..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

ماذا نعني "بالواقعية" في الشريعة الإسلامية؟

محمد لافي

١ إبريل ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3251

ماذا نعني
00.jpg

شـــــارك المادة

تنبع أهمية بيان وشرح معنى "الواقعية" في التشريع الإسلامي بشكل صحيح من عدة وجوه أهمها: إظهار الفرق الواضح بين معنى الواقعية في التشريع الإسلامي، والواقعية في المفهوم الغربي، حتى لا يختلط الأمر على بعض الناس عند إطلاق صفة "الواقعية"، بسبب الجهل بخصائص التشريع الإسلامي، وهيمنة وشيوع المعنى الغربي للفظ "الواقعية".

كما أن هذا البيان ضروري للرد على كثير من المستشرقين وأعداء الدين، الذين يزعمون أن الشريعة الإسلامية اهتمت ببيان العقيدة والأخلاق وبيان أثرهما في تربية النفوس، دون أن يكون لهذا التشريع صلة بواقع الحياة، ليتوصلوا من خلال هذه المقدمة الفاسدة والزعم الباطل إلى نتيجة خاطئة مفادها: أن الشريعة الإسلامية مثالية لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، وغير صالحة لتنظيم وإدارة حياة الناس في كل زمان ومكان.

وقبل بيان معنى "الواقعية" في التشريع الإسلامي، لا بد من بيان معنى الواقعية "بالمفهوم الغربي"، والتي يمكن تعريفها بأنها: مذهب فكري مادي ملحد، يقتصر في تصويره الحياة والتعبير عنها على عالم المادة، ويرفض عالم الغيب والإيمان بالله(1).

لقد عمل دعاة الواقعية من خلال هذه النظرية والفكرة الشيطانية على ربط الإنسان الغربي بغرائزه وشهواته، وتوجيه نظره إلى التراب لا إلى السماء، فزادوا بذلك في ماديته، وأمعنوا في إبعاده عن كل ما هو غيبي أو روحي، نظرا لكون الواقعية في الأصل كانت ردة فعل للمثالية التي تصدت لهيمنة الكنيسة على العوم الطبيعية دون أن تكسب المعركة.

والحقيقة أن الأسس التي قامت عليها الواقعية الغربية هي المذاهب الفلسفية المادية التي انتشرت هناك، مثل الفلسفة الوضعية التي انتشرت في فرنسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي تقوم على رفض كل ما هو غيبي، وتقتصر على عالم المادة والحس، بالإضافة إلى الفلسفة التجريبية التي تلتقي مع الوضعية في رفض الغيب.

كما يمكن القول بأن الحقيقة المادية هي أساس الواقعية بالمفهوم الغربي، وأن الروح والعقل ظاهرة طارئة لها في مذهبهم، حتى زعم أرسطو: إن المبدأ الحق في كل الأشياء إنما هو الواقع، وإذا كان الواقع نفسه معروفا دائما بالوضوح الكافي، يكاد لا يكون ثمة حاجة للصعود إلى علته(2).

وبعد هذه الخلاصة الوجيزة عن معنى الواقعية بالمفهوم الغربي، يمكن بيان وشرح معنى "الواقعية" في التشريع الإسلامي، والتي تختلف عن الواقعية الغربية اختلافا جذريا، ولا تتفق معها في أي شيء سوى حروف كتابة كل منهما.

معنى الواقعية في التشريع الإسلامي:

بداية لا بد من القول بأن الشريعة بتعاليمها ليست مجرّد قيمٍ نظرية مجردة حالمة، بل هي في أحكام تراعي واقع البشر وحاجاتهم وميولهم، وتأخذ بعين الاعتبار تباين قدراتهم وملكاتهم، وما قد يطرأ على بعضهم من ظروف وأحوال غير طبيعية.

ويمكن معرفة معنى "الواقعية" في الإسلام من خلال ثلاثة محاور هي الكون والحياة والإنسان:

1-    أما بالنسبة لمحور الوجود: فالإسلام يعتبر الكون كله بمظاهره المختلفة حيقية وواقعا، غير أنه لا يحصر الوجود بالمظهر المادي فحسب، وإنما يؤكد وجود العالم الروحي "الغيبي" بكل ذواته وأعيانه.

2-    وأما في محور الحياة: فإن "الواقعية" في الإسلام تراعي أن الحياة حياتين: الدنيا والآخرة، ومن خلال هذه النظرة "الواقعية" يسلم الإسلام من آفة إفراط طائفة بإنكارها الآخرة – كالدهرية – وإسرافهم في الأهواء والشهوات والمادية، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} الجاثية/24

وآفة تفريط طائفة أخرى بإسرافها بنظرتها للحياة، من خلال رفض أي اعتبار للدنيا، واعتبارها شرا مستطيرا يجب الفرار منه – كالنصارى-، كما يؤكد الإسلام بنظرته "الواقعية" للحياة أن عدم وقوع الآخرة في الحال لا ينفي وجودها، ولا يمنع تحققها في المستقبل، قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} طه/15.

3-    أما محور الإنسان: فإن واقعية الإسلام تظهر من نظرته إليه بأنه مكون من جوهرين اثنين: المادة والروح، فالطين يمثل الجانب المادي فيه، والروح تمثل الجانب المعنوي، وكل منهما له نوازع ومطالب لا بد من تلبيتها وإشباعها، حفاظا على ذات الإنسان ونوعه، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} سورة ص/71-72.

والإسلام – بواقعيته الصحيحة بالنسبة للإنسان – نبه إلى حقيقة هامة مفادها: أنه من المستحيل كبت نوازع جوهري الإنسان – المادة والروح – ومصادرة مطالبهما الضرورية، بل الواجب السعي إلى سد هذه الحاجات بطرق شريفة، تتناسب مع كرامة الإنسان وتميزه عن بقية المخلوقات التي تقاسمه الغرائز والشهوات(3).

وإذا انتقلنا للحديث عن خصائص "الواقعية" في الإسلام فيمكن القول بأن من أبرزها مراعاتها للفطرة الإنسانية، فالشريعة الإسلامية بواقعيتها التي سبق ذكرها، راعت فطرة الإنسان رعاية متميزة، وتعاملت معه باعتباره ضعيف التكوين والتركيب، محدود الطاقة، فلم تكلفه من العقائد إلا ما ينسجم مع حدود عقله وتصوراته، من خلال بيان حقائق لا تعقيد في فهمها وإدراكها، كما لم يكلفه من العبادات ما يفوق وسعه وقدرته، بالإضافة للاعتراف بحاجته للطعام والشراب والنكاح، ناهيك عن مراعاة ظروفه وأحواله التي قد تعتريه من مرض أو غير ذلك.

وأما في مجال التشريع فقد تجلت "الواقعية" في الإسلام من خلال تشريع عبادات محدودة، وشرائع معدودة، لا يعجز المرء عن القيام بها، فالصلاة والصيام والزكاة والحج و...غيرها من العبادات داخلة تحت قدرة الإنسان وطاقته من خلال الاستقراء، ويظهر ذلك من خلال قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} البقرة/286، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...} التغابن/16.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن تنوع التشريع الإسلامي في شعائره وشرائعه، مراعاة واحتواء لحاجات البشر، التي تتعدد حاجاتهم، وتتنوع مطالبهم خير معين لفهم معنى "واقعيته"، كما أن مرعاة هذا التشريع فطرة الإنسان الذي سرعان ما يتسلل إليه الملل والسآمة من الحياة، إذا كانت على وتيرة واحدة – كما وقع للنصارى من ابتداع الرهبانية – ومراعاة ضعف الإنسان الذي تعتريه نقائص وعيوب، وتميل به الأهواء والشهوات، من خلال تنويع تلك الشرائع مثال آخر للفهم الصحيح للواقعية في الشريعة الإسلامية.

أبرز مظاهر "الواقعية" في التشريع الإسلامي:

لا يمكن حصر مظاهر وملامح "الواقعية" في الشريعة الإسلامية في هذا المقال، لأنها في الحقيقة تحتاج إلى أكثر من كتاب ومجلد لشرحها واستقصائها، إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فلا بأس بذكر بعض مظاهر هذه "الواقعية"، من خلال عدة نقاط:

1-    ففي مجال الحلال والحرام لم تحرم الشريعة الإسلامية شيئا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته، كما لم تبح له شيئا يضره، ومن هنا أنكر القرآن من يحرم زينة الله التي أباح لعباده والطيبات فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الأعراف31-32، مع مراعاة القصد، والاعتدال فيها، وعدم الإسراف في استعمالها.

2-    وفي مجال تقدير أحوال الإنسان وظروفه المتقلبة في هذه الحياة، تظهر "واقعية" الشريعة الإسلامية من خلال تقديرها الضرورات ـ التي تعرض الإنسان وتضغط عليه ـ حق قدرها، فرخص الإسلام للمضطر تناول بعض المحرمات على قدر ما توجب الضرورة، ومن هنا جاءت القاعدة الفقهية المشهورة: "الضرورات تبيح المحظورات" والتي تستند في حجيتها إلى قول الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة/173.

3-    وفي مجال الزواج والأسرة تبدو "واقعية" الشريعة الإسلام بأجلى صورها، من خلال مراعاتها قوة الدافع الجنسي عند الإنسان، فاعترفت بهذه الرغبة، ولم تهملها أو تتعالى عليها بدعوى التدين كما فعلت بعض الملل والنحل، إلا أنها وبنفس شرعت لإشباع هذه الرغبة طريقة شرعية نظيفة، من خلال شرعة "الزواج" التي تحافظ على كرامة الإنسان ونوعه، ولم تطلق هذه الشهوة دون أي ضابط كما فعلت المادية الغربية.

والحقيقة أن حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وتدارك النبي صلى الله عليه وسلم لأخطائهم في فهم حقيقة الإسلام، يعتبر النموذج الأمثل والصورة الأوضح لمعنى "الواقعية" في التشريع الإسلامي.

ففي الحديث الصحيح أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُالُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا. فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"(4).

لقد شملت "واقعية" الشريعة الإسلامية – بالإضافة لمراعاتها فطرته - كافة ظروف الإنسان، صغره وكبره، شبابه وشيخوخته، صحته ومرضه، غناه وفقره، علمه وجهله، تذكره ونسيانه، عمده وخطأه، اختياره وإكراهه...... ولم تقتصر على حالة واحدة يتعرض لها الإنسان، لترتب بعد ذلك لكل حالة من الأحكام ما يتناسب مع طبيعة الإنسان، ويتفق مع قدرته وطاقته.

هذا باختصار شديد جزء يسير من معنى "الواقعية" في الإسلام، وهو ما يؤكد عظمة هذا الدين، وصلاحية تطبيقه في كل زمان ومكان.

 

_________________

(1)    الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 2/107.
(2)    علم الأخلاق لأرسو 1/177 ترجمة أحمد لطفي السيد.
(3)    انظر كتاب: واقعية التشريع الإسلامي وآثارها: من ص76- 87 بتصرف.
(4)    صحيح البخاري برقم/5063.

 

 

المسلم
 

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع