..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

يحبهم ويحبونه

أحمد المحمدي

٢٢ إبريل ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 6373

يحبهم ويحبونه
maxresdefault.jpg

شـــــارك المادة

لا تنال محبّة الله تعالى بالأماني الجوفاء، ولا الدعاوى التي غابت عنها البينات، بل تنال بذوبان العبد وانقياده لمحبوبه، حتى إنه ليترك هواه لهوى محبوبه (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). إنه الحب الحقيقي الذي يصحبه العمل ويحميه الإخلاص وتضبطه النصوص المحكمات، ساعتها يتمنى كل مخلص أن يتدرج به الحال كي ينتقل من المحِب إلى المحَب، قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ".
لقد جعل الله الكريم الحب شأناً متبادلاً بين العبد وربه، الأول مستغرب (يحبهم) والثاني متفهم (يحبونه) وهذا أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله بصفاته فوجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها.
يقول ابن القيم: "إذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً هائلاً عظيماً، وفضلاً غامراً جزيلاً، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه.. هو إنعام هائل عظيم.. وفضل غامر جزيل.
وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمراً فوق التعبير أن يصفه، فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين..
وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين — وهم قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل — ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد، وهي تقول:

فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين * وكل الذي فوق التراب تراب

هذه المعاني الراقية يعرفها أهل الحق ويتطلعون إليها بشوق، فلم تحجبهم المعرفة عن العمل، ولم يركنهم الحب عن اتباع الأثر، نظروا في القرآن فعلموا صفات من يحبهم الله فالتزموها، وتخلقوا بأخلاقها، فإن علموا أتقنوا وأحسنوا لأنهم علموا من صفات من يحبهم الله أهل الإحسان قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وإن أرادوا إرضاء مولاهم رحلوا إلى الاتباع وتركوا الابتداع، ذلك أن الله ربط المحبة الحقة بالاتباع قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} غايتهم السامية جعلت التقوى مطيتهم لأنهم علموا أن: { اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وإذا أصيبوا في أنفسهم أو أهلهم أو أموالهم وجدت الصبر على القضاء والرضى بالله قائم في نفوسهم لأنهم سمعوا الله يقول { وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} علموا أن المؤمن الحق هو الذي يتوكل على الله ولا يتواكل عليه، فكانت قلوبهم بالله معلقة وأخذهم بالأسباب ظاهرة وتوكلهم على الله محبة فيه ومجلبة لمحبته قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} لا يعرفون الظلم ولا يحكمون إلا بالعدل والقسط لأنهم سمعوا الله يقول لهم في شخص نبيهم: { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} القسط والعدل لا ينفك عن أهل الإيمان حتى لو كان مع من خالفهم عقيدة وسلوكاً {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } هكذا هي حياتهم سلما مع من سالمهم، لكن حين يفرض عليهم القتال تراهم فرسان النهار كما كانوا رهبان الليل، يقاتلون في سبيل الله تحت راية واحدة وفي صف مهيب لأنهم علموا أن { اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}. وإن زلت أقدامهم أو تعثرت خطاهم تابوا وتطهروا لأنهم سمعوا الله يقول { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} هكذا هو المؤمن المحَب، يحسن الظن وإن وقع في المعصية فيتوب منه ويئوب ويناجي ربه باكياً وشاكياً وطامعاً فيقول:

لما عصيتكَ لـم يكـن عقلـي معـي ***** حتى صحوتُ فكدتُ أقطعُ إصبعـي
يـا رب هـل عـذرٌ يبيـض وجنتـي ***** إلا جمـيـل الـظـنِ فـيـك وأدمـعـي ِ
يا رب ملء العيـن حجـمُ جريرتـي ***** ولها صدىً كالرعـدِ ملء المسمـع ِ
عظمت فما شيءٌ يحيط بها سوى ***** حـلـم الإلـــهِ وعـفــوه المـتـوقـع ِ
أنـى اتجهـت أكـاد أسـمـعُ لعنـتـي ***** في عمقِ نفسي والجهات الأربـع ِ
يـا ليـت أمـي لـم تلدنـي كـي أرى ***** شؤم الذنـوبِ وليتهـا لـم ترضـع ِ
ربـي.. أتقبلنـي إذا أقلـعـتُ عــن ***** ذنـبٍ أصـول جــذوره لــم تقـلـع ِ
ربي.. أترحمني وخبـث خطيئتـي ***** لتخـبـثٌ النـهـر الـنـقـي المـنـبـع ِ
يـا رب إن أطمعتنـي بالعـفـو لــن ***** يبقى مـن الفجـارِ مـن لـم يطمـع ِ
أنـا مستـحـقٌ مـنـك كــل عقـوبـةٍ ***** حتـى وإن بلغـت مخيـخ الأضلـع ِ
مهمـا تكن بلغـت علي بشـاعـةً ***** لـم ألفـهـا مـمـا جنـيـت بـأبـشـع ِ
عصيانـي الجبـار حـق لـه — ولـو ***** يسمى صغائر — أن يكون مروعي
يــا رب معـتـرفٌ بـكــل صـغـيـرةٍ ***** وكبـيـرةٍ لـكـن عـفـوك مـفـزعـي
يـا رب لـو آخذتـنـي وجزيتـنـي ***** بالسوء سوءًا طال فيـه توجعـي
هيهات ما جرمي ولو وسع الدنـى ***** مــن عـفـوك اللهم قــط بـأوسـع ِ
يـا مـن يحـب العفَـو بيـن صفاتـهِ ***** طـال انتظـار نزولـه فــي أربـعـي
أنـا لــو فشـلـت بالابـتـلاء كــآدم ٍ ***** أنـا مِثلُـه إذ أُبــت بـعـد تسـرعـي
أو أبطـأ الإخـلاص نحـوك خطـوةً ***** فبحسن ظني فيك خَطـوةَ مسـرع ِ
يـا حـيُ يـا قـيـومُ قــد تعـبـت يــدٌ ***** لسـوى جلالـك سيـدي لـم تـرفـع ِ
فـإذا عفـوت فمحسـنٌ عـن شاكـرٍ ***** وإذا بـطـشـت فـقــادر بـمـضـيـع ِ

 

 

 

 

 


بوابة الشرق

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع