عبد الوهاب بدرخان
تصدير المادة
المشاهدات : 2875
شـــــارك المادة
لن يُعرف مدى التغيير في السياسات التركية في المدى القريب، وإنْ كان ما ظهر منه أخيراً يشير إلى انعطاف كبير، بعضٌ منه يُفهم بمنطق المصلحة القومية بما فيها من سياسة وأمن وتجارة، وبعضٌ آخر بضرورات الحفاظ على تركيا في المعادلة الإقليمية. ومع افتراض أن أنقرة كانت مبدئية مئة في المئة في مقاربتها لقضية الشعب السوري، وفي مطالبتها برفع الحصار عن غزة، وفي سعيها إلى إيجاد توازن داخلي عراقي يخفف من وطأة الهيمنة الإيرانية الفاقعة، إلا أن طبيعة الاستقطابات الدولية في المنطقة لم تسعف تركيا كما لم تسعف العرب من قبلها.
أكثر من أي قوة إقليمية أخرى وجدت تركيا نفسها محكومة بشروط لا تبدو إسرائيل أو إيران مكبّلة بها، ربما بسبب إرث تركي تاريخي انطبع بالسلبية وتبِعه قرنٌ من الانكفاء عن الشرق العربي، أو لأن ازدواجية تركيا بعلمانيتها وإسلاميتها أربكت عودتها إلى ذلك الشرق بعدما كانت إسرائيل وأميركا أمعنتا في إحباطه، فيما قطعت إيران شوطاً في نخره بسوسة «تصدير الثورة» وعسكرة الشحن المذهبي.
المؤكّد أن المسألة السورية هي التي ستحدّد ملامح الوجه الآخر للسياسات التركية الجديدة. فبعد الشروع في تطبيع العلاقة مع روسيا، وإنهاء الخلاف مع إسرائيل، وقبل ذلك وقف تدهور العلاقة مع إيران مع إقرار الدولتين باستمرار خلافهما على سورية، ومع التلميح إلى احتمال حصول خطوة باتجاه إصلاح العلاقة مع مصر، لم يبقَ أمام أنقـــرة سوى نقلة واحدة: الاتصال بدمشـــق.
قد تبدو هذه المبادرة صعبة لكنها لن تكون مستحيلة، إذا أمكن تركيا أن ترى الـــمصلحة وتلمسها. كانت آفاق التبادل مع روسيا رحبة وواعدة ولا تـــزال، ومجالات التعاون مع إسرائيل كبيرة ومتنوعة ولا تــزال، كذلك مع إيران، وكانت بلغت مستوى متقدّماً جداً خلال سنوات العسل مع النظام السوري... لذلك لم يكن عسيراً على رجب طيب أردوغان أن يفرمل اندفاعاته السلطانية ليعكف على ترميم الصورة واستعادة المشهد السابق رغم كل المتغيّرات العميقة التي استجدّت عليه.
لم يتوقّع أحد أن ترفع إسرائيل حصارها عن قطاع غزّة من أجل التطبيع مع تركيا. فحتى العرب لم يطلبوا رفع هذا الحصار مقابل التطبيع بل وضعوه في إطار تسويةٍ شاملة لا أحد يدري إذا كانت ستتم يوماً.
ولو أُخذ في الاعتبار أن المصالح الرئيسية بين تركيا وإسرائيل لم تتأثّر بتداعيات حادث سفينة «مافي مرمرة»، بل إن جانبها التجاري شهد نمواً، فإن الحلول الوسط كانت متوافرة في انتظار الظرف السياسي الملائم. راح هذا الظرف يتبلور بعد أسابيع قليلة من تفجّر العداء الروسي لتركيا والعقوبات التجارية والسياحية التي فرضتها موسكو غداة إسقاط الـ «سوخوي 24»، فأعادت أنقرة تنشيط القناتين الإيرانية والإسرائيلية، الأولى لتجديد الفصل بين التعاون التجاري والخلافات السياسية وخصوصاً لحاجتها إلى ضمان استمرار التزوّد بالطاقة بعد خسارة المصدر الروسي، والثانية لحل الخلاف القائم في شأن غزة لكن أيضاً للمساهمة في استثمارات الغاز الإسرائيلي.
استشعرت إيران كما إسرائيل أن أردوغان بات مستعدّاً للنزول عن الشجرة، لكن طهران لم تشأ أن تساعده بل كانت مرتاحة إلى أن المسار الذي اتخذته روسيا من شأنه أن يضعف تركيا ويشطبها من المعادلة الإقليمية، أما بنيامين نتانياهو فوجد الوقت مناسباً لانتزاع تسوية لمصلحته لكنه لعب ورقة المصالحة مع أردوغان على الطاولة الروسية واستطاع من جهة إقناع فلاديمير بوتين باجتذاب تركيا إلى دور مختلف في المسألة السورية، ومن جهة أخرى إقناع أردوغان بالتنازل لروسيا كي يحافظ على دور تركي موازٍ للدور الإيراني في سورية.
قبل أكثر من شهرين بدأت مصادر تركيا وإسرائيل تؤكد توصّلهما إلى اتفاق، وتردّد مراراً أن توقيعه وشيك، ثم تبيّن أن اعتراض موسكو هو ما أخّره، خصوصاً أنها وإسرائيل كانتا في صدد تطوير تنسيقهما العسكري في شأن سورية.
كان الإعلان في يوم واحد عن ذلك الاتفاق، وعن رسالة أردوغان الإعتذارية إلى بوتين، رسالة بالغة الدلالة إلى واشنطن، تحديداً إلى باراك أوباما. فالأخير كان أنجز خطوة أولى عندما أقنع نتانياهو (أواخر آذار- مارس 2013) بمهاتفة أردوغان لإحاطته بـ «أسف - اعتذار» إسرائيل وإبداء الاستعداد لحل الخلاف. لكن أوباما الذي بدأ هذه المبادرة بـ «دوافع استراتيجية» أميركية لم يستطع إكمالها لانتفاء أي استراتيجية لديه، فتولّى بوتين إنجازها للدوافع نفسها، لكن لمصلحة استراتيجية روسية.
صحيح أنه يمكن المجادلة بأن مجمل ما حصل لا يخرج عملياً عن إطار المعادلة الإقليمية التي تريد أميركا هندستها قبيل «مغادرتها» المنطقة. غير أن طريقة بوتين في ممارسته «القيادة» لا تنفكّ تكشف تراجع نفوذ أميركا وتقضم من «هيبتها».
لا شك في أن الخذلان الأميركي هو ما دفع تركيا باتجاه محور روسيا - إسرائيل. كانت أنقرة نسّقت مع واشنطن مقاربتها للأزمة السورية وقطيعتها مع نظام بشار الأسد، ومثلها فعلت الدول العربية الداعمة للمعارضة، وطوال الأعوام الخمسة تعرّف العرب والأتراك إلى سياسة أميركية بوجوه متعددة وخطاب تضليلي منعدم الرؤية ودعم كاذب لقضية الشعب السوري. وفي أزمتها مع روسيا لمست تركيا أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي غير معنيين بدعمها، وهو الموقف نفسه الذي أدركته السعودية ودول خليجية أخرى عندما بلورت مع تركيا صيغة مبادرة للمشاركة في محاربة الإرهاب، إذ فضّلت واشنطن التعاون مع ميليشيا كردية ومجموعات مسلحة متفرقة رغم علمها بأنها تثير مخاوف تركية بعبثها بالورقة الكردية وبأنها تطلق رسائل خاطئة في ما يتعلّق بالحرب على تنظيم «داعش».
اتسم اللقاء الأول، بعد القطيعة، بين وزيري الخارجية الروسي والتركي، باستعداد للتعاون في سورية، وبأنهما لا يختلفان حول تعريف الإرهاب. كيف ذلك وموسكو انفتحت على الأكراد وتنسّق معهم، فيما تسمّي أنقرة الإرهاب «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) أولاً، ثم فرعه السوري «بي يي دي» (حزب الاتحاد الديموقراطي) ثم «داعش». فالأخير لا يهدد الكيان التركي ومصيره إلى الزوال مهما طالت الحرب عليه، أما الخطر الكردي فيمثّل الخطر كل الخطر لتركيا، وبات مقلقاً لطهران مع بروز بنيته العسكرية في المناطق الكردية وذهاب إيران في مواجهاتها مع «البيشمركة» المحلية إلى حدّ قصف مناطق حدودية في كردستان العراق.
أقلّ ما يمكن أن يهدّئ هواجس أنقرة أن تحصل على «ضمانات» روسية لمنع أكراد سورية من إقامة إقليمهم الخاص، وهو ما لم تتمكّن من انتزاعه من أميركا رغم عراقة العلاقة وعمقها بينهما. قد يستجيب الروس، صدقاً أو كذباً، لكنهم سيطلبون ثمناً لذلك.
فجأة، وبلا مقدّمات، أعلنت إيران بلسان المرشد أنها رفضت عروضاً أميركية للتنسيق في شأن سورية، وكانت طهران طمحت دائماً إلى تنسيق كهذا لكن بشروطٍ ليس أولها وأهمّها بقاء الأسد في الحكم كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل ضمان استمرار وجودها المباشر (وعبر «حزب الله» وسائر الميليشيات) لحماية ما تدّعيه من «مصالح». لذلك تفضّل طهران مع موسكو وإنْ كانت تفرض عليها تعايشاً مزعجاً مع الوجود الروسي في سورية. في المقابل، يحاول أردوغان وأركان حكومته فتح تطبيع العلاقة مع روسيا على أفق «حل» للأزمة السورية.
ولأن الخيارات التركية محدودة، بسبب الممنوعات الأميركية والروسية، وحتى الإسرائيلية والإيرانية، التي اختبرتها تباعاً، فإن أنقرة قد تكتفي بأي ضمان لكبح الاندفاعات الكردية كي تقول وداعاً لسياسة ظلّ «رحيل الأسد» و «إزالة نظامه» عنوانها المعلن والمبطن. أما العنوان الجديد - «الواقعية» - فباتت تحدّده المصالحة مع الروس والإسرائيليين، المتوافقين على بقاء الأسد ونظامه في انتظار ايجاد بديل منه.
لكن التبشير بـ «الحل» مرفقاً باستعداد غير واقعي وغير عملي لتوطين اللاجئين السوريين وتجنيسهم، فيعني أن هذا الحل لا يزال بعيداً.
الحياة اللندنية
فيصل القاسم
برهان غليون
زهير سالم
غازي دحمان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة