عماد الدين خيتي
تصدير المادة
المشاهدات : 3710
شـــــارك المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن مسألة الحكم بما أنزل الله من أعظم القضايا، وأهم المسائل التي ينبغي للمسلم معرفتها والعناية بها، وفي هذا بيان لأهم نقاط هذه المسألة:
مفهوم الحكم بما أنزل الله: الحكم بما أنزل الله يعني: أن تكون الشريعة الإسلامية منطلَق المجتمع المسلم والإنسان في جميع شؤون حياته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وحاكمة على جميع أحواله ومرجعه في كل أموره، ولا يقتصر على الرجوع إليها عند وجود عارض أو وقوع نزاع، أو حصول خصومة فحسب، كما قال تعالى: ”قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” (الأنعام:162 – 163)
الحكم بما أنزل واجب كل مسلم: الحكم بما أنزل الله يعم كل مسلم، كلّ في مجاله، فالواجب على المسلم أن يخضع للشرع في نفسه، وفي علاقته بغيره، وكل من ولي ولاية على غيره فهو مطالب بالحكم بما أنزل الله سواء كانت ولايته في حكم البلاد، أو كانت في التربية أو الدعوة أو القضاء في الدماء، أو الأعراض، أو الحقوق، أو الإصلاح بين الناس، وغير ذلك، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: كل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان، أو منتصباً للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام” فالحكم بما أنزل الله ليس خاصاً بحكم البلاد، كما قد يتوهمه بعضهم، وإن كان هو أعظم الحكام والمسؤولين.
الحكم بما أنزل الله شامل لجميع جوانب الحياة: الحكم بما أنزل الله يعني التعبد لله سبحانه وتعالى في كل شأن من شؤون الحياة: للفرد والأسرة والمجتمع والدولة فيدخل فيه: إقامة الصلوات وإعمار المساجد وإتاحة الدعوة إلى الله وتعليم دينه وبيان الأحكام الشرعية في مختلف المجالات ورفع الظلم وإعادة الحقوق إلى أصحابها وحفظ الأمن ومحاربة الفساد بجميع صوره ورعاية أمور الناس في أموالهم ومصالحهم وفض النزاعات بين الناس. فالحكم بما أنزل الله يعني إقامة الدين الذي رضيه الله، وأوصى به أنبياءه، قال القاضي أبو بكر ابن العربي في “أحكام القرآن” عند قوله تعالى: ”شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”(الشوري:13) “وكأن المعنى: ووصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والزكاة والصيام، والحج، والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال، والتزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والإذاية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما كان، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات”.
وبهذا تتحقق العبودية لله تعالى بمعناها الواسع، قال ابن تيمية في الفتاوى” العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل ، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة”.
مميزات تحكيم الشريعة الإسلامية: خص الله تعالى شريعة الإسلام بأن جعلها خير الشرائع وأكملها، فختم بها الرسالات، وجعلها ناسخة لما قبلها، ومن كمالها أنها صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وعلى أي جزء من أجزاء المعمورة، ولجميع الأمم، وكل الأجناس والشعوب، كما أنها معصومة من التحريف، وتتميز بالثبات، والعدل، والتوسط، واليسر، وتتميز بالمرونة، لملاءمة الأحداث التي تمر بها الأمة، قال تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” (المائدة: 3)
منزلة التحاكم إلى شرع الله: أرسل الله تعالى رسله وأمر بطاعتهم، وأنزل عليهم الكتب بالحق ليتحاكم الناس إلى شرع الله، قال تعالى: ” لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد: 25). وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل عليه، فقال: “وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ” (المائدة: 49). وجعل التحاكم إلى شرعه شرطاً لتحقيق الإيمان، ودليلاً عليه، وقرن ذلك بالرضا بحكم الله مع الاستسلام والخضوع التام له، قال تعالى: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” (النساء: 65). وبين أنه لا يجتمع الإيمان بالله ورسله مع التحاكم لغير شرع الله: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا” (النساء: 60). وإن إيمان العبد لا يكتمل إلا بالرضا والتسليم لحكم الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا” (الأحزاب: 36). كما جعل تحكيم الشرع من الإيمان بوحدانيته، فإنه لما كان تعالى المتفرد بخلق هذا الكون وما فيه والمتفرد بملكه، والمتفرد بالتصرف فيه لما يشاء، لا شريك له في ذلك كله، فكان لا شريك له في عبادته ومن عبادته إفراده بالحكم والتشريع، قال تعالى: “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ” (الأنعام: 57) وقال سبحانه” أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ” (الأنعام: 62) وقال تعالى” وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا” (الكهف: 62) قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: ” تفرد الإله بالطاعة، لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه.. وكذلك لا حكم إلا له” . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الإخلال بهذا الأصل من أول ما ينقض من أصول الدين فقال: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة” اخرجه أحمد.
موقف الكفار من إقامة شرع الله في الأرض: إن من أعظم مكر الكفار سعيهم الحثيث ألا تقام شريعة الله في أرضه، على مر العصور، وفي كل بقعة من الأرض، فهم يعلمون أن إقامة ادين الله تعالى وتطبيق شرعه، فيه عز المسلمين وظهورهم، لذا فإنهم يبذلون جهدهم ويمكرون مكرهم لحرف المسلمين عن تطبيق شرع الله، قال تعالى: “وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ” (البقرة: 120) وقد حاول المشركون ثني الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك فثبته الله وأنزل بذلك قرآناً: “وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ” (المائدة:49) لذا يجب على المسلمين الحذر من كيد الكفار ومزالقهم وحيلهم، وبخاصة أن أكثر ما تكالبت عليه دول الكفر في منع إقامة شرع الله في أي بقعة من بلاد المسلمين كان في القرنين الأخيرين وإلى يومنا هذا قال تعالى”فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ” (الشورى: 15)
آثار إقامة دين الله وتطبيق شرعه: للحكم بما أنزل الله آثار عظيمة على الفرد والمجتمع ومنها: 1- تحقيق العبودية لله تعالى، وطاعته، واتباع أمره وفي ذلك رضوان الله ومحبته والسعادة في الدنيا والآخرة. 2- اجتماع كلمة المسلمين ووحدة صفهم. فإن خالف المسلمون أمر ربهم بعدم الحكم بشرعه ضلوا، وعوقبوا بوقوع الشقاق والعداوة بينهم، ثم كان عاقبة تشتتهم تسلط الأعداء عليهم، قال تعالى: “فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (البقرة: 137) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ” وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله (أي يطلبوا الخير) إلا جعل الله بأسهم بينهم” أخرجه ابن ماجه وغيره 3- الوعد بالنصر والتمكين، قال تعالى ” وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ” (الحج: 40-41) وما انحرفت أمة عن شرع ربها إلا أدركتها الهزيمة والهوان. لما فتحت مدائن قبرص جلس أبو الدرداء يبكي، فسأله جبير بن نفير عن سبب ذلك وهم في نصر، فقال: يا جبير بن نفير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره بينا هي أمة قاهرة ظاهرة على الناس، لهم الملك حتى تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى” أخرجه سعيد بن منصور. 4- السعة في الرزق، ورغد العيش قال تعالى: “وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ” (المائدة:66). قال الطبري في تفسيره” يعني لأنزل الله عليهم من السماء قطرها فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها فأخرج ثمارها”. فإن حكموا بغير ما أنزل الله أصابهم الله بالفقر ,وألبسهم شيعاً يذيق بعضهم بأس بعض، قال صلى الله عليه وسلم: “وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر” أخرجه الطبراني في المعجم الكبير. وإن ما تعانيه الأمة المسلمة في العصر الحديث ما هو إلا نتيجة لتنحية شرع الله تعالى عن الحكم في شؤون حياتها، فكانت عاقبة ذلك ما حل بها من أنواع الفساد والظلم والذل والمحق.
قضايا ومسائل في الحكم بما أنزل الله: كل ما وافق الشرع فهو مشروع وإن لم يرد به دليل خاص: فتحكيم شرع الله تعالى لا يعني أن يكون لكل نظام أو قانون نص شرعي خاص به، بل يكفي أن تكون منطلقات هذه الأنظمة وأسسها موافقة للشرع، مندرجة تحت القواعد العامة الكلية في الشريعة، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية وصلاحيتها للاستمرار في كل وقت ومكان، حيث إنها تورد الأحكام بما تقتضيه المصلحة الشرعية. فإذا كانت الأنظمة والقوانين محققة لمصالح العباد، غير مخالفة للشرع، فإنه مأذون بها شرعاً، قال صلى الله عليه وسلم” الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه” أخرجه الترمذي وابن ماجه. ومن هنا كانت القاعدة العظيمة في الإسلام” الأصل في الأشياء الإباحة”. وقد نقل ابن القيم في كتابه “إعلام الموقعين” عن أبي الوفاء ابن عقيل قوله: “السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد إن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي”.
من الحكم بالشريعة الإسلامية العمل بالشورى: فأمور المسلمين قائمة على الشورى، قال تعالى: ” وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (آل عمران:159) والطريقة المشروعة لتولي الحكم هي: الشورى والاختيار من عامة الناس، أو من ينوب عنهم من أهل الحل والعقد، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه” أخرجه البخاري. أما تولي الحكم تغلباً دون رغبة من المسلمين فمحرم، قال ابن حجر الهيثمي في الصواعق” المتغلب فاسق معاقب” وتمتد المشورة إلى جميع الأمور المهمة التي يمكن أخذ رأي الناس فيها، بحسب درجات المشاورة، قال القرطبي في تفسيره “قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها”.
إقامة الحدود والعقوبات من الحكم بما أنزل الله: قال الماوردي في “الأحكام السلطانية”: “والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به” لكن لا تنحصر إقامة الشريعة في إقامة الحدود الشرعية، بل قد يكون من إقامة الشرع عدم تطبيق بعض الحدود في بعض الأحوال كإقامة الحدود التي هي من حق الله تعالى في حال الحرب، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تقطع الأيدي في الغزو) أخرجه الترمذي. وبهذا صدرت فتاوى الهيئات الشرعية المختلفة في سورية.
الحكم بالشرع يسير وفق قواعد السياسة الشرعية: فإقامة الشريعة ليس لها نموذج واحد يجب السير عليه في كل مكان وزمان، بل إنها محكومة بقواعد كلية عامة، وللناس أن يطبقوها بحسب ما يستجد ويتغير من أدوات التطبيق والحكم، وقد سبق قول أبي الوفاء ابن عقيل. كما أن الشريعة راعت أحوال المخاطبين، واختلاف أمورهم وأحوالهم، فوسعت عليهم في زمن الضعف وعدم التمكن من إقامة الشريعة على وجه الكمال. ومن القواعد المهمة التي تضبط هذه الأمور: قواعد ” الاستطاعة”، و” مراعاة المآلات” و”لا تكليف مع العجز” و”الميسور لا يسقط بالمعسور”، وتحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، و”دفع أعظم المفسدتين باحتمال أخفهما”. ولكل قاعدة من هذه القاعد توضيحات، وشروح، وتطبيقات، وأمثلة في مختلف عهود الدولة الإسلامية. ومن كلام أهل العلم المندرج تحت هذه القواعد: قال ابن تيمية في الفتاوى: ” فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية. وقال: “فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتنناب ما يمكنه من المحرمات: لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار” وقال الشاطبي في الموافقات: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ” وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في الفوائد التي تستفاد من قصة شعيب مع قومه عند قوله تعالى” “قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ” (هود:91) قال: “لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتها وجعلهم عملة وخدماً لهم. نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة. والله أعلم”.
من الحكم بالشرع التدرج في إقامة الدين: وذلك عند العجز عن إقامة بعض الشريعة، ووجود قدر من المفاسد فتظهر الحاجة إلى التدرج في تطبيق الشريعة، وتكثيف الاهتمام بالتربية والتعليم، ونحو ذلك. قال ابن تيمية في الفتاوى: أما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء، أو الأمراء أو مجموعهما: كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه العمل به، ولم تأت الشريعة جملة. فكذلك المجدد لدينه، والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه، والعمل به، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعملن وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط”.
نسأله تعالى أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، وأن ييسر لها إقامة شرعها، وأن يوفق علماءها وحكامها لذلك.
والحمد لله رب العالمين.
نور سورية
أحمد عبد الرحمن الصويان
محمد العبدة
عامر البوسلامة
أنور قاسم الخضري
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير