محمد المختار الشنقيطي
تصدير المادة
المشاهدات : 6125
شـــــارك المادة
في كتابه "البحر المتوسط وعالَم البحر المتوسط على عهد فيليب الثاني" يدلل المؤرخ الفرنسي العظيم فرناند بروديل (1902-1985) على أن المجتمعات المقيمة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق والجنوب تنتمي إلى حضارة واحدة في عمقها، رغم تباين العوالم الدينية والعرقية والسياسية التي تنتمي إليها تلك المجتمعات.ويمكن توسيع نظرية بروديل بالقول إن عالَم المتوسط -بمنطق الجغرافيا السياسية- مجال سياسي وإستراتيجي واحد أيضا.
وولد الربيع العربي منذ البدء ظاهرة متوسطية، فأربع من دول هذا الربيع -تونس وليبيا ومصر وسوريا- تقع على ضفة المتوسط، كما أن المغرب التي وصلتها بشائر الربيع في بداياته، ثم احتوت خطر الثورة بخطوات استباقية من الإصلاح الوقائي دولة متوسطية، ولم تخرج عن هذه الظاهرة المتوسطية من دول الربيع العربي سوى اليمن المعروف -من بين دول الجزيرة العربية- بتفاعل أهله مع ما يجري من تحولات سياسية في مصر.
بيد أن النخبة السياسية الأوروبية لم تتصرف طبقا لهذه المعادلة الجيوسياسية خلال الأعوام الماضية، فلم تتعامل مع الربيع العربي بمنطق إنساني متفهم يساند حقوق الشعوب في الحرية والكرامة، ولا بمنطق سياسي وإستراتيجي حكيم يدرك وحدة عالم المتوسط، ويسعى لتوقِّي النيران التي شبت في بيوت الجيران.
لقد تعاملت النخبة الأوروبية مع الربيع العربي -تقليدا للأميركيين والروس والإيرانيين- بمنطق استعماري بغيض، يحرص على إبقاء الشعوب العربية في نير العبودية بأي ثمن، وتحكمت في الأوروبيين عقلية الاستعمار السياسي بعد رحيل الاستعمار العسكري عن المنطقة، إذ وجد المستعمرون السابقون أن التحكم في الشعوب العربية من خلال حكام مستبدين قاهرين لشعوبهم، مقهورين أمام الخارج، هو السبيل إلى صيانة المواريث الاستعمارية.
وقد جاءت هجمات باريس الدامية تذكيرا للجيران على الضفة الشمالية بأمرين على قدر كبير من الأهمية:
أولهما أن عصر الفصل بين ضفتي المتوسط قد انتهى، فإما أن يعيش أهل الضفتين معا بحرية وكرامة، وإما أن يغرقوا معا في بحر من الدماء.
وثانيهما: أن عصر الاستعمار السياسي قد ولَّى، وأن سياسات الغرب القائمة على حماية المستبدين ووأد ثورات الشعوب سياسة خرقاء.
ومن قبل هجمات باريس كانت موجات اللاجئين تكفي لتذكير الأوربيين بهاتين الحقيقتين، لكن الأوربيين استأسروا -فيما يبدو- للمنطق الأميركي الإسرائيلي، ولم يصوغوا رؤيتهم الخاصة للأحداث التاريخية الجارية على الضفة الجنوبية.
ويتأسس المنطق الأميركي الإسرائيلي على أن المنطقة العربية فيها فائض من البشر، وفائض من التدين، وفائض من المال، وأنه يجب استنزافها داخليا، قبل أن يتحول فائضها البشري والديني والمالي إلى طاقة بنَّاءة تُخرجها من الوصاية والتبعية، وتنقلها إلى الاستقلال السياسي والإقلاع الحضاري، وأحسن طريقة للاستنزاف -بهذا المنظور- هي تحويل ثورات الشعوب العربية إلى مصهرة دموية، ومذبحة مفتوحة لا غالب فيها ولا مغلوب.
لكن الأوربيين نسوا أنهم ينتمون إلى عالم المتوسط الذي تحدث عنه بروديل، وأن قدَرهم الجغرافي يفرض عليهم اتباع سياسات أكثر حصافة، ونظرا إلى عواقب ما يفعله الأميركيون الذين يعيشون بعيدا عن المنطقة، بين محيطين، لكن المتابع للسلوك السياسي الأوروبي عموما -والفرنسي منه خصوصا- بعد هجمات باريس الدامية لا يمكن أن يتفاءل كثيرا.
فخطاب هولاند بعد هجمات باريس يكاد يكون ترجمة فرنسية يشبه خطاب جورج بوش بعد هجمات 11سبتمبر 2001؛ فقد تحدث هولاند عن استهداف تنظيم الدولة لفرنسا لأنها "دولة حرة"، وقال "إنهم لم يهاجمونا بسبب ما نفعله، بل بسبب مَن نحن".
وهذه ترجمة حرفية لمقولة سطحية قالها جورج بوش بُعيْد هجمات 11سبتمبر، كما ظهر من العنتريات في خطابات هولاند الأخيرة واستعراض القوة الجوية والبرية الفرنسية ما يذكِّر بقول رامسفيلد بعد هجمات 11 سبتمبر: "لا بد من تأديب العالم على هذه الهجمات"!!
وهكذا تبين أن القادة الأوروبيين ليسوا أفضل من القادة الأميركيين من حيث الخيال الإستراتيجي والحكمة السياسية.
ويبدو أن النخب السياسية الأوروبية لم تتعلم الكثير خلال الأعوام الـ14 الفاصلة بين هجمات 2001 وهجمات 2015، رغم أن المواريث الاستعمارية والقرب الجغرافي يؤهلان أوروبا لمعرفة المنطقة العربية بأحسن مما يعرفها الأميركيون، والتحرر من اجترار التفسيرات السطحية التي يطبعها التضليل والتطفيف.
فأوروبا وأميركا لا تعانيان من "الجهل النزيه" بجذور هجمات باريس وجذور ظاهرة تنظيم الدولة، بل من "الجهل المتعمَّد" المنبثق عن التشبث بسياسات الاستعمار السياسي منذ نهاية الاستعمار العسكري للمنطقة العربية.
وقد بُحَّت تركيا من نداء الأوروبيين والأميركيين إلى التعاون لوقف المذبحة المفتوحة في سوريا، ولو بعمل رمزي بسيط، مثل إعلان منطقة آمنة بطول تسعين كيلومترا وعمق خمسين كيلومترا، وتزويد الثوار ببضعة صواريخ مضادة للطيران تكون رادعا لسفَّاح دمشق وبراميله المتفجرة التي تحصد أرواح العشرات من الأبرياء كل يوم. وبدلا من التعاطي الإيجابي مع هذه الدولة المسلمة القوية -التي اتخذها الغرب سدا منيعا بينه وبين الزحف الشيوعي الأحمر خلال أكثر من نصف قرن- غدر الغربيون بتركيا وتركوها منكشفة أمام الحرب الطاحنة على حدودها الجنوبية في سوريا، وأمام الهمجية الإيرانية والروسية هناك.
كما نسي الأوروبيون أن لشعوب المنطقة معهم تاريخا طويلا من الاستعمار السياسي والعسكري لن تندمل جروحه بسهولة، ولن ينمحي من الذاكرة بين عشية وضحاها.
يقول علماء النفس إن الضحية أقوى ذاكرة من الجلاد؛ والسبب أن الضحية تسعى إلى رفع الظلم ورد الاعتبار الإنساني لنفسها، أما الجلاد فيسعى إلى غسل ضميره الميت من ماضيه المُعْتِم لكي يسوِّغ لنفسه الاستمرار في الإجرام والإصرار على الظلم.
وواضح أن الفرنسيين نسوا أن المسار الذي اتبعته فرنسا لوأد الديمقراطية في الجزائر في التسعينيات، وتحويل الديمقراطية الوليدة في الجزائر آنذاك إلى مذبحة مفتوحة، هو المسار ذاته الذي تتبعه أميركا وأوروبا اليوم في دول الربيع العربي.
وهل يخفى على عين البصير التواطؤ الأميركي مع السيسي وانقلابه الدموي، الذي اغتال حلم الشباب المصري، وقتل الآلاف في وضح النهار، ووضع عشرات الآلاف من أحرار مصر وأبرارها في غياهب السجون؟!
وكل ذلك تقليد لجريرة فرنسا في التواطؤ مع الانقلاب الدموي في الجزائر منذ عقدين، وهو الانقلاب الذي انتهى بحرب أهلية دامت عشرة أعوام عجاف، وقُتل فيها نحو ربع مليون جزائري، بتواطؤ بين فرنسا وجنرالات الجزائر الذين صنعتهم على عينها، وأرضعتهم بلبانها.
وكأن دماء المليون ونصف مليون شهيد الذين ارتفعوا إلى علِّيين لتحقيق استقلال الجزائر عن فرنسا لا تكفي لإطفاء ظمأ فرنسا إلى الدم العربي المسلم.
لكن "البروفة" الفرنسية في الجزائر لا تصلح لثورات الربيع العربي، وعام 1988 ليس عام 2010 إلا في أذهان البلداء الذين اعتادوا استعباد الشعوب، والتحكم بمصائرها من وراء البحار، ولم يفهموا أن التاريخ دائب الحركة.
منذ أكثر من نصف قرن كتب المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون: "إن الغرب لم يَرَ في الشرق الإسلامي إلا ما كان يريد رؤيته." ويمكن القول -توليدا لمقولة رودنسون- إن الغرب لم يسمع من الشرق الإسلامي إلا ما كان يريد سماعه؛ فهو يريد أن يسمع من يُدين الذين يهاجمون الغرب دون أن يذكِّر الغربَ بأن سياساته العدوانية ودعمه الظاهر والمُضمَر للمستبدين السفاحين، وتواطؤه في قمع الشعوب العربية ومصادرة حرياتها، ووأد آمالها الإنسانية المشروعة في الحرية والكرامة؛ هي الأسباب في كل ما يحيق به وما سيحيق به من هجمات.
إن لكل نص سياقا يفسر مغزاه، وإن لكل فعل دافعا يعين على فهمه، والنخب الغربية ترفض أي حديث في السياقات والدوافع، لأن ذلك يكشف نفاقها وتواطؤها مع الظلم الفادح والهمجية المسلطة على الشعوب العربية. ويستلزم التعاطي الحكيم مع آثار هجمات باريس الدموية، واجتناب مزيد من هذه الفجائع، تأملا نزيها في الدافع والمعنى والسياق، لا سياق الهجمات فقط، بل سياق ميلاد تنظيم الدولة وتمدده وجاذبيته لآلاف الشباب المسلم، بمن فيهم مواطنون غربيون، كما يستلزم التعاطي الحكيم مع آثار هجمات باريس إدراكا لوحدة عالم المتوسط حاضرا ومستقبلا.
ومن الواضح أن الدافع وراء هجمات باريس الدامية -مثل الدافع وراء هجمات 11 سبتمبر- هو الإحساس بالظلم والسعي إلى الإنصاف، ومن الواضح أيضا أن التهرب من قدر الجغرافيا والتاريخ الذي ربط مصائر أوروبا بمصائر تركيا والعالم العربي لن يفيد الأوروبيين شيئا بعد اليوم.
أما تنظيم الدولة فهو ليس ثمرة من ثمار الثورات العربية، كما يحاول المستبدون الإيحاء بذلك، وإنما هو ثمرة من ثمار الثورة المضادة التي قادتها أنظمة عربية غبية، بمظلة سياسية غربية.
فالثورات العربية أخرجت إلى العالم ذلك الشباب الرائع الذي أذهل العالم بسلميته ومثاليته وحسِّه المدني في شارع بورقيبة بتونس، وميدان التحرير بالقاهرة، وفي شوارع صنعاء ودمشق، قبل أن تغتال الثورة المضادة آماله وتغرقه في دمائه.
وتنظيم الدولة ثمرة مريرة لهمجية الثورة المضادة وتواطؤ المال العربي، والنفاق الغربي، والغرور الإيراني، والعنجهية الروسية.. وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وقد تعاملت الحكومات الغربية مع ظاهرة تنظيم الدولة بانتهازية مطلقة، فاعتبر الغربيون تنظيم الدولة ظاهرة محلية، مُعينة على استنزاف ثورات الشعوب وتلطيخ صورتها، وخلط أوراقها، لكن التنظيم تحول مؤخرا إلى ظاهرة عالمية، وتبيَّن أن الانتهازية الغربية لها ثمنها الذي سيدفعه الغربيون عاجلا أو آجلا.
وقد عبر الخبير في شؤون الإرهاب بروس هوفمان في مؤسسة "راند" الأميركية عن الانتهازية الغربية في التعامل مع ظاهرة تنظيم الدولة فقال إن المراهنة على أن تنظيم الدولة ظاهرة محلية -يمكن حصرها ضمن حدود العراق وسوريا- كانت جزءا من "التفكير الرغائبي" السائد في الغرب (نيويورك تايمز 14/11/2015).
وفي تعبير "التفكير الرغائبي" الذي استخدمه هوفمان هنا دلالة مهمة، فهو يدل على أن النخبة الأميركية والأوروبية تحكمت فيها "الرغبة" في أن يظل تنظيم الدولة جزءا من مصهرة دموية داخلية، تستنزف الشعوب العربية وثوراتها، وسعيها إلى الحرية من الاستبداد السياسي، وإلى التحرر من الاستعمار السياسي، دون أي أثر سلبي على المتواطئين مع الاستبداد من وراء البحار، ثم أفاقت تلك النخبة فجأة على فيض الدماء وتناثر الأشلاء في عاصمة الأنوار الفرنسية.
لكن "صديقك من صدَقك، لا من صدَّقك" كما يقول المثل العربي. والشعوب العربية تنادي الأوروبيين بلسان الحال والمقال: "أوقِفوا ذبح الأبرياء على ضفتي المتوسط، سواء كانوا في حلب والرقة أو في باريس وبروكسل".
أما حكام القمع في الدول العربية فليسوا صديق صدقٍ، ولذلك فهم يتباكون مع الأوروبيين على قتلاهم، وهم فرحون بقتلهم في أعماق قلوبهم -لأنهم بالإرهاب يحكمون وعلى الإرهاب يتغذَّون- ثم يأخذون أجرة دموع النائحة المستأجَرة: تواطؤا غربيا معهم في ظلم شعوبهم، وقتلا للأحرار الأبرار من مواطنيهم، بسلاح غربي، ودعم أمني غربي، ومظلة سياسية غربية.
لقد آن الأوان ليفكر الأوروبيون في عالم المتوسط الواحد؛ فمصير أوروبا وقدَرها أصبحا مرتبطين أكثر من أي وقت مضى بمصائر الشعوب العربية على الضفة الجنوبية والشرقية، كما أصبحا مرتبطين بمصائر الشعب التركي على الضفة الشمالية الشرقية منه.
فهل ستفهم النخب الأوروبية أن الربيع العربي ظاهرة متوسطية قبل فوات الأوان؟ أم ستظل محكومة بالأنانية السياسية، والعقلية الاستعمارية، حتى تتحول عواصم الأنوار الأوروبية الأخرى إلى عواصم للشموع والدموع؟!
الجزيرة نت
ماجد محمد الأنصاري
عبد الرحمن أبو عوف
أحمد أرسلان
رضوان زيادة
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة