..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

الهدن والتغيير الديموغرافي في سوريا

عمر كوش

٣ يناير ٢٠١٦ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6003

الهدن والتغيير الديموغرافي في سوريا
00.jpg

شـــــارك المادة

أعاد تنفيذ المرحلة الثانية مما عُرف "بهدنة الزبداني والفوعة وكفريا" إلى الأذهان تساؤلات حول الغاية مما يسميه النظام السوري "الهدن"، وما الفائدة الخفية التي يحققها من جراء التغيير الديموغرافي والسكاني في محيط دمشق؟ وهل تدخل في إطار تنفيذ نهج يقوم على هندسة اجتماعية غايتها تغيير التركيبة الاجتماعية السورية؟

مخطط الهدن:
تعود الهدن التي يعقدها النظام مع مقاتلي المعارضة إلى أكثر من عامين، وفق مخطط مدروس من قبل النظام وحلفائه، يركز على العاصمة دمشق ومحيطها ومدينة حمص وبعض مناطق حماة المجاورة للشريط الساحلي، حيث عقد قبل نحو عامين سلسلة اتفاقيات وهدن، شملت أحياء برزة والقابون وتشرين (شمالي العاصمة)، التي دخلت هدنة مع نظام الأسد ابتداءً من برزة في فبراير/شباط 2014، ثم القابون وتشرين في سبتمبر/أيلول من العام ذاته.

أما في جنوبي دمشق، فدخلت بلدات بيت سحم ويلدا وببيلا في هدنة مفتوحة مع قوات الأسد في فبراير/شباط 2014، وبعد ثلاثة أشهر -وتحديدًا في مايو/أيار- دخل حيّا القدم والعسالي في هدنة أيضاً، ليصبح جنوبي دمشق خاليا من مقاتلي المعارضة، باستثناء حي التضامن، إضافة إلى حي الحجر الأسود، الذي سيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية منذ مطلع عام 2014، إضافة إلى مخيم اليرموك الذي يتواجد فيه مقاتلو "جبهة النصرة" وآخرون.

وشملت الهدن أيضاً مدناً ومناطق غرب دمشق، بدءا من مدينة معضمية الشام، المجاورة لمدينة داريا في الغوطة الغربية للعاصمة، التي دخلت هدنة في 25 كانون الأول/ديسمبر 2013 بعد معارك وحصار استمر أكثر من عام، ثم دخلت الهدنة مدينة قدسيا في الثلاثين من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، كشرط رئيسي وضعه النظام لإعادة فتح الطريق وفك الحصار الكامل المفروض عليها.

ويسعى النظام إلى تسويات وهدن في بلدات وادي بردى، مثل: بسيمة، وعين الفيجة، ووادي مقرن، وكفير الزيت، وصولا إلى الزبداني ومضايا، فالعاصمة.

وكان ضباط إيرانيون ومحافظ حمص عقدوا في السابع من مايو/أيار 2014 اتفاقاً مع مقاتلي المعارضة في حمص، خرج بموجبه مقاتلو الجيش الحر وأحرار الشام وجبهة النصرة من أحياء حمص القديمة الثائرة (الخالدية، وباب سباع، وباب هود، وجورة الشياح، والقصور) نحو الشمال، بعد أن رزحوا تحت حصار كامل لمدة عامين في عدد من أحياء المدينة.

وفي حماة وريفها، لجأت قوات الأسد إلى الهدن مبكرًا في حماة، ولعل هدنة بلدة قلعة المضيق في الريف الشمالي الغربي هي الأقدم قبل نحو ثلاثة أعوام، ثم عقدت هدنة أخرى في بلدة كفرنبودة في مطلع أغسطس/آب 2014.

أما هدنة "الزبداني-الفوعة وكفريا" فقد عقدها الطرف الإيراني مع ممثلين عن جيش الفتح في تركيا، برعاية هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، في بداية سبتمبر/أيلول 2015، وشهدنا منذ أيام تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، بعد تأخير دام ثلاثة أشهر.

وهناك اتفاق هدنة في اليرموك والحجر الأسود يرعاه الإيرانيون أيضاً، الذين فاوضوا ممثلين عن تنظيم الدولة وجبهة النصرة، يقضي بخروج مقاتلي الفصيلين مع عائلاتهم، وتأمين خروجهم الآمن إلى الشمال السوري، مقابل فك الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى مخيم اليرموك والحجر الأسود.

سوريا المفيدة وسوريا الأخرى:
تأتي الهدن بعد حرب تجويع يقوم بها النظام السوري ضد مناطق بعينها، ولا سيما في دمشق وريفها وحمص، بوصفها مناطق ضرورية، تدخل في إطار ما يسعى النظام إليه كخيار إرادي، يسميه "سوريا المفيدة"، التي تشمل العاصمة ومحيطها وصولاً إلى الحدود اللبنانية، وحمص والشريط الساحلي.

وهو مسعى تقسيمي وتفتيتي لسوريا إلى سوريتين وأكثر: سوريا لنا، أي سوريا النظام وحاضنته الاجتماعية وحلفائه. وسوريا الأخرى، غير المفيدة، التي يقصفها طيران النظام بالبراميل المتفجرة وبمختلف أنوع الأسلحة التي يملكها، وتقصفها كذلك المقاتلات الروسية بالصواريخ الفراغية وسواها، وترتكب روسيا فيها جرائم حرب ضد المدنيين، بحسب تقرير أصدرته مؤخراً منظمة العفو الدولية.

ولعل تسليط الضوء على بعض نماذج الهدن التي يعقدها النظام مع المقاتلين يظهر مسعى النظام التقسيمي، حيث يتم إخراج المقاتلين وما تبقى من سكان المناطق المحاصرة، وترحيلهم إلى سوريا الأخرى.

والملاحظ أن الإيرانيين والنظام يلجؤون إلى ما يمكن تسميته "هندسة اجتماعية"، تنهض على نهج يعتمد التغيير الديموغرافي، ويفرض من خلال شن حرب شاملة، بالتزامن مع الحصار والتجويع والقصف والترهيب، وبعد إنهاك المناطق المستهدفة يجري عقد هدن، تفضي إلى ترحيل سكانها، واستبدالهم بآخرين، إيرانيين أو من حزب الله والمليشيات العراقية، أو آخرين من شمال سوريا، ويعولون على أن يتحول المستوطنون الجدد إلى جزء من كتلة طائفية متراصة.

وقام تجار إيرانيون بشراء عقارات وأرض في أحياء من العاصمة دمشق وفي حلب وحمص، إضافة إلى توطين عائلات لمقاتلي حزب الله ومليشيات أفغانية في مناطق مختلفة من العاصمة، وفي مناطق من حمص ودرعا والسويداء، كما يدخل في هذا السياق قيام أثرياء النظام -خاصة رامي مخلوف، ابن خال الأسد- ببناء مشاريع إنشائية ضخمة، حيث يتم تهديم وجرف بعض الأحياء والمناطق، مثل حي القابون وبرزة وسواهما، لصالح تشييد مشاريع تقوم بها شركات مخلوف وسواه.

والأخطر من ذلك، هو ما تقوم به الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية من مصادرة بيوت وممتلكات اللاجئين، والفارين من ملاحقتها، بعد أن أصبح أكثر من نصف الشعب السوري لاجئاً أو نازحاً، وباتت ممتلكات هؤلاء مستباحة من طرف أزلام النظام والشبيحة والأجهزة الاستخباراتية، حيث لم يعد هؤلاء الفارون من القتل والسجون سوريين في نظر النظام، تطبيقاً لما قاله الأسد من أن سوريا ليست لمن يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها، أي أنه في معيارية الأسد فاقد الشرعية والأهلية، باتت سوريا ملكاً للمليشيات الإيرانية ومليشيا حزب الله والمرتزقة الأفغان والعراقيين وسواهم، ممن يقاتلون دفاعاً عن النظام، ولا شك أن سوريا أيضاً وفق هذه المعيارية باتت للمحتلين الروس.

الهندسة الاجتماعية:
ويشير كلام الأسد إلى تجريد أكثر من نصف السوريين من سوريتهم، وإلى نهج الاستبعاد الذي اتبعه نظام الأسد، بنسختيه: الأب والابن، ومارسه طوال خمسة عقود من الزمن ضد السوريين، في شتى درجاته، وطال الأفراد والمكونات الاجتماعية، ودفعت بهم إلى خارج المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، مقابل الدفع بمكونات اجتماعية أخرى إلى مراكز متقدمة من التحكم بمقدرات الدولة والمجتمع.

وارتبط كل ذلك بجملة من العوامل المذهبية الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، على خلفية إثارة الصراع بين مختلف مكونات التنوع في سوريا، وخلق علاقات قوة جديدة، أبعدت المكونات المدينية، وخاصة الأكثرية، مقابل استقدام المكونات الريفية، وإعادة توطين أفكار الصراع على مصادر القوة بين الأقلية التي ينتمي إليها النظام الحاكم والأكثرية، ودفع المستبعدين إلى الاحتماء بمختلف التكوينات ما قبل المدنية.

واليوم يريد نظام الأسد وحلفاؤه -الإيرانيون والروس- أن يغيروا التركيبة السكانية لسوريا، وتقسيم سوريا إلى أقاليم (كانتونات)، تطبيقاً لهندسة اجتماعية، تقوم على إفراغ المدن والبلدات والمناطق من سكانها، المنتمين للأكثرية، وتوطين سواهم من أقلية بعينها، الأمر الذي يفسر إصرار نظام الأسد على عدم السماح لسكان حمص القديمة بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم، بعد توقيع الهدنة، والأمر نفسه ينطبق على باقي المناطق الأخرى، التي يرحل مقاتلوها ومدنيوها إلى سوريا الأخرى.

وخلال النصف الأول من عام 2015، وبالرغم من الهدن والاتفاقيات، فإن النظام وحلفاءه لم يتمكنوا من الوقوف في وجه مقاتلي المعارضة، وباتت مناطق سوريا المفيدة مهددة، لذلك جاء دخول روسيا الحرب إلى جانب النظام بغية تمكين النظام من المحافظة على سوريا المفيدة، بوصفها خيار النظام الإرادي، لأن الساسة الروس يدركون تماما أنهم مهما فعلوا وتوغلوا في الدم السوري، فإن ذلك لن يعيد إخضاع السوريين، لذلك تقصف مقاتلاتهم مناطق سيطرة المعارضة، مستهدفة -عن قصد- البنى التحتية، ومناطق تواجد المدنيين والمقاتلين، ولا تستثني المدارس أو المشافي أو الأسواق، أو حتى الجسور والطرقات.

في المقابل، تدعم روسيا قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، صاحب مشروع الإقليم الانفصالي في شمالي سوريا، وفي الوقت نفسه، لا تستهدف غاراتها "تنظيم الدولة"، بشكل جدّي، إذ إن غاراتها على مناطق سيطرة التنظيم تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى، تنفيذاً للسعي الروسي المتمثل في تمكين تنظيم الدولة، كونها تدرك جيداً أن تنظيم الدولة هو الوجه الآخر للنظام، الأمر الذي يفسر تركيزها على قصف مختلف الفصائل المعارضة، بهدف تمكين كل من النظام وتنظيم الدولة، اللذين يحاربان المعارضة، ويمتلكان عدوا مشتركا، هو الشعب السوري، لذلك عقدا اتفاقيات عديدة لتقاسم مناطق النفوذ، فضلاً عن اتفاقيات النفط والكهرباء وسواهما، ولا يخفيان وقوفهما ضد طموحات الشعب السوري في الخلاص من الاستبداد وبراثنه.

غير أن طموح النظام -وحلفائه الروس والإيرانيين- في سوريا المفيدة لن يتحقق، ليس لأنه لا يمتلك أي مشروعية فقط، بل لأن النظام وحلفاءه ليس همهم الحفاظ على طائفة بعينها، أو الانتصار لها، بل هم يستخدمون الطائفة العلوية وقوداً في حربهم الخاسرة، كما أن أي كيان انقسامي سيعاني من اهتراء داخلي، سيفضي إلي هلاكه، في ظل نظام دموي، سقط منذ اليوم الأول للثورة السورية.

 

 

الجزيرة نت

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع