رابطة خطباء الشام
تصدير المادة
المشاهدات : 3151
شـــــارك المادة
مقدمة: لما كان الاختلاف قضية لا بد من حدوثها وكان الحوار سبيلاً للإقناع و إقامة الحجة، كان لا بد لهذا الحوار الذي سيقابل المسلم في بيته مع زوجه و أبنائه، وفي خارجه مع إخوانه و زملائه، أو من يقابله من مسلم مؤمن بالله أو كافر جاحد للإسلام، كان لا بد لهذا الحوار من آداب ، وقد جاء في الكتاب و السنة من ذلك شيء عظيم الفائدة كثير العائدة، وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأمثلة واقعية حصلت معه لتكون لنا مدرسة عملية. عناصر الخطبة: 1- حواره مع المسلم. 2- حواره مع المشرك. 3- حواره مع المنافق. 4- حواره مع الجاهل. 5- الحرص على استقطاب المخالف وهدايته.
1- حواره مع المسلم
في غزوة حنين رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتألف البعض بالغنائم تأليفاً لقلوبهم، وذلك لحداثة عهدهم بالإسلام، فأجزل العطاء لزعماء قريش وغطفان وتميم، إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، وقد تأثر بعض الأنصار بحكم الطبيعة البشرية، وظهر بينهم نوع من الاعتراض على ذلك، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتراض وعمل على إزالته بحوار رقيق، يتسم بالحكمة والرفق، والود والحب . عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد –غضب - هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم : لقي رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـقومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا من ذلك، قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال : فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، قال : فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثم قال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم، ألم تكونوا ضلَّالاً فهداكم الله، وعالة -فقراء-فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟، قالوا: بل الله ورسوله أمنّ وأفضل، قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعَاعَةٍ من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله في رحالكم؟، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله ـصلى الله عليه وسلم وتفرقوا) (رواه البخاري ومسلم ،رواه أحمد:255) لقد وجد الأنصار في أنفسهم كما يجد أي إنسان من أنهم هم الذين قاتلوا وجاهدوا ثم بعد ذلك تُصرف الأموال إلى غيرهم، بل إلى رؤساء أعدائهم، لذلك قالوا في رواية أخرى للحديث: (يعطي قريشاً وسيوفنا لا زالت تقطر من دمائهم) في ظاهر الأمر يحق لهم أن يعتبوا، ولكن نظر النبي صلى الله عليه وسلم أوسع من نظرهم، والمصلحة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعطاء المؤلفة قلوبهم كانت أكبر من إعطاء الأنصار تلك اللعاعة من الدنيا ولذلك وكلهم إلى إيمانهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وحدهم واتبع معهم أسلوبا تربوياً حكيما رقيقاً خاطب فيه عقولهم وعواطفهم، فكانت النتيجة أن انقادوا طائعين راضين بقسمة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . قال ابن القيم ينوه بما في هذا الحوار النبوي من النفع: " ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عَوْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم " . 2- حواره مع المشرك:
انظر إلى هذا الحوار الراقي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عتبة بن ربيعة من سادة قريش.. يقول عتبة بن ربيعة وهو يساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك الإسلام: «يا ابن أخي، إنك منَّا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به مَن مضى مِن آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها». فقال له رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ». قال: «يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإنْ كنت تريد به مُلكًا ملَّكناك علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيك رِئيًا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبْرِئك منه؛ فإنَّه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوى منه حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فَاسْمَعْ مِنِّي، قال: أفعل. فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ *حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)( فصلت 1-5) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْتَ وَذَاكَ. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشِّعْر ولا بالسِّحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني، واجعلوها بي، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليَكُونَنَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم، فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وعِزُّه عِزُّكُمْ، وكنتم أسعدَ الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه!! قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم) . هذا الحوار في غاية الأهمية؛ فعلى الرغم أن عتبة بن ربيعة كان قد قدَّم كلامه بمجموعة من التُّهَم الموجَّهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رسول الله ظل على هدوء أعصابه ولم ينفعل، إنما واصل الاستماع في أدبٍ واحترام، مع أن عتبة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم التنازل عن دعوته مقابل ما يعرضه عليه من مغريات الدنيا، فقَبِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يستمع إليه، بل قال له: قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ.. فهو يُكَنِّيه بِكُنْيَتِهِ، أي يُناديه بأحب الأسماء إليه ويلاطفه ويرقِّق قلبه، ولما عرض عتبة بن ربيعة الأمور التي جاء بها لم يقاطعه النبي النبي صلى الله عليه وسلم مع سفاهة العروض وتفاهتها، بل إنه صبر حتى النهاية، وقال في أدبٍ رفيع: أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَاسْمَعْ مِنِّي. لقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الفرصة كاملة لعتبة لكي يتكلم ويعرض وجهة نظره، وبعد انتهائه تمامًا بدأ رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام؛ ليضرب لنا بذلك أروع الأمثلة في التحاور مع الآخرين، وإن كانوا مخالفين تمامًا في العقيدة والدين. ماذا لو لم يسمح رسول الله لعتبة بأن يتم كلامه وقال له أنا على حق وأنت على باطل، أو قال له بل أنت استمع مني ومثلي لا يستمع لمثلك، أو رفض أن يجلس معه ويحاوره؟! أكان عتبة سيخرج بمثل ما خرج به، أكان سيستمع لكلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ أكان سيخرج مادحاً لدين النبي صلى الله عليه وسلم؟ فصلى الله على الرحمة المهداة، نبي الحكمة والحلم والأناة. 3- حواره مع المنافق:
لقد لقي النبي عليه الصلاة والسلام من المنافقين ما تشيب منه النواصي من المواقف الدنيئة، والأفعال الساقطة. ومع ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من المسلمين من الرحمة والرفق، ومعاملة الإساءة بالعفو أو الإحسان. وكان يحاورهم بألطف المحاورة، ويحملهم على ظواهرهم، دون بحث عما تكنه سرائرهم، وتنطوي عليهم دخائل نفوسهم. ويشهد لذلك حوادث كثيرة، ولعل أجلاها ما كان من أمره مع رأس المنافقين عبدالله بن أُبَي بن سلول، وإليك طرفاً من ذلك. جاء في البخاري عن أسامة بن زيد، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم (ركب على حمار على قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث من الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلسٍ فيه عبد الله بن أبي قبل أن يسلم عبد الله ابن أبي _أي: يتظاهر بالإسلام_ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غَشِيَتِ المجلسَ عجاجةُ الدابةِ خَمَّر عبدُالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله ابن أبي بن سلول: أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال: عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي " يُخَفِّضُهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي دابته، حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النبي: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب _يريد عبد الله بن أبي_ قال: كذا وكذا قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة - البلدة وهي يثرب -التي صارت المدينة وطيبة على أن يتوِّجوه فَيُعَصِّبوه بالعصابة _أي: يتوجوا عبدالله بن أبي ملكاً عليهم_ فلما أبى الله ذلك، فاتت الفرصة على عبد الله ابن أُبَي، وفاته الملك للإسلام الذي جاء؛ فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ بذلك _أي: غص به وكرهه_ فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله)( البخاري: 4566) فهذا الحديث من أعظم ما يكون من أمثلة التعامل مع المخالف. ولو أراد باحث أن يستقصي ما فيه مما يتعلق بالحوار لطال به المقام؛ فانظر كيف اسْتُقْبِلَ عليه الصلاة والسلام بذلك الاستقبال الفاتر الذي لا يليق بأحط الناس فكيف بخير الناس، حيث غطى ابن أبي أنفه بردائه إشارة إلى الكراهية. ولم يكتف بذلك، بل قال:( لا تغبروا علينا) فاجتمع في الإساءةِ إشارةُ اليد، وإطلاقُ اللسان. ولم ينل ذلك الموقف نيله من النبي عليه الصلاة والسلام بل سلَّم عليهم؛ فلم يقابل إساءتهم إلا بالإحسان، ثم وقف وتواضع فنزل عن دابته ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن، ثم أعطى الفرصة لمحاوريه، فتقدمهم عبدالله بن أبي، فقال بكل صفاقة وشك: (أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه) فقد نادى النبيَّ صلى الله عليه وسلم" بنداء المُنْكِر له ولنبوته فقال: (أيها المرء) ولم يقل: يا نبي الله أو يا أبا القاسم أو يا محمد. وبعد أن اسْتَبَّ المجلس، وكادوا يتقاتلون صار عليه الصلاة والسلام يخفضهم بلهجته الهادئة الرحيمة حتى سكنوا، وزالت عنهم سورة الغضب. ثم لما لم يجد للحوار قيمة بعد ذلك ركب دابته، وانصرف. وهل وقف الأمر عند هذا ؟ لا، بل إنه لما دخل على سعد بن عبادة قال عليه الصلاة والسلام: يا سعد ! ألم تسمع ما قال أبو حباب _ يريد عبدالله بن أبي _ قال: كذا وكذا. فتأمل هذا الأدب الرفيع، وهذه النفس الكبيرة، وذلك القلب المفعم بالحب والعدل والإحسان، لم يقل: ألم تسمع ما قال ذلك الأشقى، أو الألد، أو غيرها من الألفاظ التي تليق بعبدالله بن أبي، بل لم يُسَمِّه باسمه المجرد، ولم يقل: ابن أبيٍّ، وفي ذلك عدل وإقساط. وإنما ارتقى؛ ليفصح عما هو أعظم من ذلك، وليبين مدى تسامحه، ورقته، ورأفته، وسلامة صدره، وترفعه؛ فَكَنَّاه بكنيته وقال: أبو حباب. والتكنية المحببة إلى الإنسان هي مما يسره؛ ولا يقولها من في نفسه غضب أو غضاضة، ومع ذلك كناه بكنيته المحببة إليه، مع أن ابن أبيَّ ناداه بـ:( يا أيها المرء) ثم تأمل ما كان من ذلك السيد الألمعي الصحابي الجليل سعد بن عبادة؛ حيث لمح تأثر النبي" وأدرك سَعَةَ نفسه، وكِبَرَ قلبِه بتكنيته ابن أبي، فأراد تسليته وطلبَ العفو منه؛ فطابت نفسه عليه الصلاة والسلام وعفا عن ابن أبي. وهل صار لذلك الحوار، وتلك الإساءة من ابن أبي أثر في نفس النبي" وهل قطع إحسانه عنه؟ أو جعلها ذريعة للوقيعة فيه؟. وهل توقف ابن أبي عن مخازيه؟ لا؛ فهو الذي آذى النبي أيما أذية؛ حيث آذاه في بيته كما في قصة الإفك _ فهو الذي تولى كبره، وأشاع قالة السوء عن عائشة رضي الله عنها. وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي صلى الله عليه وسلم في أحرج أوقاته، وهو الذي قال : ( لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)(المنافقون: 8) وهو صاحب المواقف المشهورة بالخزي والشنار. هذا الرجل الذي كان من شأنه ما كان لما مات طلب ابنُه من النبي قميصه؛ ليكفنه فيه تطهيراً له؛ فأعطاه قميصه كفناً لزعيم المنافقين ! أرأيت أكرم من هذا الصنيع؟ وهل وقف الأمر عند هذا الحد؟ فهذه بعض مواقفه مع زعيم المنافقين، فما ظنك بمن دونه؟ ولا ريب أن لتلك الحوارات والمواقف أثرها البالغ على الموافق والمخالف، فالموافق يأخذ العبرة فيصبر على جفاء المسيء، وينتظر حسن العاقبة. والمخالف يُقْصِر عن التمادي، ويراجع نفسه، وربما رجع عن غيه؛ لأن النار إنما تُذكى بالعودين. والمتأمل للسيرة النبوية يلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليستعديَ أحداً من الناس كائناً من كان، بل كان يخطب الود في كافة حواره، وفي أي فرصة تسنح له. 4- حواره مع الجاهل:
عن أنس رضي الله عنه قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ» فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ )(رواه مسلم/285) قال ابن حجر: " وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عناداً" . وقال النووي: " وفيه الرّفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيفٍ ولا إيذاء، إذا لم يأتِ بالمخالفة استخفافاً أو عناداً ، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما " .
فانظر كيف حاور هذا الأعرابي حواراً عقلياً رقيقاً حتى عقل عنه واستسلم لحكم الشرع وأذعن، ولو قوبل بقسوة فلربما آذى بأكثر من ذلك ولباء بإثم مخالفته للشرع وعدم استسلامه له، فصلى الله على معلم البشرية ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
5- الحرص على استقطاب المخالف وهدايته:
إن المسلم يقصد من حواره مع المخالف أن يجذبه للحق الذي يحمله ويدين به، وأن يستخرجه من ظلمات الجهل أو الكفر، وهذا لن يتحقق إلا بالرحمة بالمخالف والرفق واللين معه حتى يؤتي الحوارُ ثمارَه، ولا أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم معلماً لورثته من العلماء والدعاة وطلاب العلم آداب الحوار، ومنها: أ- احترام شخص المحاور مع بيان خطأه بأدب: لقد علَّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الطريقة المثلى في التعامل مع غير المسلمين، فدلَّنا على أنه لا يكفي أن تعترف بوجود الآخرين، ولكن عليك أيضًا أن تحترمهم.. ولم يكن هذا الأمر اجتهادًا منه صلى الله عليه وسلم دون وحي رباني أو أمر إلهي، بل كان موافقًا تمامًا لما جاء في كلام الله عز وجل في القرآن الكريم في شأن التعامل مع المخالفين لنا في العقيدة والدين. يقول الله عز وجل في كتابه يعلمنا طريقة التحاور مع غير المسلمين: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ )(سبأ: 24-26) إن رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم يعلم على وجه اليقين أنه على الحق والهدى، ومع ذلك أمره الله في تحاوره مع المشركين أن يقول لهم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) إنها الأرضية المشتركة التي نقف عليها، أحدنا على حق والآخر على باطل، فلنتناقش ولنتحاور حتى نصل إلى الحقيقة الغائبة.. إنها طريقة الحوار المثلى، وغاية الأدب، ومنتهى سموِّ الأخلاق. ثم يعلِّمه الله أن يخاطبهم في أدب جمٍّ فيقول لهم: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون) إنه ينسب لفظ «الجُرْم» إلى نفسه، وهو عادة يأتي في الأخطاء والزَّلاَّت، وينسب لفظ «العمل» لهم وهو يحتمل الصلاح أو الفساد.
ثم إنه يُسَلِّم الأمر كله لله، فيقول: إن الله سيجمع بيننا جميعًا يوم القيامة، ويحكم بيننا بالحق الذي يراه، فنعرف ساعتها من الذي أصاب ومن الذي أخطأ. إنها أرقى وسيلة ممكنة من وسائل التحاور، لا تحمل أي صورة من صور العصبية والتَّزمُّت، إنما فيها كل الأدب، وكل التقدير للطرف الآخر. ومثل هذا يقال على ما جاء في القرآن محدِّدًا طريقة الحوار مع أهل الكتاب، قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت:46) إنه لا يطلب منا أن نتحاور مع أهل الكتاب بأسلوبٍ حَسنٍ فقط، بل يطلب منَّا دائمًا أن نبحث عن الأسلوب الأحسن والأفضل والأجمل. ثم انظر إلى تقريب العقول وترقيق القلوب، حين يقول: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). إنه لا ينظر فقط إلى نقاط الخلاف، وإنما يبدأ أولاً في نقاط الاتفاق وينطلق منها. وعلى هذا النسق راجِع الآيات القرآنية لتستمتع بالكنوز الأخلاقية.. يقول تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64) ويقول تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير)( البقرة: 109). ب - الإنصات للمحاور: ومن جمال الحوار أن رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم كان يستمع إلى مخالفيه وينصت، حتى لو كانت عروضهم غير مقبولة عقلاً أو شرعًا، فكان يعطيهم فرصة الكلام والتعبير عن الرأي؛ لتتاح له بعد ذلك فرصة الكلام وشرح ما يدعو إليه، ومن ذلك قوله لعتبة: (قل يا أبا الوليد أسمع)، وقوله له كذلك: (أفرغت يا أبا الوليد). جـ - إنزال المحاوَر منزلته: جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل ملك الروم كتاباً دعاه فيه إلى الإسلام، وفيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأَرِيسيِّين -الفلاحين والأتباع- و(يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )(آل عمران 64،رواه البخاري/7 ، ومسلم/1773) فمن آداب الحوار النبوي مع الآخرين الاستماع والمناقشة، وإنزال الناس منازلهم فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِعُتْبة (أفرغت يا أبا الوليد)، وقال لهرقل ملك الروم النصراني (من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ) وذلك الأدب النبوي في الحوار أصله قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم) ومن شواهد ذلك ما جاء في حديث وفد عبدالقيس لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن وفد عبدالقيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القوم، أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى)( البخاري/7266) وكان سبب استفساره هو الرغبة في التعرف عليهم؛ لينزلهم منازلهم، ويتحدث معهم مراعياً أحوالهم. قال ابن أبي جمرة تعليقاً على الحديث: فيه دليل استحباب سؤال القاصد عن نفسه؛ لِيُعْرَفَ؛ فيُنْزَل منزلته.
د - النظر في شبهات المحاورين، والإجابة عنها: ففي ذلك إرضاء لهم، وتطييب لنفوسهم. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في الصحيحين عن سهل بن حنيف أنه قام يوم صفين، فقال: (أيها الناس اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فجاء عمر فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألسنا على حق، وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولمّا يحكمِ الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً). قال: فانطلق عمر ولم يصبر متغيظاً حتى أتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ فقال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبداً، قال: فنزل القرآن على محمد بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، قال: يا رسول الله أَوَ فَتْحٌ هو؟ قال: نعم، فطابت نفسه، ورجع ).( البخاري/3182، ومسلم/1785).
هـ - العدل والإنصاف: قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8) فالمسلم يقبل الحق من حيث أتى، وحتى لو كان من مخافه، وينبغي أن لا يحمله خلافه مع محاوره على أن يرفض ما معه من الحق، وإذا كان المسلم على هذا الخلق فسرعان ما تطيب نفس المخالف له وتذعن للحق لأنه سيشعر بعظمة هذا الدين وتقديره واحترامه للمقابل.
مكتب البحث العلمي والفتوى بالجبهة الشامية
محمد لافي
عبد الرحمن البراك
عبد العظيم عرنوس
المصادر:
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة