عباس شريفة
تصدير المادة
المشاهدات : 5836
شـــــارك المادة
ولا يزال الكلام موصولا مع الأخوة عن أزمات الثورة السورية واليوم سيكون حديثنا عن أزمة القيم الأخلاقية. لم يمتدح البيان الرباني رسولنا الكريم بالنبوة وهو نبي ولا بالرسالة وهو رسول ولا بالعلم وهو عالم ولا بالنسب وهو صاحب نسب وإنما امتدحه بما كان يحمل من أخلاق وقيم قال تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) ولم يحدثنا القرآن الكريم عن أمم بادت بسبب نقص الموارد ولا الزلازل والحروب وانما يحدثنا عن الأمم التي بادت لم أتيت من قبل أخلاقها، وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليم مأتماً وعويلا. ربما لا يدرك الكثير منا أن أس الصراعات العالمية ومنها في ثورتنا السورية هي صراع بين القيم بين من يريد فرض قيم العلمانية والليبرالية والحداثة ذات المرجعية العقلية المنحازة ضد ديننا والتي تهدم الاسوار الأخلاقية أمام الرأسمالية العالمية وبين قيمنا الاسلامية التي تحمل في مكنونها شكلاً لنظام عالمي مستمد من الوحي. إن المرحلة تقتضي منا تجاوز عملية التثقيف السياسي إلى التربية السياسية بمعنى تحويل الكم المعرفي السياسي إلى قيم سياسية أخلاقية تصوب السلوك. فقد عانت ثورتنا من نضوب القيم السياسية بشكل ملحوظ (كالشورى /و العدل /وأداء الأمانة) في الأزمات والنكبات التي يتعرض لها المجتمع تتحمل القاعدة الأخلاقية كل ارتدادات الأزمة ويسهم التكافل الإجتماعي في تطويق وتفريغ شحنة هذه النكبات لذلك كان هناك تلازم بين متانة القاعدة الأخلاقية لأمة وقدرتها على الصمود والمواجهة والتحدي. إن الثورة الكاملة هي الثورة التي تنجز على ثلاثة مستويات في التغير الاجتماعي: إنجاز الاستحقاق /العسكري /والسياسي /والأخلاقي./ وإلا كانت ثورة بتراءو ستظل هذه الثورة تحمل بذور فنائها مهما أنجزت من انتصار عسكري أو مكاسب سياسية إذا ما كان أبناؤها ينحدرون في قيمهم ويتوحشون في أخلاقهم نحو الحضيض. إن ما يفسر تداعي وانهيار المشاريع السياسية والعسكرية بين مكونات الثورة في كل مرة هو غياب القاعدة الأخلاقية الصلبة كأساس للبناء. وبغيابها تتحول المشاريع الجامعة إلى ميدان لصراع النفوس. الثورة في حقيقتها هي ثورة المجتمع على نفسه على قيمه التي كانت تحمله على الصمت عن بغي ذلك الطاغية في صورة ذلك الطاغية الذي تتوجه له الحراب ثورة على الذات لتطهيرها من لوثات الطغيان. كان على الدعاة والمصلحين أن يعززوا ربط ثورتنا بقيمة أخلاقية محورية تكون مصدراً ملهماً وموجهاً عاصماً لبوصلتها وقاعدة للالتقاء بين أبنائها.
فلكل ثورة قيمة محورية تكون نبراس الإلهام لأبنائها، فالثورة الفرنسية رفعت شعار الحرية والثورة الشيوعية رفعة شعار المساواة ولتكن ثورتنا ثورة العدل. ظواهر الأمراض الأخلاقية تكاثرت كالثأليل في ثورتنا فقد رأينا كيف تنقض العهود والمواثيق وكيف توظف الفتوى لخدمة الجماعة وكيف يستباح المال والدم المعصوم وكيف يتهرب من الحكم الشرعي وظاهرة الامير الكذاب والشرعي الموظف عند الأمير وكله باسم الشرع. مع بداية الثورة السورية المباركة كان هناك انفتاح سائل على مواقع التواصل الإجتماعي وقد رأينا المستوى الأخلاقي المتردي في المناشير وفي التعليقات والردود بين أبناء الثورة الواحدة التي بندى لها الجبين والبعض كان يستعين بالأسماء المستعارة ليعطي لنفسه مزيدا من الحرية في السب والشتائم. لا أقول ولا أدعي أن مساحة الحرية التي أعطتها الثورة لأبنائها هي من أسهمت في هذا التحلل ولكن أقول إن الثورة ألغت القيود فظهرت بعض النفوس على حقيقتها عندما غاب الرقيب ولم تبق إلا رقابة الله تعالى من الطبيعي أن تظهر بعض العلل النفسية والأمراض الخلقية في شعب قضى أربع عقود من الزمن يرتشف من معين تربية الطغاة وهذا الأمر نفسه حصل مع بني إسرائيل لما خرجوا من قيد فرعون لذلك ليس من الإنصاف حصر الأزمة الأخلاقية في الثوار والفصائل بل هي مشكلة إجتماعية عامة تحتاج إلى وضع استراتيجية إصلاحية عامة. إن اصحاب القيم الملتوية والذين يبيعون قيمهم في سبيل المصالح الآنية ربما يحققون مكاسب مراحلية ولكنهم لا محالة ساقطون سقوطا لا قيام بعده. وإن المتمسكون بقيمهم أمام مغريات المنافع العاجلة ربما يخسرون مرحلياً ولكنهم هم من يتذرى ذرى المعالي والسؤدد. يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزمة الأمة في أخر الزمن التي توصلها إلى الغثائية فينفي أن تكون من قلة العدد والعدة وينبهنا إلى الامر الخطير (وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت. فكان جذر المعضلة كما بينها الصادق لمصدوق هو الوهن الأخلاقي والانحطاط القيمي الذي يصيب الأمة وعليه تتوالد جميع العلل التبعية. الحكمة النبوية في تشبيه الأمة بغثاء السيل في زمن التردي الأخلاقي لوجوه من الشبه: 1- غثاء السيل لا وزن له يطفو على الماء والأمة اليوم لا وزن لها بين الأمم. 2- غثاء السيل فقاعات لا مضمون لها وكذلك الأمة اليوم فقعات لا مضمون لها. 3- غثاء السيل لا اتجاه ولا هدف له فهو يمشي مع السيل وكذلك الأمة أضاعت بوصلة الإتجاه والهدف. 4- غثاء السيل مجموعة غير متجانسة وغير مترابطة من الأعواد والأوساخ والأمة غير متجانسة في فكرها وغير مترابطة في جماعاتها. لقد تطورت منظومة هدم القيم من الظاهرة الإجتماعية العفوية إلى حالة العمل المنظم فالظلم والطغيان بناء هرمي يتشكل من: 1- رأس الهرم فرعون. 2- البطانة الفاسدة من النخبة الاقتصادية (قارون) والنخبة السياسية (هامان) 3- القوة القمعية من الجنود والجهاز الأمني (وجنودهما) 4- القوة الإعلامية والدعائية المتمثلة بالسحرة. 5- وقاعدة الهرم الشعب المستخف المقهور الخانع. لا يزال هناك من يتعامل بإزدواجية مع القيم والمبادئ فهو مثلا يطالب من يسكنون مناطق النظام بالهجرة كالمهاجرين ولكن لا يطلب من نفسه أن يكون ذلك الأنصاري الذي يقاسم من هاجر إليه المال والمسكن والفراش بل ربما تحول إلى تاجر حرب يعتاش من رفع إيجار البيوت أو من احتكار السلاح والدواء والطعام هناك أزمة في النفسية العربية التي تحصر القيم بجانب ما يتعلق بالشرف والمرأة والغيرة إلى درجة التعصب بينما لا يرى بأسا من التحلل من كثير من القيم كالعهود والمواثيق والشورى واحترام العمل وإتقان الصنعة بل ربما يظنها من نافلة القيم. سيبقى عامل الجذب الأخلاقي لعاطفة الجماهير نحو مشروعك أقوى تأثيراً بكثير من الجذب المنهجي والفكري بل ربما يسقط المشروع الفكري الصحيح بسبب سوء أخلاق من يحمله، قال تعلى (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران. من المعلوم أن القيم الأخلاقية تجذب النفوس كالمغناطيس لأنها تنتمي لذات الفطرة ولا تفرض على الناس بالقوة وكل عملية فرض بالقوة قد تودي إلى نتائج عكسية فنحن اليوم نواجه موجة الإلحاد التي خلفتها موجة الغلو. ظهر في ثورتنا نوع من الانحطاط الأخلاقي المتمثل في جحود تضحية الآخرين والعمل على تسقيط الجماعات والأشخاص والمناهج لأجل الدعوة الحزبية والعصبية المنهجية فما بين أن تكون عند جماعة عالمهم وابن عالمهم إلى أن تكون جاهلهم وابن جاهلهم إلا أن تخالفهم في مسألة. تبقى أدلجة الساحة وفق المناهج الحزبية وتفريقها إلى جماعة وأحزاب واستغلال مصائب الشعب لنجعل من الثورة منبرا للدعوة الحزبية وكل ذلك بإسم الدين يبقى هو الإنهدام الأكبر في القيم. رأينا في الثورة من أكل الدنيا بالدنيا وجعل من الثورة ثروة فتكرشت بطونهم وتغلظت رقابهم من أكل السحت ولكن يبقى من أكل الدنيا بالدين أشد جرماً من الأول. كما لا أنسى في نهاية الحديث تلك الجريمة الأخلاقية التي تمثلت بخذلان من يطلب النصرة من إخوانه وهو يقاتل بما تبقى معه من سلاح تحت الحصار بينما هناك مناطق وادعة ناعمة بالهدن المذلة مع النظام لا تحرك نخوتها الدماء ولا صرخات المعذبين ولا بكاء الأطفال. كما لا أنسى التعريج على ذلك القائد الذي انحط في قيمه فهو يستحسن الفرقة والتنازع ويبحث عن مكاسب شخصية وهو يرى المناطق تتسلقط يوما بعد يوم والحصار الخانق يضيق يوما بعد يوم ولم تحركه نخوته ليأخذ قراره ليتنازل عن إمارة الوهم فهو لا يرغب أن يشعر بألم فطامها بعد أن رضع لبانها واعتاده. إن الأزمات والإبتلاءات كمحك الذهب وهي أفضل الأجواء لترسيخ القيم الراقية وكشف القيم الدنيئة فيها تتمايز معادن البشر لذلك لا تحزنوا على ما أصابكم فإن التمحيص قبل الإصطفاء سنة ربانية والأمم لا تتقدم إلا بعد أن تعركها الأزمات والابتلاءات.
حساب الكاتب على تويتر
عبد الله يوسف
هيئة الشام الإسلامية
أيمن هاروش
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة