..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


اعلام وتراجم

صفحاتٌ مشرقَـة من السِّيرة العبقَـة لمحدِّث الشام وريحانَتها العلامة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط

أيمن أحمد ذو الغنى

١٧ يوليو ٢٠١٣ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 10411

صفحاتٌ مشرقَـة من السِّيرة العبقَـة لمحدِّث الشام وريحانَتها العلامة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
2.jpg

شـــــارك المادة

قبلَ زُهاء خمسَ عشرةَ سنة انتسبتُ إلى الدورة العلميَّة الصيفيَّة المكثَّفة في المعهد الشرعيِّ لطلاَّب العلوم الإسلاميَّة (الأمينيَّة سابقًا)، وأنا يومئذ طالبٌ في المرحلة الثانويَّة، وكان اسم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط مُدرجًا في جَدول الحِصَص المقرَّرة، مدرِّسًا لمادَّتَي الفقه ومصطلح الحديث، وقد سبقَت شهرةُ الشيخ إلى أُذُنيَّ، قبل أن أبصرَه بمقلَتَيَّ، فكنت أسمعُ من زملائي الطلاَّب الثناء العطرَ عليه، وأنه أحدُ كبار علماء السنَّة في عَصرنا.

 


رسمتُ للشيخ صورةً في نفسي، فكنتُ أتوقَّع أن أرى شيخًا تحفُّه أُبَّهَةُ المشيخَة المصطَنعَة التي اتَّخَذها بعض أشياخ عصرنا، تراهُم يمشون في زَهْو وعُجْب كالطَّواويس، والناسُ متعلِّقون بأذيالهم، يحيطون بهم من كلِّ جانب، يتسابقون إلى تَقبيل الأيدي، والتمسُّح بالثياب، والفَوز بعبارة ثناء.
دخل علينا الشيخُ بتواضع جَمٍّ، وجلس على كرسيِّ التدريس، مرحِّبًا بنا في بداية هذه الدورة الصيفيَّة الجديدة بكلمات تَفيض رقَّةً وأُنسًا، بلهجَة أب غَيور شديد الحرص على بَنيه، كنت أُصغي إلى كلماته العَذبة الصادقة وأكاد أسمعُ معها وَجيب قلبه، وأتأمَّل في وجهه فأرى في قَسماته أماراتِ الصدق والتقوى مُشعَّة بادِيَة، زادت حُمرةَ وجهه جمالاً على جمال، وكانت عيناه الزرقاوان تلتمعان ذكاءً كنجمَين مضيئين أو جوهرتَين كريمتَين نادرتَين، وقد زاده الله بَسطةً في العلم والجسم، فكان ممتلئَ الجسد، قويَّ البنيَة، كما امتلأ فقهًا وحكمةً وعلمًا، ووالله لقد ملأت صورةُ الشيخ نفسي هَيبةً وتوقيرًا وإجلالاً.

مَدَحتُكَ بالحَقِّ الذي أنتَ أهلُهُ  *** ومِنْ مِدَحِ الأقوامِ حَقٌّ وباطِلُ

لم أنقطع عن هذه الدورات العلميَّة الصيفيَّة ستَّ سنين متتالية، وكانت دروسُ الشيخ فيها أحبَّ الدروس إلي؛ لما فيها من فوائدَ علميَّة، ونصائحَ تربويَّة.
قرأنا عليه فيها غيرَ كتاب من كتب مصطلح الحديث، وبحقٍّ لقد بهَرَنا الشيخ بقوَّة حفظه وحُضور ذهنه، وبخاصَّة حفظُه لمتون الأحاديث، ولوَفَيات رواة السنَّة.
وقد حبَّب إلينا الشيخ في دروس الفقه العملَ بالحديث الصحيح، وعدمَ التعصُّب لاجتهادات الفُقَهاء المخالفة للأدلَّة الصحيحَة الصريحَة، وكذلك وجَّه أنظارنا إلى أهميَّة علم المصطَلح، الذي يعدُّ السبيلَ لتمييز السنَّة النبويَّة، ومعرفة صَحيحها من سَقيمها.
توثَّقَت صلَتي بالشيخ مع الأيام، وازددتُ منه قربًا، وما كنت أشعرُ معه إلا أنني مع أبي الرحيم الشفيق، وما أكثرَ ما كنت أرتادُ مكتبتَه العامرةَ التي فتح أبوابَها لتكون مثابةً لطلاب العلم، أبحثُ في كتبها عن بعض المسائل الشرعيَّة، أقضي فيها ساعات، من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء، أسأله عن كلِّ ما يَعرض لي من مسائلَ تعتاصُ علي، وأنتفعُ بما يجيب به سائليه من ضُيوف وطلاب علم ومُستَفتين، ومع اغترابي في السنوات الأخيرَة عن بلدتي دمشق، لم أنقطع عن شيخنا المفضال، فقد كان من أوَّل من أسعى إلى لقائه في زياراتي لدمشق، وكذا كنتُ أحرِصُ كلَّ الحرص على لقائه كلَّما زار الرياض.
 
جُمهور سـيرته العَطـرَة
أُرومَتُـه واسـمُه :
ترجعُ أصول شيخنا إلى يوغسلافيا من بلاد البُلقان، فقد ولد في قرية ( فريلا/vrela ) من إقليم كوسوفا، سنة 1347 هـ الموافق سنة 1928م، وسمَّاه أبوه باسم: قَدْري، غير أنه أطلق على نفسه في أوائل شبابه اسم: عبد القادر الأرناؤوط، وبه اشتُهر بين الناس، وهو الاسمُ الذي يثبتُه على أغلفة كتبه وتحقيقاته، غير أن اسمَه بقي في الأوراق الرسمية: قَدْري بن صُوقَل الأرناؤوط.
أما نسبُه العالي فهو: قَدْري بن صُوقَل بن عَبْدول بن سِنان بْلاكاي الأرناؤوط.
لم تطُل إقامةُ الطفل قَدْري في موطنه، فقد رحلَ به أهله وهو ابنُ ثلاث سنين، ( عام 1931 م )، مُهاجرين إلى الشام، فرارًا بدينهم من الهجمَة الشُّيوعيَّة الوحشيَّة على بلادهم، واستقرَّ بهم المقامُ بدمشق، فنشأ فيها وترعرَع، واكتسب لسانَ أهلها وعاداتِهم، فلا تحسَبُه إلا دمشقيًّا عتيقًا أصيلاً، مع مُحافظته على لسان أجداده، فبقي مُجيدًا للغته الأولى الألبانيَّة قراءة وكتابة وتحدُّثًا.
 
دراستُه وأشياخُه:
انتسب شيخُنا في أول دراسته الابتدائيَّة إلى مدرسة الأدب الإسلاميِّ، ودرس فيها سنةً واحدة فقط، ثم تلقَّى سائرَ تعليمه الابتدائيِّ بمدرسة الإسعاف الخيريِّ، ونال منها الشهادةَ الابتدائيَّة، وهي الشهادةُ الوحيدة من شهادات الدِّراسة النِّظامية التي حصَّلها، فلم يتابع بعدَها في المدارس الرسميَّة، بل اختَلَف إلى حَلَقات العلم في المساجد، يقرأُ على بعض العُلَماء والمشايخ، وهو لا يزالُ في رَيْعان الفُتوَّة وطَراءة الصِّبا.
ومن العُلَماء والمشايخ الذين قرأ عليهم وتخرَّج بهم:
  - الشيخ صُبحي العَطَّار رحمه الله: وهو مَغربيُّ الأصل، وقد كان أستاذَه في مدرسة الإسعاف الخيريِّ، قرأ عليه خَتمةً من القرآن الكريم مع التجويد والإتقان، وأفاد منه كثيرًا في الفقه الحنَفيِّ.
  - الشيخ المقرئ محمود فايز الدَّيرعَطاني رحمه الله :
  وهو تلميذُ شيخ قرَّاء الشام محمد الحُلواني الكبير -رحمه الله-، قرأ عليه شيخُنا القرآن كاملاً مع الحفظ بالمدرسة الكامليَّة، وكان بصَدَد جمع القراءات عليه، إلا أنه آثرَ التفرُّغَ لعلم الحديث الشريف وحفظ السنَّة النبويَّة، وقد كان الشيخُ الدَّيرعَطاني شديدَ الإعجاب بقراءة تلميذه، لا يَفتَأُ يقولُ له: إنك تقرأ القرآنَ بالسَّليقَة.
  - الشيخ سُلَيمان غاوْجي الألباني رحمه الله: قرأ عليه الشيخ في علمَي النحو والصَّرف.
  - الشيخ محمد صالح الفُرْفور رحمه الله: وهو مؤسِّسُ جمعيَّة الفتح الإسلاميِّ ومعهدها الشرعيِّ، وقد لازمَه الشيخ زُهاءَ عشر سنوات، وتخرَّج به في الفقه الحنَفيِّ، والتفسير، وعلوم العربيَّة.
  - وقرأ الشيخ على غيرهم من العُلَماء، وحضَرَ دروسَ كثير من المشايخ في مسجد بني أميَّة الكبير.
 
مهنتُـه وعمَـلُه:
رغبَ والدُ شيخنا - بعد تخرُّج ولده في المدرسة الابتدائيَّة - أن يكتسبَ مهنةً تكون له سندًا وأمانًا، يستعين بها على مُتطَلَّبات الحياة في قابل الأيام، ويتَّقي بها صُروفَ الدهر وغِيَرَهُ، فأخذ بيده ومضى به إلى حيِّ ( المِسْكِيَّة ) القريب من المسجد الأُمَويِّ، يبحث له عن مهنةٍ شريفةٍ يتعلَّمُها، وبينا هما يبحثان أبصرَ الأب شيخًا ساعاتيًّا ذا لحيةٍ سوداءَ وعِمامَةٍ بيضاءَ وجُبَّة، فأحسن الظنَّ به، وعرَضَ عليه أن يعلِّمَ ولدَه مهنة إصلاح الساعات، ولما عرَفَ الرجل أنهما غَريبان، ممَّن هاجر من كوسوفا إلى الشام، استجابَ لطلَبهما؛ حبًّا وكرامة.
ذاك الشيخُ الساعاتيُّ اسمه: سعيد الأحمَر التَّلِّي، وكان متخرِّجًا في الأزهر الشريف، وقد لاحَظَ على شيخنا حبَّه للعلم، وتطلُّعَه إلى تحصيله، فرأى أن يختبرَه ببعض العُلوم، فطلب منه أن يُسمعَه شيئًا من القرآن، فقرأ له آياتٍ منه مرتَّلَةً مجَوَّدَة، فسُرَّ بقراءته الحسَنة المتقَنة، ثم اختبَرَه في بعض أبواب النحو والصَّرف، فأظهرَ براعةً ومعرفة، وكان الوقتُ رمضان فسأله عمَّن لا يجبُ عليه صومُ رمضان، فأجابَهُ ببيتَين من النَّظْم كان حَفظَهُما من شيخه صبحي العَطََّار في المدرسة، وهما:

وعَوارضُ الصَّومِ التي قد يُغتَفَرْ  *** للمَرءِ فيها الفِطرُ تسعٌ تُستَطَرْ
حَبَلٌ وإرضاعٌ وإكراهٌ سَـفَرْ   *** مَرَضٌ جهادٌ جُوعُه عطَشٌ كِبَرْ

ولم يكتف الشيخ سعيدٌ بهذه الإجابَة، بل طلبَ منه تفسيرَ البيتَين، ولما أجابَه ابتَهَج وقال: يا بُنيَّ، أنت يجب أن تكونَ طالبَ علم، وشجَّعَه على ذلك، ومضى به إلى جامع بني أُمَيَّة، وضمَّه إلى حَلْقَة الشيخ محمد صالح الفُرْفور، ثم مضى به إلى المدرسة الكامليَّة؛ ليقرأ على الشيخ محمود فايز الدَّيرعَطاني.
لزمَ شيخُنا معلِّمَه سعيدًا الأحمر يتعلَّم منه مهنتَه، ويقرأ عليه في الفقه واللغَة، ولم ينقطع في أثناء ذلك عن حَلَقات العلم، يَحضُرها بعد صلاة الفجر، وعَقِبَ صلاتَي المغرب والعشاء. ومع انصِرام خمس سنواتٍ من المواظبة افتَتَح شيخُنا لنفسه محلاًّ للساعات، بعد أن مَهَر في إصلاحها، وحَذِقَ صَنعَتَها.
 
طلبُه لعلم الحديث وتَحصيلُه:
كان المشايخُ المدَرِّسون في الجامع الأمويِّ كثيري الاعتماد على كتاب الحافظ السُّيوطيِّ (( الجامع الصغير ))، يَرْوون أحاديثَه ويستشهدون بها، وقد حُبِّب إلى شيخنا الرجوعُ إلى كتاب (( فيض القدير بشرح الجامع الصغير )) للمُناوي، يراجع فيه أحكامَه على الأحاديث التي أوردها السُّيوطي، وقد أحزَنَ الشيخ وأمضَّه ما كان يراه من كثرة استشهاد المشايخ والخُطَباء بالأحاديث الضَّعيفَة والمنكَرة والموضوعَة، ومن هنا تحفَّز لحفظ الأحاديث الصَّحيحة، ونشرها وإشهارها.
كان صحيحُ الإمام مسلم أوَّلَ كتاب من كتب السنَّة يقرؤه، ثم قرأ بعدَه صحيح البُخاريِّ، والسُّنَنَ الأربعة.
وقد كَلِفَ بحفظ السنَّة النبويَّة، فكان دَيدَنَه وهِجِّيراهُ حفظُ عدد من الأحاديث الصَّحيحة كلَّ يوم، يُعينه على ذلك ما أكرمَه الله به من هِمَّة عاليَة، وحافظَة واعِيَة، ومَضاء عَقل، ونَفاذ بَصيرَة، وكان حصادُ ذلك كلِّه المنـزلةَ الساميَةَ التي تبوَّأَها بين أهل العلم عامَّة، وأهل الحديث خاصَّة، حتى غَدا أُمَّةً في الحفظ والرِّواية غيرَ مزاحَم، يقرُّ له بذلك المخالفُ قبل الموافق، وقد زادَت محفوظاتُه من الأحاديث على عَشرة آلاف حديث.
ومما تميَّز به شيخُنا أيضًا: حفظُ أسماء رُواة السنَّة وأنسابِهم، وحفظُ تواريخ وَفَياتِهم، وكان في ذلك آيةً قليلَ النظير.
وإن تعجَب فعَجَبٌ ما تراهُ من استحضار الشيخ للأحاديث النبويَّة، وسرعته في استخراجها من مَظانِّها، حتى لَتَخالُ السنَّة ماثلةً بين ناظرَيه، وما كان ليَتأتَّى له هذا لولا إدمانُه النظرَ في كتب السنَّة الشريفة وكثرةُ مدارستها.
 
عمَلُه في البَحث العلميِّ وتَحقيق التُّراث :
وكان من صُنع الله به أن سَنَّى له العملَ فيما يرغَبُ فيه ويَحرِصُ عليه، فقد تركَ العمل في مهنَة الساعات وانضَمَّ - سنة 1377 هـ الموافق سنة 1957 م - إلى فريق البَحث العلميِّ وتحقيق التُّراث بالمكتب الإسلاميِّ لفضيلة شيخنا المجاهد زهير الشَّاويش حفظَ الله مُهجَتَه، إلى جانب كَوكَبَة من أعلام السنَّة والحديث والعلم في هذا العَصر، منهم: الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله، والشيخ شُعَيب الأرناؤوط حفظه الله، وشيخُنا المربِّي الدكتور محمَّد بن لطفي الصبَّاغ أنسأ الله في الخير أجلَه، والشيخ عبد القادر الحتَّاوي الدُّومي رحمه الله، ويظنُّ بعض طلاَّب العلم أن الشيخَ عبد القادر شقيقٌ للشيخ شُعَيب، وليس الأمرُ كذلك، بل هما أخَوان في الله، وزَميلا دراسة، وعمَل، ودَعوة.
استمرَّ شيخُنا في عمله هذا زُهاءَ عشر سنوات كانت من أخصَب سني عُمُره، أفاد منها إفادةً كبيرة في معرفة كتُب تراثنا الإسلاميِّ في شتَّى علومه وفنونه، وأحكَمَ فيها صَنعَةَ التحقيق العلميِّ إحكامًا، واضْطَلَعَ فيها بتحقيق عدد كبير من الكتُب العلميَّة الشرعيَّة ومراجعتها، منفردًا ومشاركًا.
فممَّا شارك في تحقيقه الشيخَ الألباني: ((مشكاة المصابيح)) للتِّبْريزي، أما الشيخُ شُعَيب فقد شاركَه في تحقيق غير قليل من الكتُب، منها: ((روضَة الطالبين)) للإمام النَّوَوي، في الفقه الشافعيِّ، و(( الكافي )) للإمام موفَّق الدين بن قُدامَة المقدِسي، في الفقه الحنبليِّ، و(( زادُ المسير في علم التفسير )) للإمام ابن الجَوزي.
و تولَّى الشيخُ إدارةَ المكتب الإسلاميِّ مدَّةً من الزمَن، في إبَّان غياب الشيخ زهير عن سورية؛ لظُروف قاهرَة. وبقيَ الشيخ متعاونًا مع المكتب الإسلاميِّ حتى وافَتْه منيَّتُه، وكان من آخر ما عملَه للمكتب: إعادة تحقيق (( شرح ثُلاثيَّات الإمام أحمد بن حنبل )) للسَّفاريني.
 
نتـاجُهُ العلمـيُّ:
حُبِّب إلى شيخنا نشرُ تراث أسلاف أمَّتنا من العُلَماء الصالحين العاملين، وتحقيقُه، والعنايةُ به، وكان يفضِّل تحقيقَ التراث على التأليف، وكان في تحقيقه صاحبَ رسالة، يرى أن غايةَ المحقِّق في عمَله هي إخراجُ نصٍّ صحيح سليم، خالٍ من شَوائب التصحيف والتحريف والسَّقَط، وأن أَوْلى ما على المحقِّق القيام به: تخريجُ الأحاديث الواردة في الكتاب، والحكمُ عليها صحَّة وضَعفًا، أو نقلُ أحكام نُقَّاد الحديث عليها؛ لما في ذلك من نُصْح لطلاَّب العلم، ولجمهور المسلمين؛ لئلاَّ يغتَرَّ امرؤٌ بحديث تتناقَلُه ألسنَةُ الخُطَباء، ورسولُ الله منه بريء.
وقد أكثرَ شيخُنا من التحقيق، حتى أربَت كتُبه المحقَّقة على خمسينَ كتابًا، ومن أهمِّ الكتُب التي أخرجها زيادةً على ما تقدَّم:
(( جامعُ الأصول في أحاديث الرسول )) لابن الأثير الجَزَري، في خمسةَ عشرَ مجلَّدًا، و(( مختصَر مِنهاج القاصِدين ))، و(( لُمعَة الاعتقاد ))، و(( كتاب التوَّابين )) لابن قُدامَة المقدِسيِّ، و(( الأذكار ))، و(( التِّبيان في آداب حَمَلَة القُرآن )) للنَّوَوي، و(( مُختَصَر شُعَب الإيمان )) للبَيْهَقي، و(( الحِكَمُ الجَديرَةُ بالإذاعَة )) لابن رجَب الحنبَليِّ، و(( فتحُ المجيد شرح كتاب التَوحيد )) لعبد الرَّحمن بن حسن آل الشيخ، و(( الإذاعَةُ لما كان ويكونُ بين يدَي الساعَة ))، و(( يقَظَةُ أولي الاعتِبار بذِكْر الجنَّة والنار )) لصِدِّيق حسن خان، و(( كِفايَةُ الأخيار في حَلِّ غايَة الاختِصار )) للحِصْني، و(( الفِتَنُ والملاحِم ))، و(( شَمائلُ الرَّسول )) لابن كَثير، و(( السُّنَن والمبتَدَعات )) للقُشَيري.
وكان للشيخ عنايةٌ خاصَّة بكتُب شيخَي الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم، فممَّا أخرجه لابن تيميَّة:
(( رَفعُ الملام عن الأئمَّة الأعلام ))، و(( المسائل الماردينيَّة ))، و(( قاعِدَةٌ جَليلَة في التوَسُّل والوَسيلَة ))، و(( الفُرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان ))، و(( الكَلِمُ الطيِّب )).
ومما أخرجه لابن القيِّم:
(( زادُ المعاد في هَدْي خَير العباد )) بالاشتراك مع الشيخ شُعَيب، و(( جِلاء الأفهام ))، و(( الوابِلُ الصَّيِّب ))، و(( الفُروسيَّة ))، و(( عِدَةُ الصابرين ))، و(( فَتاوى رسول الله r )).
أما التأليفُ فقد تقدَّم الإلماعُ إلى عدَم اهتمام الشيخ به، فلم يؤلِّف سوى رسالتين صَغيرتَين، الأولى بعنوان: (( الوَجيز في مَنهَج السَّلَف الصالح ))، وهي على وَجازَتها عظيمة النَّفع في بيان الفرق بين المقلِّد والمتَّبع والمجتَهد، وبيان وجوب اتِّباع الكتاب والسنَّة بمنهَج سلَفِنا الصالح من أهل القُرون الثلاثة الأولى، التي شَهد لها رسولُ الله r بالخيريَّة. والرسالةُ الأُخرى بعنوان: (( وَصايا نبويَّة ))، اشتملت على خمسة أحاديثَ نبويَّة شريفَة، اختارها الشيخُ وشرحها شرحًا موجَزًا مُفيدًا، وهي من جَوامع كلمه r، يوصي فيها أمَّته بما فيه فلاحُهم ونجاحُهم في الدارَين.
 
عمَلُه في التعليم والدَّعوَة :
سلَخَ الشيخُ من عُمره المبارك أكثرَه بين المنابر والمحابر؛ مُدرِّسًا ومُحاضرًا وخطيبًا، وكان تولَّى الخطابةَ وهو في أوائل العِقْد الثالث، نحو سنة 1369 هـ الموافق سنة 1948 م، في جامع الأرناؤوط بحيِّ الدِّيوانيَّة، حيثُ استوطَنَت الأُسَر اليوغسلافيَّة المهاجرة، وكان الشيخ الألبانيُّ رحمه الله ممَّن يشهد خُطبتَه ويصلِّي خلفَه، وقد استمرَّ في خَطابَة هذا الجامع نحو خمسَ عشرةَ سنة، ثم انتقل إلى جامع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، وكان سعى في إنشائه مع بعض أهل الخير في حيِّ القَدَم جنوبيِّ دمشق، وبقيَ فيه عِقْدًا كاملاً، ثم كُلِّف بالخَطابة بجامع الإصلاح بحيِّ الدَّحاديل، ودامَت خُطبتُه فيه أكثرَ من عشر سنين، لينتقلَ بعده إلى حيِّ المِزَّة غربيِّ دمشق خطيبًا لجامع المحَمَّدي، الذي استقطَبَ آلافَ المصلِّين، جلُّهم من شباب الصَّحوة وطلاَّب العلم، وكان للشيخ درسٌ عامٌّ يعقده بعد كلِّ خُطبة، يجيب فيه عن أسئلة المستَفتين، وقد كنتُ ممَّن شرَّفهُم الله تعالى بحُضور تلك الخُطَب والدروس والانتفاع بها سَنوات، وما زال الشيخُ خطيبًا لجامع المحَمَّدي حتى صدر القرارُ بعَزْله عن الخَطابة، بعد ثماني سنوات قَضاها فيه، وذلك سنة 1415 هـ، وأدعُ الحديثَ لشيخنا يُخبرنا بقصَّة مَنْعه من الخَطابة، يقول: ألقيتُ في رأس السنة الميلاديَّة خُطبةً قويَّة، نصحتُ فيها شبابَ المسلمين بعدم تقليد النصارى، وتَرك مُجاراتهم في احتفالاتهم، وقد كان بعضُ المسلمين - ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله - يُشاركون النصارى في عيدهم، ويَشربون معَهُم الخمرَ، ويُراقصون نساءهُم .. فناديتُهُم من على المِنبَر: أن اتَّقوا الله، وذَروا ما أنتم عليه من مُتابعة للنصارى، وأورَدتُ في ذلك بعضَ الآيات فيهم، كقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم}، ومن هنا قيل: إن هذا الشيخَ يُثير النُّعَرات الطائفيَّة ويَدعو إليها، وكان قرارُ المنع.
كان الشيخ يعطي خُطَبه حقَّها من التحضير وحُسن الإلقاء؛ أداءً لأمانة المنبَر التي ضيَّعها اليومَ كثيرٌ من الخُطَباء، وأداءً لحقِّ المستمعين الذين قَدِموا إلى جامعِه من كلِّ صَوْب، وكان رحمه الله خطيبًا مُفوَّهًا مِصْقعًا، أمَّارًا بالمعروف نَهَّاء عن المنكَر، صادرًا في ذلك عن علم غَزير، وفكر سَديد، وبيان مُشرق، وحَميَّة لدين الله جَيَّاشَة.
وقد أحسنَ الله إليه بأن وهَبَه قُدرةً على التأثير عَظيمة، فإذا ما انطَلَق في خُطبته رأيت الناسَ قد تعلَّقَت به أبصارُهم، وكأن على رؤوسهم الطَّير.
وكان الغالبُ على خُطَب شيخنا أن يبدأَها بسَرد حديث نبويٍّ شريف، مع ذكر الصَّحابيِّ راوي الحديث، والأئمَّة المخرِّجين، ثم يُتَرجمُ بإيجاز للصَّحابي والمخرِّجين، ثم يَشرَعُ في تفسير الحديث، واستنباط الفَوائد والعِبَر منه، يُدير الخطبَة كلَّها عليه، مُستشهدًا بعشَرات الآيات والأحاديث الدَّاعمَة للفكرَة، لا يذكُر حديثًا منها إلا مُخرَّجًا.
أما التعليمُ والتدريس فقد وَلَجَ مَيدانَه في وقت مُبكِّر أيضًا، حين انتُدبَ للتدريس في المدرسة الابتدائيَّة التي تخرَّج فيها، وهي مدرسةُ الإسعاف الخَيريِّ، في نحو سنة 1373 هـ، وقد أُنيطَ به تدريسُ القرآن والتجويد وبعض العُلوم الأخرى، وفيها تجدَّد لقاؤه بشيخه صُبحي العَطَّار، الذي فرح فرحًا عظيمًا بتلميذ الأمس الصَّغير، الذي غَدا زميلَه في التدريس.
وفي سنة 1381 هـ تحوَّل الشيخُ إلى المعهَد العربيِّ الإسلاميِّ، مدرِّسًا للقرآن والفقه، واستمرَّ فيه زمنًا، ثم انتقلَ إلى معهَد الأمينيَّة، الذي سُمِّي فيما بعد: المعهَد الشرعيَّ لطلاَّب العُلوم الإسلاميَّة، ثم أُطلق عليه اسم: معهَد الشيخ بدر الدِّين الحَسَني، وبقي يعلِّم فيه إلى ما قبل سنتين تقريبًا، وكان الشيخُ من المدرِّسين في دَوراتِه الصيفيَّةِ المكثَّفَةِ عظيمةِ النَّفْع، وقد كنتُ من المنتَسبينَ إليها كما ذكرتُ في بداية المقالة، وقرأنا على الشيخ فيها عددًا من الكتُب، ففي الفقه الشافعيِّ درَّسَنا كتابَ الإمام الحِصْني ((كفاية الأخيار في حلِّ غاية الاختصار))، وفي علم مُصطَلَح الحديث قرأنا عليه كتابَ الإمام النَّوَوي (( إرشاد طلاَّب الحقائق إلى معرفة سُنَن خير الخلائق ))، و((الباعث الحَثيث شَرح اختصار علوم الحَديث)) للشيخ أحمد شاكر، و((قواعد التحديث)) لجمال الدِّين القاسِمي، و((تدريب الرَّاوي)) للسُّيوطي، و((شَرح ثُلاثيَّات الإمام أحمد)) للسَّفاريني.

وكان للشيخ رِحْلاتٌ دعويَّة كثيرة إلى عدَد من دُوَل الخليج، يُلقي فيها المحاضرات ويَلتقي أهلَ العلم والفَضل، إضافةً إلى رِحْلاتِه المتَتابعَة إلى بلده كوسوفا وما حولَها؛ لدَعوَةِ أهالي تلكَ البلادِ إلى الدِّين القَويم، وتَبصيرِهم بأحكام الإسلامِ العظيم، مُستفيدًا من إتقانه للُّغَة الألبانيَّة، وكان انتَدَبه للسَّفَر إليها سَماحَةُ الشيخ عبد العَزيز بن باز مُفتي المملكة العربيَّة السعوديَّة رحمه الله تعالى، وقد كانت تَربطُه بالشيخ علاقَةٌ من الوُدِّ والمحبَّة والتقدير وَثيقَة.
 
فكـرُه ومَنهَـجُه :
لقد كان من نعَم الله السَّابغة على شيخنا أن هيَّأ له في مَطلَع شبابه رجُلاً كريم الخِلال حَميد المناقِب، ذا شخصيَّة فذَّة في العلم والأخلاق، لا تحسَبُه إلا من جيل الصَّحابة الكرام، ممَّن تتلمَذ لسيِّد الخلق، تأخَّر به الزمان فعاشَ بيننا؛ ليكونَ مثالاً يُقْتَفى، وقُدوَة تتَّبَع، إنه فضيلةُ شيخنا المعَمَّر بقيَّة السلَف الصالح العلاَّمة المربِّي عبد الرَّحمن الباني، حفظه الله تعالى وأمتَع به، وبارك في عُمره = هيَّأه الله ليكونَ ناصحًا أمينًا للشابِّ عبد القادر الأرناؤوط، يأخُذ بيده ويدلُّه على الجادَّة اللاَّحِبَة الآمِنَة، ولقد بَهَرت شخصيةُ الباني فقيدَنا، فأقبل عليه يَنهَلُ من خُلُقه الرَّضِي، ومن علمه النافِع، وما أكثرَ ما سمعتُ - وسمع إخواني - شيخَنا الأرناؤوط يُثني على العلاَّمة الباني، ويُرجع إليه الفضلَ، بعد فضل الله سبحانه، في تَعريفه بمنهَج السلَف الصالح، وبالفكر السلَفي النَّقي، ولنُصْغ إليه يُنْبئنا خبرَه، يقول: كنتُ في شبابي خطيبًا مِقْوَلاً، أعتَلي المنبَرَ وأخطُب الناس بحماسة واندفاع، يكادُ المسجد يَزَّلزَلُ من قُوَّة خُطبتي وارتفاع صَوتي، وكنت حينَها أرتدي عِمامَةً عاليةً كالأبراج، وجُبَّةً سابغةً أكمامُها كالأخْراج، فكانت نفسي تخدَعُني وتُوَسوسُ إليَّ بأنْ ليس على الأرض مثلي، وحينما أفرُغُ أنزل من على المنبَر وشُعوري كمَن خرجَ من معركة ضارية غالبًا مُنتصرًا، وكان يُقبل إليَّ بعدَ الصلاة رجُلٌ مهذَّب وَديع، يسلِّم عليَّ بابتسامة عَذبة آسِرَة، ويُثني عليَّ وعلى خُطبتي، بعبارات تملأُ نفسي سعادةً وغِبطَة، ثم كان يستأذنُني في إبداء بعض الملاحظات، بأُسلوب في غايَة الرِّقَّة، فكنت أرحِّبُ بملاحظاته، وأفتَح لها قلبي قبل أُذني، فيقولُ لي: يا بُنَيّ، بارك الله فيكَ، وجزاكَ خيرًا، خُطبتُك رائعةٌ ممتازة، ولكنْ ليتَك لم تستَشْهد بالحديث الفُلاني، فإنه موضوع، ولا يَنبغي يا ولدي الاستشهادُ بما لا يَصحُّ عن رسول الله r، وقد وَرَدَ عن رسولنا في مَعناه أحاديثُ صحيحةٌ يحسُن الاستشهادُ بها، منها ... ويذكُر لي بعضَها، وهكذا كان بعدَ كلِّ خُطبة يُسدي إليَّ نصائحَ ذهبيَّة، يَنهاني فيها عن بدعَة كنتُ بها جاهلاً، أو يَلفتُني إلى سُنَّة مَهجورَة كنتُ عنها غافلاً، كلُّ ذلك يقدِّمه بتَواضُع جَم، يُجبرُني معه على الاستِجابَة، عن رضًا وسعادَة، ولساني يَلهَجُ بالدعاء له، والشُّكر لصَنيعه، ولقد كان لي في أُسلوبه الحكيم أُسوةً حسنَة، جزاهُ الله عنِّي خيرَ الجزاء.
قلتُ: ولعلَّ الشيخَ الباني هو الذي دلَّه على كتُب شيخ الإسلام رحمه الله، ورغَّبه فيها، حتَّى استَحكَم حبُّ شيخ الإسلام من قَلبه، وارْتَضى طَريقَته القَويمَة، ومَنهَجه الحقَّ، دينًا يعبُد به ربَّه، ويَزدَلفُ به من رضوانه، وقد دفَعَ ثمنَ حبِّه لشيخ الإسلام - ومطالعة كتُبه وكتُب تلميذه ابن القيِّم - غاليًا، فلم يكُن يَدري يومَذاك أن النظرَ في كتب الشيخَين جَريمةٌ لا يَغفرُها مشايخُ عصره - الذين نَشَؤوا في أعطاف التصَوُّف، ورَضَعوا معَه العصَبيَّة والتقليدَ والجُمود - ولا بدَّ معها من مُحاكمة وعُقوبة، وحقًّا حوكم شيخُنا لقراءته كتابَ (( الوابل الصَّيِّب )) لابن القيِّم، وصَدَرَ الحُكمُ بطَرده من حَلْقَة شيخه الفُرْفور؛ جَزاءً وِفاقًا !! وطُردَ معه الشيخ شُعَيب؛ إذ كان رفيقَه فيها.
ويتلخَّصُ فكرُ شيخنا ومَنهَجُه: باتِّباع سلَف الأمَّة من الصحابة والتابعين والعُلَماء العاملين رضوان الله عليهم، واقتفاءِ خُطاهُم، والنَّسج على نَوْلِهم، في التمسُّك بكتاب الله وسنَّة نبيِّه الصحيحة، والعمَل بمُقتَضاهما.
ومن تَمام نِعَمِ الله عليه أن أُوتيَ فطرةً في طلب العلم سَليمَة، تدعوه إلى البَحث عن الحقِّ، والحِرص على الصَّواب، من غير تَقديسٍ للأشخاص، أو تعَصُّب لرأي إمامٍ أو فَقيه، أيًّا كانت مَنـزلَتُه في العلم، أو مكانَتُه في الفَهم، رائدُه في ذلك قولُ الإمام مالك: (( كلٌّ يؤخَذ من قَوله ويُترَك إلا المعصوم r )).
 
شَـمائلُه وسَـجاياه:
للقَول في أخلاق شَيخنا ونُعوته أُفُقٌ رَحبٌ وفَضاءٌ واسِع، وحَسبُك أن تعلم أن كلَّ من عَرَفَه من قُرب، واتَّصَلَت أسبابُه بأسبابه، رآهُ صورةً صادقَة، وأُنموذجًا فَذًّا، لما كان عليه سلَفُ الأمَّة؛ رفعَةَ خُلُق، وجَمالَ عِشرَة، ولينَ جانب. ولا غَرْوَ، فقد عاش حياتَه بصُحبَة سيرة سيِّد الخلق r، وسيَر أصحابه شُموس الهِدايَة رُضوان الله عليهم، فتخلَّق بأخلاقهم، وتحلَّى بشَمائلهم، وإننا لنَرجو له أن يكونَ يومَ القيامَة من أقرب الناس مَجلسًا من رسول الله r؛ لتحقُّق أسباب ذلك فيه، فقد كان دَمِثَ الأخلاق، موَطَّأ الأكناف، يألَفُ الناسَ ويألفونَه، وكأني بربِّ العزَّة تبارك وتعالى قد نادى في أهل السماء: إني قد أحبَبتُ عبدي عبد القادر فأحبُّوه، فكان له القَبول في الأرض. فوالله، لا أعرف رجُلاً اجتمعَت على محبَّته القلوب، وائتلَفَت على مودَّته النفوس، كالشيخ رحمه الله تعالى.

كان مِلْءَ العَينِ خُلْقـًا عاليًا  *** ومُروءاتٍ وفَضـلاً و وَفـا

جمعَ الأخـلاقَ والعلمَ مـعًا ***  فهُـما في بُردتَيـه ائتَـلَفا

وهو إلى هذا شديدٌ في الحقِّ، لا يُماري فيه ولا يُداري، بل يَصدَع بالنصح، غيرَ هيَّاب ولا متردِّد، وإذا ما انتُهكَت حُرمةٌ من حُرَم الله، تراه كالبُركان ثائرًا فائرًا، يكادُ يتميَّز من الحَنَق والغَيظ، يقول ما يُرضي ربَّه، ولا يخافُ في الله لومةَ لائم.
وكان فيه شُموخٌ وأنَفَة بيِّنَة، وعزَّة بالله ودينه عظيمَة، يَمقُت النفاق والمنافقين، ويشنأ طرائقَهم الملتوية وتسلُّقَهم على أكتاف الآخرين؛ في سبيل تحقيق مَنافعهم الخَسيسة، والفوز بمآربِهم الذَّميمة.
وكان الشيخُ رحمه الله عفَّ اللسان، واسعَ الصدر، حَليمًا، لا يغتاب أحدًا، ولا يُحبُّ أن يُغتابَ في مجلسه أحدٌ. ولقد سمعتُه مرارًا يُسأل عن بعض العُلَماء والدعاة المخالفين له في المنهَج، فلا يُجيب إلا بما يُرضي الله، مقدِّمًا حسنَ الظن والتماس العُذر.
ولقد حضَرتُ في مجلسه ذاتَ يوم شابًّا من طلاَّب العلم ! بذل وُكْدَه في استدراج الشيخ للوَقيعَة بأحد العُلَماء، ولكنَّ الشيخ خيَّبَ مسعاه وأبى أن يَفوهَ إلا بالخير، وما زال الطالبُ يناقش ويُجادل حتى ضاقَ أهل المجلس به ذَرعًا، والشيخ صابر عليه، يدفَعُ قولَه بالَّتي هي أحسَن.
أما كرَمُه وسَخاءُ نفسه فالحديثُ عنهما ذو شُجون، فقد كان الشيخُ ذا يدٍ حانيَة، رَقيقًا عَطوفًا، لا يرُدُّ سائلاً، ولا يقصِّر في عَون، ما قَدَر على ذلك.

تَراهُ إذا ما جئتَهُ متَهَلِّلاً كأنَّكَ  *** تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُه

وأذكرُ أنني زُرتُه - أيام الدراسة الجامعيَّة - مع عدد من زُمَلائي الأضِرَّاء، فرَقَّ لهم جدًّا، وأخذ يشجِّعُهم على تحصيل العلم ومُواصَلة الدراسة، ويُعَزِّيهم بمُصابِهم الذي ابتلاهُم الله به، وروى لهم عددًا من الأحاديث الشريفَة في فضيلة الصَّبر على فقد البَصَر، وما أعدَّه الله للصابرين من أجر يومَ الحساب، ولم يكتَفِ الشيخُ بهذا، بل أمسك بأيديهم ودخلَ بهم إلى الحُجرَة المجاورة، ثم لم يلبَثوا أن عادوا، ولما خرَجنا من بيت الشيخ علمتُ أنه أعطى كلَّ واحدٍ منهم مبلغًا من المال؛ تَطييبًا لخاطرهم، ومساعدةً لهم.
وأما تواضُعُه وإنكارُه ذاتَه، فشيءٌ دون وَصْفه خَرْطُ القَتاد، فقد بلَغَ مرتبةً من التواضُع عالية - مع الحفاظ على العزَّة والهيبَة - متأسِّيًا في ذلك برسول الله r، فتَراه منبَسطًا في الحديث مع ضُيوفه وزوَّاره، يصغي إليهم - ولو كانوا من العامَّة - ويوليهم من اهتمامه وعنايتِه ما يشعُرُ معه كلُّ واحد منهم أنه هو ربُّ المجلس، وكان من عادَته المحبَّبة التي يتألَّف بها قُلوبَ العامَّة، أنه لا يَدخُل بيتَه زائرٌ إلا رحَّب به بحرارة، وسأله عن اسمه ونسبه ومهنَته ومن أيِّ بلد هو، مع ما في ذلك من مشقَّة وإرهاق لشيخ يحبو نحو الثَّمانين، ولكنه كان يتقرَّب إلى الله بإدخاله السعادَة إلى قلوب الناس.
ومن المواقف الدالَّة على تواضُعه، وبُغضه للشُّهرة والظهور: لما توفي المربِّي الشيخ أحمد الشامي مُفتي الحنابلة بدُوْمَة سنة 1414 هـ ، تدفَّقَت جُموع المشيِّعين من دمشق ودُوْمَة بالآلاف، وتجمَّعوا عند بيت الشيخ أحمد ينتظرونَ خروجَ الجِنازة، وكنتُ فيمن حضَر فرأيت شيخَنا الأرناؤوط بين الجموع مُتنحيًا جانبًا يذكر الله تعالى، فأقبَلتُ عليه مُسلِّمًا وبقيتُ معه نتبادل بعضَ الأحاديث، وكان أحدُ المشايخ قد تولَّى تنظيمَ الجنازة، فكان يَصيح بالجُموع يدعوهُم إلى التزام السنَّة في الجنازَة إنفاذًا لوصيَّة المُتَوفَّى، ثم طلبَ من العُلَماء والمشايخ التقدُّمَ ليسيروا في مقدمة المشيِّعين، وكرَّر النداءَ مرات، و بدأ المشايخُ يتقدَّمون، وشيخُنا لا يبرَحُ مكانَه، فقلتُ له: ألا تتقدَّم يا شيخَنا إلى الأمام ؟! فأجابني: شيخي هو يُنادي أهلَ العلم والمشايخ، وأنا طالبُ علم لا عالم ! ثم قال: تعرفُ جامع دُوْمَة الكبير الذي سيُصلَّى فيه على الشيخ ؟ فقلتُ له: نعم، فأخذ بيَدي، وقال: هلمَّ بنا إليه قبل أن تَحولَ بيننا وبينه هذه الجُموع، ومَضَينا إليه سالكين بُنيَّات الطريق، مُتَجنِّبين الجُموع الغَفيرَة المتدافعَة.
ومن خِصال شيخنا الحَميدَة عظيمُ وَفائه لأصحاب الأيادي البِيْض عليه، وحتى شَيخُه محمَّد صالح الفُرْفور - الذي طرَدَه من حَلْقَته لقراءته في كتُب شيخَي الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم - فإنه كان يذكُرُه بالخير دائمًا، ويدعو الله له بالرَّحمة والمغفرَة، بل كثيرًا ما كان يقول: لقد تعلَّمتُ من الشيخ صالح مَخافَةَ الله عزَّ وجَلَّ.
و وَفاءً لذكرى شيخِه ولمعهَده الشرعيِّ الذي أسَّسَه وهو معهَد الفتح الإسلامي: أهدى - قُبَيلَ وفاته - جزءًا من مكتبته العامِرَة الغَنيَّة [ 17 صُندوقًا ] إلى مكتبة المعهَد؛ لتكون وَقفًا على طلاَّب العلم الشَّرعي، وقد خُتمَت الكتُب كلُّها بالعبارَة التالية: ( صدَقَةٌ جاريَةٌ لطلاَّب العلم، تقديمُ: عبد القادر الأرناؤوط، رجاءَ دعوةٍ صالحةٍ له ولزوجَته وأولاده ).
 
وَفاتُـه وجِنـازَتُه:
فجرَ يوم الجمعة، الثالثَ عشرَ من شوَّال، من هذه السنة 1425 هـ ، ( الرابعَ عشرَ بتأريخ المملكة؛ لاختلاف رؤية الهلال )، قَضى الله تعالى قَضاءَه الحقَّ بوَفاة شيخنا أبي محمود، وهو أوفَرُ ما يكون نشاطًا وصحَّة، عن ثمانٍ وسبعينَ سنةً قضاها في مَيادين العلم والتعليم، والنُّصح والتربية، فارسًا من فُرسانها غيرَ مُدافَع.

 

وقالوا: الإمامُ قَضـى نحبَـهُ  *** وصَيحةُ مَن قد نعاهُ علَـتْ
فقلتُ: فما واحـدٌ قد *** مَضى ولكنَّـهُ أمَّـةٌ قد خَلَـتْ

ولعل من بِشارات الخير لشيخنا أن تكونَ وفاتُه عقبَ عبادات متتالية، فقد اعتمَر الشيخُ في شعبان، ثم صام رمضان، ثم أتبعَه بصوم الستِّ من شوَّال، وكان اليومُ السادس منها هو يومَ الخميس السابقَ ليوم وفاته، وقد أخبرَني أحدُ المقرَّبين منه أنه عندما أفطر مَغرِبَ الخميس قال لأمِّ أولاده: (( الآن عيَّدنا يا أم أحمد ))، أو عبارة نحوَها، فكانت وفاتُه فجرَ اليوم التالي، رحمَه الله تعالى رحمةً واسعة.
وفي مَشهَد مَهيب خرج آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والعامَّة تُجلِّلُهم الأحزانُ إلى جامع الشيخ زَيْن العابدين التُّونُسي بحيِّ الـمَيدان؛ لأداء حقِّ الشيخ الجليل عليهم، وتقدَّم ولدُه الكبير محمود للصَّلاة عليه عَقِبَ صلاة الجُمعة، وكان ألقى خطيبُ الجامع فضيلةُ شيخ قرَّاء الشام محمَّد كريِّم راجِح خُطبَةً مؤثِّرة بكى فيها وأبكى، أشاد فيها بمناقب فَقيد العلم والدعوة، ونوَّه بفقهه وفضله ونُبْل أخلاقه.
ثم وُوريَ الشيخ في مَثواه الأخير من دار الدنيا في مَقبَرة الحَقْلَة بحيِّ الميدان، لتُطوى صفحةٌ جديدَةٌ من صَفَحات العلم والدَّعوة والإرشاد.
رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجعَلَ قبرَه روضَةً من رياض الجنَّة، وأنزله منازلَ الشُّهَداء والصِّدِّيقين، وعَوَّض أمَّتنا خيرًا، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا: إنَّ لله ما أعطى، ولله ما أخذ، وكلُّ شيء عندَه بأجَل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله العَليِّ العَظيم.

تعليقات الزوار

..

أبو حفص الأثري - الرياض -

٨ أغسطس ٢٠١٣ م

أكرمني الحق أن زرت الشيخ في منزله منذ 13 سنة تقريبا فألفيته صادقا كريما سمحا عالما متواضعا مضيافا ......رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته ...........

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع