مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 3679
شـــــارك المادة
ليس بعد. هل التقسيم ممكن؟ نعم، بالتأكيد. هل هو مرجَّح؟ لا، ليس على المدى المنظور.
-1-
يرى أكثر السوريين أن سوريا باتت مقسَّمةً بالفعل، ولكنّ هذا غيرُ صحيح، على الأقل هو ليس صحيحاً في هذه اللحظة، ولكنه يمكن أن يغدوَ صحيحاً في أيّ لحظة آتية إذا توافقت أطرافُ الصراع على وقف إطلاق النار وتثبيت خطوط التماس والدخول في مفاوضات لتطبيع الوضع الميداني. عندها ستغدو الساحة الداخلية جاهزة للتقسيم، وبعد ذلك سيكون على تلك الأطراف التفاهمُ مع المجتمع الدولي للاعتراف بكيانات جديدة، لكل منها عاصمةٌ وسُلطة سياسية معترَف بها، وحدود جغرافية محددة واضحة ستُرسَم في أطالس العالم وخرائطه الجديدة.
هذا كله ما يزال بعيداً جداً، وما يزال التقسيم -فيما أرى- خياراً مستبعَداً في سوريا، وإن لم يكن مستحيلاً بالتأكيد. وفي هذا السياق أنصح بقراءة المقالة القيّمة التي نشرها الدكتور بشير زين العابدين قبل أسبوع بعنوان "هل تفضي الثورة السورية إلى التقسيم؟" وعدّد فيها سبعةَ أسباب تجعل التقسيم خياراً صعباً أو مستبعَداً في الوقت الراهن.
-2-
صحيحٌ أن الوضع الميداني الراهن في سوريا ينبئ بأن البلاد قُسِّمَت فعلياً، ولكن كل من يقرأ كتب التاريخ يدرك أن هذه الحالة متكررة في كل الحروب، فليست العبرة في وضع القُوى العسكرية على الأرض في أي لحظة من لحظات القتال، المهم هو ما يكون عليه الوضع في لحظة الختام ووقف النار وإبرام الاتفاق السياسي. وكل ما نراه في سوريا يشير إلى أن هذه اللحظة ما تزال بعيدة جداً، ربما على بعد خمس سنوات أخرى على أقل تقدير.
لو توقفت الحرب العالمية الثانية سنة 1943 لصارت بولندا جزءاً من ألمانيا ولما قرأ الطلاب في المدارس اسمَها في دروس الجغرافيا، ولو توقفت حرب البوسنة سنة 1993 لما كانت في الدنيا دولة بهذا الاسم اليوم، ولو توقفت الثورة الجزائرية سنة 1959 لبقيت الجزائر جزءاً من فرنسا كما أراد لها المستعمرون أن تكون.
وماذا لو توقف الصراع بين معسكرَي الكفر والإيمان يوم أُحُد أو الخندق؟ أمَا كانت في مكة يومَها دولةُ كفر وفي المدينة دولةُ إسلام، أي أنّ الحجاز كان "مقسَّماً" بين المعسكرين؟ ولكنّ الوقت كان ما يزال مبكراً للحكم: أهذه هي حدود التقسيم أم أن الوضع سيتغير من بعد؟ وقد تغيّر فعلاً لأن أصحاب الحق أبَوا أن يستسلموا في منتصف الطريق.
-3-
بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرها الدكتور بشير في مقالته فإن التقسيم ما يزال بعيداً في سوريا لأنّ ثلاثةً من أطراف الصراع ترفضه، فيما يملك الطرف الرابع طموحات متواضعة لا ترقى إلى درجة الانفصال. ومهما تكن رؤية القُوى الإقليمية والدولية لمستقبل سوريا فإن المفتاح الحقيقي لتنفيذ تلك الرُّؤى ونقلها من عالم الخيال إلى أرض الواقع هو القُوى الحقيقية على الأرض، وهي أربعة. لنُلْقِ نظرة على موقف كل منها من التقسيم.
سأُخرج من المعادلة أولاً الطرف الأضعف صاحب الطموح المحدود، وهو المليشيات الكردية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي وتعمل على الأرض باسم وحدات الحماية الشعبية. هذه القوة هي الأكثر واقعيةً وتواضعاً في سوريا، فهي لا تسعى إلى أكثر من الحصول على "إقليم كردي يتمتع بالحكم الذاتي" (الإدارة الذاتية)، ولو أنها كانت أقلَّ طموحاً ووقفت على نهر الفرات ولم تحاول تجاوزه باتجاه عفرين لوفّرَت على نفسها عناء لن تخرج منه بطائل، ووفّرَت على المشهد السوري المعقَّد مزيداً من التعقيد.
بقيت القُوى الأخرى الثلاثة التي تتصارع فيما بينها صراعاً وجودياً، فكلٌّ منها يريد سوريا كلَّها خالصةً له من دون الآخرين: الثورة وداعش والنظام. من هذا الباب أقول دائماً إن داعش والنظام "عدوّان وجوديّان" للثورة، لأن كل واحد منهما يحقق مشروعه من خلال استئصال المشروع الثوري من الجذور والقضاء على أحلام الشعب السوري بالحرية والاستقلال، بخلاف الأعداء غير الوجوديين: الأحزاب الكردية والفصائل الفاسدة التي اشتهرت بالسرقة و"التشويل".
-4-
المحزن أنّ لطرفين من هؤلاء الثلاثة إستراتيجيةً واضحةً ولكل منهما قيادة موحدة وغرفة عمليات واحدة مشترَكة تنطلق منها عملياتُه العسكرية، فيما يتخبط الطرف الثالث بين عشرات الرؤى والقيادات ويعجز عن الرؤية الشاملة للمعركة كما يراها الآخران. لا حاجة لأن أسمّي الطرفين العاقلين والطرف الأحمق، فكل من يقرأ هذه المقالة يستطيع تعبئة الفراغات.
المقلق أكثر وأكثر أن الطرفين الآخرَين متفقان ضمناً على إبادة الطرف الثالث، فهما يتعاونان لتحقيق هذه الغاية سراً وجهراً، بخبث أحياناً وفي أحيان أخرى بلا مواربة ولا حياء، لأن كلاً منهما يستخفّ بالآخر ولا يراه عقبة حقيقية في سبيل سيطرته على كامل التراب السوري، فداعش ترى النظام هشّاً مهلهلاً (وقد بات كذلك فعلاً بعد أربع سنوات من القتال) والنظام يرى داعش نمراً من ورق (وهي فعلاً كذلك لمن تدبّر ووعى)، فلا يمانع هذا وهذا في تأجيل المعركة مع خصمه السهل إذا تخلّص من الخصم القوي: الثورة.
ولماذا صارت الثورة هي الخصم الأقوى؟ بقوة الفصائل المشتَّتة المختلفة المتنافسة؟ لا، بل بقوة الشعب الذي كان -وما يزال- هو الطرف الحقيقي في الصراع مع الاحتلال الأسدي الطائفي، وهو حاضنة الثورة وعمقها الإستراتيجي وخزّانها البشري والمعنوي. وقبل ذلك وبعده: بقوّة الله وقدرة الله ورحمة الله، التي ما تزال ترعانا إلى اليوم بسبب اليتامى والأيامى والمساكين والمجاهدين الصادقين، ولولا هؤلاء لتخلى عنّا الله من زمن بعيد بسبب ما تلبّس قادةَ الثورة من أثَرة ومكابرة واتباع للهوى وبحث عن المناصب والمكاسب والسلطان والنفوذ.
-5-
إذا كانت هذه هي الحالة الميدانية على الأرض، وإذا كان التقسيم ما يزال بعيداً -كما أحسب- بسبب رفضه من القوى الرئيسية المتورطة في الصراع، فما هو الموقف الدولي من هذا المشروع؟
لا جديد. لقد اتخذ المجتمع الدولي (الذي تقوده أمريكا كما هو معروف) قراراً بسيطاً منذ وقت طويل: "إغلاق الصندوق على الأطراف المتنازعة، وتركها حتى يُنهِك بعضُها بعضاً وتصبح مستعدة لتنفيذ الحل السياسي الذي طُبخ في جنيف في منتصف عام 2012"، وهو حل خبيث ما يزالون يطالبون بتنفيذه حتى اليوم: العودة إلى وضع آذار 2011، ولكن بلا أسد، أي بلا شخصه وليس بلا نظامه، مع مشاركة شكلية لبعض أطراف المعارضة في كيان الحكم الانتقالي المقترَح.
هذا معناه أن الأوضاع الميدانية ستَجْمُد على المدى المنظور، مع تغيرات في الحدود الدنيا في خريطة النفوذ والسيطرة المتبادَلة بين الثورة وداعش والنظام. فلماذا يستميت النظام في تثبيت وتحصين مواقعه في العاصمة والساحل إذن؟ ولماذا بات الريف الدمشقي كله مهدَّداً باجتياح النظام وبسقوط مناطقه المحرَّرة واحدةً واحدة؟ الجواب: لأن إيران (التي تقود المعركة في سوريا منذ وقت طويل) تملك الكثير من الحكمة والدهاء، فيما يملك مجاهدونا منهما أقلّ القليل، فهم يخططون لأسبوع وإيران تخطط لعشر سنوات.
مهما مضى من زمن فإن النظام سيبقى في أمان طالما نجح في استصفاء أفضل مناطق سوريا، الغرب السوري من دمشق جنوباً إلى رأس البسيط، وحيث إنه يملك العاصمة فهو يمثل "الدولة السورية" في العرف القانوني الدولي ولو فقد ثلاثة أرباع البلاد.
هذا الوضع مهم جداً لإيران على المدى الطويل، لأنها ستبقى محتفظة بمصالحها الإستراتيجية في سوريا ما بقي النظام قائماً فيها ومحتفظاً بهذا الجزء الحيوي من البلاد، لذلك ستبذل المزيدَ والمزيد من الجهد وسوف يزداد تدخلها اتساعاً وقوة وعلانية، كل ذلك على عين العالم الذي لن يحرك ساكناً ولن يحاول مساعدة السوريين وهم يواجهون هذا الخطر الكبير، لسبب بسيط، لأن إيران تتحرك بتفاهم وتوافق مع القوة الأكبر والأكثر تأثيراً على المستوى الدولي، مع الولايات المتحدة الأمريكية.
الخبر المؤسف: إن السوريين يدفعون ضريبة الاتفاق النووي المشؤوم.
* * *
لم يعد الواقع السوري اليوم كما كان سابقاً، لم يعد كذلك بعدما باعت أمريكا سوريا لإيران. التفاصيل في المقالة الآتية إن شاء الله.
الزلزال السوري
حسام حمدان
أحمد أبازيد
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة