..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

العلماء والفتن

بسام الشجاع

١٩ يناير ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 5184

العلماء والفتن
s_jpg_1.jpg

شـــــارك المادة

سيبقى الجدل واسعاً في النظر إلى العلماء ومستمراً يتأرجح كبندول بين الإفراط والتفريط؛ فهناك من ينظر إلى العالِم على أنه ملَك منزَّل من السماء، وهناك من ينظر إليه على أنه شيطان رجيم، وفي الحالتين هم يخرجونه عن إنسانيته؛ فهو بشر يخطئ ويصيب، وهكذا كان الخالق –سبحانه- يربي محمداً -صلى الله عليه وسلم- بقوله في غير ما آية (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ)[الكهف: 110].

ولهذا تقرر نفي العصمة عن العلماء ولكنه يبقى أنهم أحق بالهداية ومعرفة حكم الشرع من كل من خالفهم، ولن يكون مخالفوهم أولى بالحق منهم. وكما هو الحال فقد اعتادت المجالس اليمنية أن الكل فيها يناقش والكل يحلل ويشارك في الحديث وفي كل شيء وفي جميع المجالات، وعندما كنا نتناقش في أحد المجالس عن الأوضاع وما آلت إليه البلدان اليوم خصوصاً العربية، أثار فضولي أحد المشاركين عندما أرجع أسباب المشكلة إلى العلماء (ويعني بذلك علماء الشريعة)، وهذا ما جعلني أتذكر سؤالاً وُجِّه إلي في 9/9/2014م على الفضائية اليمنية في برنامج "شؤون البلد" وهو: ما هو دور العلماء في ظل هذه الأوضاع التي تعيشها البلد؟

طبعاً وفي مثل هكذا ظروف تصعب الإجابة على هذا السؤال دون ذكر توطئة ومقدمة توضح فيها ملابسات القضية؛ فالعلماء موجودون بل إن بقاء خيرية هذه الأمة التي أخبر عنها الخالق جل في علاه بقوله (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] مرتبطة بهم.

وبما أن السياق له دور كبير في فهم النص فإننا نجد عند مواصلة قراءة الآية أنه بيَّن سبب الخيرية بوظيفة العلماء وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبناءً عليه فإنه لا يخلو زمان من قائل بالحق وآمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، ولكن مع اختلاف المُكنةِ في تبليغ الحق، وبرأيي أن هناك عدة عوامل مشتركة أدت إلى تهميش دور العلماء وليس إلى غيابه لأنه في الحقيقة موجود ولكن هناك تهميش متعمَّد، وهي كالتالي:

نظرة العامة للعلماء:

العلماء وحدَهم من يرون الفتنة وهي مقبلة فيحذِّرون الناس منها ويعلمونهم سُبُل الوقاية منها والتعامل معها، والجاهلون يرونها وهي مدبرة بعد أن تنزل عليهم بكلكلها فتطحنهم وتمزقهم تمزيقاً، وفي هذا الوقت أيضاً يبرز دور العلماء عندما يشب لهيب الحروب العبثية ويستهان بالدماء وكذلك الحروب النفسية والإعلامية والحروب الاقتصادية ويصيب الناسَ الخوفُ ويسيطر عليهم القلقُ ويشعرون بالوحشة، يتصدر العلماء الموقف بالوعظ والإصلاح ولمِّ الشمل وتضميد الجراح حتى يذهب رَوْع الناس، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: كنا إذا ضاقت بنا الأرض، وضاقت علينا أنفسنا، وساءت بنا الظنون، نذهب إليه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك عنا.

ولا شك أننا اليوم نعاني من التجهيل المتعمد الذي يغزو الشعوب ويفتك بها؛ حيث صار له دور بارز في تهميش العلماء والمفكرين وأصبحنا نجد كثيراً ممن رفعوا عن أنفسهم أمية القراءة والكتابة فقط وهم الغالبية ويمثلون الحاضنة الشعبية التي تلتف وراء العلماء كما قد كان في عهد سلطان العلماء العز بن عبد السلام، غير أن هؤلاء سيظلون كريشة في مهب الريح ولا يمكن أن نصفهم إلا بالقشة التي تقاذفها الأمواج يمنة ويسرة وهؤلاء دائماً كفتهم ترجح لمصلحة الأقوى، ولا شك أننا اليوم نعيش مرحلة استثنائية يُستضعَف فيها أهل الحق وفي مقدمتهم العلماء.

وفي المقابل فكما أن الجهل يعمل على تقويض دور العلماء فإنه يقوم بتغذية عكسية للأنظمة البوليسية، وهذا ما نجحت به أنظمة القمع العربية، لذلك لا نستغرب إذا لمسنا ضعفاً في المؤسسات التعليمية والبحثية وقوة في الشُّرَط والمعسكرات والسجون والمعدات القتالية، قال الأديب الفرنسي فيكتور هوجو "من يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن".

أنظمة الحكم استطاعة:

تستطيع الأنظمة الوظيفية بما تملك من إعلام وثروة ومكانة أن تجعلَ من أنظمتها أمراً مقدساً لا يمكن المساس به أو التقدم عليه وسعت جاهدة حتى تبقى هذه الذهنية مرسومة في عقول الشعوب، ولم يتوقف الأمر عند ذلك حتى صار الحاكم هو البوصلة التي يقاس بها التوجه الصحيح لمسار الأمة، وهذا ما يجعلهم يشترطون للإشادة بالعلماء والثناء عليهم ومدحهم هو مدى موافقتهم للحاكم فاذا ما خالفوه بأمر أو قضية صبوا جام غضبهم عليهم وأوسعوهم سباً وشتماً دون ورع ولا روية، وزحزحة العلماء واحتلال مكانتهم يعد نجاحاً بالنسبة للحاكم؛ ذلك أنه أصبح يضيف إلى سلطانه مهمة عظيمة وهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن طبعاً، وهذه الدعوة على طريقته هو وبما يتناسب مع الحفاظ على ملكه وسلطانه، إذاً الحاكم اليوم هو من يشرع ومن يأمر وينهى...!

ومن طريف ما يذكَر عن العلّامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني أنه خرج ذات يوم فقال له طلابه: إلى أين؟ فقال: معنا محاضرة عند الرئيس.

وبالفعل كان الرئيس يجمع العلماء ويجتمع بهم لا ليسمع منهم النصح والتوجيه ولكن ليحدثهم هو عن إنجازاته وإعطائهم بعض التوجيهات ثم ينصرفون إلى ديارهم وطلابهم في المساجد والمراكز لتصبح دعوتهم حكراً عليها فقط، أما أمر السياسة والعامة فقد أوكلوه إلى الحاكم لا شريك له في ذلك، وهذا ما يجعلني لا أستغرب إن قال لي أحدهم: العالم الفلاني عالم جليل وفاضل وبحر من العلوم لكنه سقط من أعيننا وأعين الناس لأنه يوافق الرئيس في الموقف الفلاني.

العلماء الذين أفرزتهم الأنظمة الحاكمة:

عند سبر أغوار الشعوب والمجتمعات -لا سيما الإسلامية منها- نجد أن ثمة عاطفةً جياشةً وعلاقة قوية ومتينة بين السماء ممثلة بالأديان السماوية والتشريع والعلماء وبين الارض ممثلة بالشعوب والمجتمعات، ولا يمكن لمن يريد أن يمسك بزمام الأمور أن يفصل بينهما، لأنهما بمثابة الخطام الذي تُجَر به الناقة، وعندما يكون الطغيان هو المسيطر في أي نظام فمن الطبيعي أن يفترق السلطان والقرآن كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكي يبقى السلطان ممسكاً بالخطام لجر الشعوب فلا بد من أن يشبع فيهم هذه الرغبة الجِبِلية في الناس، وعندها سيجد نفسه مضطراً لاتخاذ علماء وخطباء ووعاظٍ ومرشدين يسبحون بحمده ويدورون في فلكه، وهؤلاء قديماً كانوا يسمَّون بعلماء السلطان سواء كانوا بقصد أو بغير قصد لأن بعضهم يُستغفَلون وتقدَّم لهم المصلحة كطُعم لجرهم إلى صف السلطان وهم لا يعلمون أنهم يحدثون انفصاماً بينهم وبين حاضنتهم الشعبية من جمهور الناس، وقد كان أصحاب الجرح والتعديل من العلماء لا يقبلون حديث من يتردد على السلطان لأنهم يحطون من قدر العلماء الربانين وغيرهم، وقال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: واعلم أنه لا مفسدة أضرُّ على الدين وأبعثُ على إضاعة الكتاب ونبذه وراء الظهر واشتراء ثمن قليل به من جعل أرزاق العلماء ورتبهم في أيدي الأمراء والحكام، فيجب أن يكون علماء الدين مستقلين تمام الاستقلال دون الحكام –لا سيما المستبدين منهم- وإنني لا أعقل معنىً لجعل الرتب العلمية ومعايش العلماء في أيدي السلاطين والأمراء إلا جعل هذه السلاسل الذهبية أغلالاً في أعناقهم يقودونهم بها إلى حيث شاؤوا من غش العامة باسم الدين وجعلها مستعبدة لهؤلاء المستبدين، ولو عقلت العامة لما وثقت بقول ولا فتوى من عالم رسمي مطوَّق بتلك السلاسل على أنه صار بعد ذلك من حملة هاتيك الأوراق، والمتزينين بتلك الكساوي الموشاة والمتحلين بتلك الأوسمة البراقة الذين يسبحون بحمد السلطان معطيها بكرة وأصيلاً، ويضللون من يطلب إصلاح حال الدولة تضليلاً؟ فهل يوثق بعلم عالم مقرَّب من المستبدين أو بدينه؟

إن علماء السلف كانوا يهربون من قرب الأمراء المستبدين أشد مما يهربون من الحيات والعقارب.

المشاريع الهدامة في المنطقة:

الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية والزنادقة والملحدون والفرق الضالة جميعهم يدركون أن العلماء هم من يعلمون الناس الدين وهم حراسه وأنهم الصخرة التي تتحطم عليها كل مشاريعهم وجهودهم لا فساد الدين واضلال المسلمين. ولذلك يسعون جاهدين للحط من قدر العلماء ابتداء من تسويتهم بغيرهم من العامة ورعاع الناس وانتهاء بفتح العنان كل أحد وإعطائه حق الاجتهاد والتصرف والفتيا والتشريع والمشاركة في تحديد الامور المصيرية، وهنا أستدل بكلام للدكتور محمد بن موسى العامري مستشار رئيس الجمهورية ووزير الدولة وعضو الحوار الوطني" كنا في الحوار الوطني في أمور الاقتصاد والسياسة والعسكرية والدستورية والاجتماعية والثقافية والأمور الدبلوماسية لا يتكلم أحد أو يشارك في هذه الأمور ولا بد من تركها للمتخصصين فيها ولكن إذا صار الحديث عن الدين والشريعة يشارك الجميع ولا ينظر فيها أو يعطى حتى اعتبارا للمتخصصين بالشريعة".

وفي ظل النظام الديمقراطي صعد الجاهلون إلى المجلس التشريعي، ويذكر أيضاً عن العلّامة القاضي العمراني وقد كان عضواً في المجلس التشريعي أنه في إحدى الجلسات كان من ضمن الذين سجلوا أسماءهم للحديث ولما دخل المجلس سمع اثنين من الأعضاء يتحدثون قبله عن الربا والبنوك وكثير من الأمور الشرعية دون علم وفقه، فلما وصل الدور للقاضي العمراني رفض أن يتحدث وقال ساخراً: الحديث اليوم لابن كثير ولابن حجر.

وهي رسالة منه إلى أننا صرنا في زمن الروبيضات الذين يتحدثون ويحددون مصير الأمة في حضرة الكبار والعلماء. ولا شك أن هذا يحط من قدر العلماء ويسهم في زعزعة الثقة بينهم وبين الحاضنة الشعبية من جمهور الناس وعامتهم، لذلك تستمر الحملات التغريبية والصليبية في هذا المجال، وفي هذا تحدث الأقدمون، حيث قال الإمام أحمد بن حنبل في خطبته المشهورة في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويُحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتنة المضلين).

 

 

مجلة البيان

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع