..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

أمة الظلم

أحمد أبازيد

٢٩ نوفمبر ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3334

أمة الظلم
ابازيد 00098.jpg

شـــــارك المادة

"يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا" (حديث قدسي)

في دعوته ومسيرته ونصوصه المقدسة، تأسس الإسلام منذ البداية كدعوة لكرامة الإنسان وكثورة ضد الظلم وكنظرية مكتملة للعدالة، ولا يمكن مقارنة الإلحاح القرآني على التوحيد وعواقب الشرك، إلا بإلحاحه على العدل وعواقب الظلم على الأفراد والأمم.

لقد تأسس الإسلام كثورة في التاريخ على الواقع الفكري والسياسي والحضاري بالعموم، وعلى خلاف حركات أو دعوات "إسلامية" لاحقة كرست جهدها لإلغاء شخصية الفرد وتكبيل إنسانيته، فإن هذه الثورة لم تكن لتقوم لولا الفرد المؤمن بدعوته الواثق بذاته وبإنسانيته الكاملة.

وبعدما كان مستعبداً للأوثان أو الممالك، ألغى الإسلام بدعوة التوحيد آلهة الأرض من حجر أو بشر، لقد كان التوحيد ميثاق حرية عقلية وروحانية ومادية قبل أن يكون درساً في العقيدة، وما قامت عليه الثورة في الأرض من تكريم الإنسان بشخصه ومن مسؤوليته عن أفعاله بشخصه أكده النص القرآني مراراً: "وكلّهم آتيه يوم القيامة فردا" (مريم 95)، "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الأنعام 164).

ولكن هذا الكائن الذي تحققت إنسانيته ووعيه بذاته ومسؤوليته، ليس كياناً معزولاً عن دوره في المجتمع والتاريخ، ولا هو "حمامة المسجد" ولا راهب الدير المهموم بخلاصه الفردي، لأن هذا الخلاص مرهون بمسؤوليته الأخلاقية في واقعه، وبشرف "الأمانة" التي حملها الإنسان، ولن يزيل عبء الأمانة عنه أن سلّم عقله أو حريته لسواه، فالشخصية المسلمة قد بدأت بالإيمان المبني على الوعي "اقرأ"، وعلى هذا الوعي تدرك موقعها ودورها في الوجود، وتدرك موقفها من قضية العدالة، وخطيئة القبول والتبرير بالجهل أو التبعية أنها  تناقض وعي الفرد بإنسانيته وذاته، وبالتالي فهي نقص في حرية الإنسان وفي إيمانه وفي تحمله لمسؤوليته.

وفي محكمة الله والتاريخ، فلا حجة يمكنها أن تسقط واجب الإنسان في موقفه ضد الظلم، بأي وسيلة تيسرت له، سواء بسلاحه أو صوته أو قلبه حين ينسدّ عليه الهواء والطرق، "وذلك أضعف الإيمان" هذا صحيح نعم... ولكن "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله"، لأنه هو المؤمن الذي تقوم عليه الثورة والأمم، وهو الذي يضمن العدالة للإنسان.

إن قضية العدالة مطلقة ومرتبطة بالإنسان بالمطلق، وهي غاية أولى من الرسالات الدينية وتنزيل الوحي وإرسال الأنبياء إلى الإنسان، "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد 25)، ولا تتأثر قضية العدالة بالمحبة والكراهية، "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"(المائدة 8)، ولا تغيرها طبقة السلطة والمال، "إنّما أهْلكَ مَنْ كان قبلكم أنّه إذا سرق فيهم الشّريفُ تركوهُ وإذا سرق فيهم الضّعيفُ قطعوه" (حديث شريف)، ولا يلغي الأمر بالعدل والقسط اختلافُ الفكر والدين، "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة 8).

لا يقوم مجتمع دون ميثاق -معلن أو عرفي- يضمن قدراً من العدالة والمبادئ الأخلاقية الناظمة لوجوده ومعاملاته، إن الأفراد المؤمنين بقضية العدالة في المجتمع هم ضميره الأخلاقي اليقظ وهم ضمانة حياته واستمراريته أيضاً، "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود 117)، وهذه اليقظة الأخلاقية وتحمل عبء الأمانة والقيام بالمسؤولية الإنسانية في الأرض برفض الظلم وحماية الحقوق هو دلالة ومعيار "الخير" لدى الفرد والأمة وهو مقترن ومساوٍ للإيمان بالله، "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران 110).

ولكن حين يقع الظلم من جماعة أو مجتمع أو دولة ولا تقف بوجهه الحواجز ولا يصرخ بوجهه الغضب المقدس ولا الأيدي الحرة ولا القلوب الصادقة، حينها يكون هذا ظلم الجميع ومسؤولية الجميع ولم يعد ظلم المباشرين له وحدهم، وتتحول الجماعة إلى أمة ظالمة، "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الأنفال 25).

"الظلم مؤذن بخراب العمران" كما يقول ابن خلدون، و"الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة" كما يقول ابن تيمية، وحين يغيب الأساس الأخلاقي ويتم شرعنة الظلم وتستسيغه الجماعة وتبرره منابر الرأي والسلطة ويضمحلّ المصلحون، فإن بنيان الأمة وهمٌ كبير على شفا هاوية، ومآله الانهيار حتماً، "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (التوبة 109).

تقوم نظرية العدالة القرآنية إذن على مسؤولية الإنسان ودوره في الوجود، وعلى مطلقية العدالة كغاية للدين وشرط للإيمان وأساس للحضارة، وعلى أن سيادة الظلم وغياب المصلحين والثوار يحلّ روابط المجتمع ويسقط الدول. وعلى أن أمة الظلم مآلها السقوط والهلاك سواء بالسنن الكونية أو الشرعية.

وفي أمة الظلم يغدو الشرع والقانون أداة الأقوى، والمحاكم سخرية السلطة من ضحاياها، والدين لعبة المنتصر، ولا يسمع صوت المظلومين سوى صدى اللامبالاة السحيق، ويركن المصلحون رؤوسهم دعائم ساكنة لبنيان الظلم بينما يوهمون أنفسهم أنهم يصلحون البيت من الداخل، وتكون العلاقات العامة أهمّ وأجدى من كلمة الحقّ في الأزمات والكوارث، وقد يتغير المناضلون إلى مستبدين، ويستقر المقهورون على كراسي القهر، ويمسك معذبو الأرض أسواط جلاديهم القدامى، وتلعنُ الشعارات خيانة أصحابها، ويخفت صوت الحكمة دفيناً تحت خطابات التبرير للخطايا التي أضحت أمجاد الحاكمين، وتضمحلّ أسس التراحم والتعاقد في المجتمع ما دامت الحقيقة والشرع رهن القوة المتغلبة، وتنحلّ روابط الجماعة بين ممالك الظلم وإمارات القهر ومزاجية العدوان، وتنفضح هشاشة البنيان الكبير مع أول ريح تذرو هشيم الآفلين والأمة الهالكة.

إن أول صفات الثائرين، وما يجعلهم ثواراً في الحقيقة ويمدّ شرايينه بينهم كنسب وثيق عابر للأرض والأزمنة، إنما هو هذه الحساسية ضد الظلم، والانحياز المتعصب لقضية العدالة، ولو لم نعرف المظلوم، ولو كان الظالم من لحمنا ودمنا، وهذا الوسواس القهري من وجود الظلم والعصاب المرضي من نقصان العدالة، هو دلالة يقظة الضمير الإنساني للفرد ومعيار صحة الجسم الأخلاقي لأي ثورة وقضية وجماعة، وعلى هذا التفوق الأخلاقي والموقف المبدئي تقوم القضايا وتتنفس وتستمر.

لقد كان هذا درس الثورة السورية لتاريخ العدالة البشرية، حين قدّم حشود شعبنا الثائر أجسادهم لرصاص الطاغية جدراناً في وجه الظلم، ورفعوا أصواتهم أمام المذبحة ولو كان الثمن أن يكون الجحيم القادم في دورهم وأهلهم، وحين هتفوا غاضبين لأطفال درعا ولجرح كل مدينة ولو لم يعرفوا منهم أحداً سوى أنهم شعبهم المظلوم، وحين رفعوا رؤوسهم لسنين -وما زالوا- أمام المشانق والمقاصل والمذابح والحرائق ولم يرضوا أن يحنوها لطاغية سفاح.

هذه عقيدتنا التي أحيتْ فينا جذوة الكرامة وأحيينا بها التاريخ، والتي يجب أن نتذكر بها كل مظلوم ونذكّر بها كل ظالم، وإن طال ليل الظلم فإن إيمان المناضلين لأجل الحق والعدالة ينبغي أن يكون أرسخ وأطول.

 

 

الجزيرة نت

 

 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع