة غرب الفرات، كما تطالب بذلك تركيا. والسؤال الذي يُطرح الآن هو: من سيقوم باستعادة الرقة؟ وهل تكفي القوات الكردية التي تدعهما أميركا لتنفيذ مهمّة كهذه؟ والجواب هو "لا" حتماً. وذلك لاعتبارات عدّة، عسكريّة وجغرافيّة وسياسيّة. فهذه القوات غير مؤهلة -حتى هذه الساعة- لدحر تنظيمٍ بهذه القوّة. لا من ناحية العدد -الذي يقال إنه بلغ أكثر من 20 ألف مقاتل- ولا العتاد، ولا الكفاءة القتالية.
كلفة المعركة وتبعاتها يُخطئ من يعتقد أنّ معركة الرقّة ستكون أقل جهداً وصعوبة من معركة الموصل. ففي الموصل يوجد أكثر من مائة ألف مقاتل من القوات العراقية وحلفائها، وأكثر من أربعة آلاف جندي أميركي يشاركون فيها من أصل ثمانية آلاف جندي أميركي بالعراق. والرقّة هي "عاصمة الخلافة" والملجأ الأخير لتنظيم الدولة، ولا تكفي لإطلاق معركتها دراسة مواقع التنظيم وقوّته الحاليّة، بل المرتقبة أيضا. فبعد استعادة الموصل، يُنتظر أن يصل إلى البادية السورية المئات من عناصر التنظيم، إن لم نقل الآلاف. واستعادة الرقّة تقتضي أن تسبقها عسكريا استعادة دير الزور شرقا، ومطار الطبقة العسكري و"سد تشرين" غربا. أو أن تُفتح هذه الجبهات الثلاث بصورة متزامنة. لذا وبناءً على ما تقدّم؛ يعتقد مراقبون -ونحن منهم- أنّ الجيش السوري النظامي توقّف العام الماضي عند تخوم تدمر الشرقية بعد استعادتها، ولم يلاحق تنظيم الدولة في البادية السورية -كما تقتضي بذلك العلوم العسكرية حسبما يسمّى "استغلال الانتصار"- ممّا أدّى إلى إعادة سيطرة التنظيم على المدينة. أما الآن فإنه لن يتوقّف هذه المرّة خاصة بعد التفاهم بين موسكو وواشنطن، بل سيتابع تقدمه باتجاه دير الزور، لتأمين الاتصال سراً مع الحامية السورية النظامية المحاصرة -منذ حوالي عامين- والعمل على طرد تنظيم الدولة منها. وللجيش السوري مهمة أخرى بعد دخوله منبج والسيطرة على الضفّة الغربيّة لنهر الفرات؛ وهي عبور النهر شرقاً للسيطرة على "سد تشرين"، ثمَّ الإعداد للانطلاق من ريف حماة الشرقي باتجاه مطار الطبقة العسكري، الذي وصل بداية العام الماضي إلى مسافة 30 كلم منه، ثمّ انسحب تحت ضغط هجوم معاكس لتنظيم الدولة، ولاعتبارات إقليمية ودولية. فإذا ما تمّ ذلك ميدانيّاً، فإن مهمّة القوات الكرديّة ستنحصر في مدينة الرقّة، بدعم أميركي جوي وبري معاً. ويمكن القول ساعتئذٍ إنّ الخطة العسكرية لاستعادة الرقّة قد أصبحت جاهزة، والمهمّة باتت أقل صعوبة. إنّ ما ذُكر أعلاه ما هو إلا استقراء للمستقبل القريب وللخريطة العسكرية في الأسابيع المقبلة، تفرضه المعطيات الميدانيّة، والسياسيّة. وأبرزها العلاقات الأكثر من جيدة وغير المسبوقة بين موسكو وواشنطن، والعلاقات الأكثر من جيدة جدا بين موسكو وأنقرة، والتي ظهرت في اجتماع البلدين الأخير على مستوى القمّة في 10 مارس/آذار الحالي. وقد جعل ذلك كله موسكو في مركز "المايسترو" أو ضابط الإيقاع للتحركات العسكرية لكافّة الأطراف في سوريا. إلا أنّ هنالك دائماً احتمالا لتطوّر درامي أو حدث بارز، يمكنه أن يعيد خلط الأوراق، ويُرجع العملية السياسية -وبالتالي العسكرية ربما- إلى نقطة الانطلاق من جديد. وأخيراً، يبقى سؤالان لا بدّ من أن يُطرحا لاحقاً: الأوّل: ما هو الثمن الذي ستطلبه تركيا لقاء منعها من ضمّ منبج واستكمال مربّع درع الفرات الذي سيصير مثلّثاً؟ ولقاء منعها من عبور الفرات شرقاً؟ والسؤال الثاني: إلى أين سينسحب تنظيم الدولة بعد طرده من مدينة الرقّة؟ إن إجابة هذين السؤالين تستلزم مقالاً آخر مستنداً إلى المستجدّات السياسيّة والميدانيّة. وإنّ غداً لناظره قريب. الجزيرة نت
مهنا الحبيل
برهان غليون
عمار ديوب
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة