..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

فلسفة الحدود والعقوبات في الإسلام

مجاهد مأمون ديرانية

٢١ يناير ٢٠١٥ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3405

فلسفة الحدود والعقوبات في الإسلام
مأمون ديرانية 000.jpg

شـــــارك المادة

وضع الإسلام نظامَين للعقوبات، نظاماً معجَّلاً يطبَّق في الدنيا ونظاماً مؤجَّلاً يطبَّق في الآخرة. النظام الأخروي يخصّ العقوبةَ المتعلقة بضلال الاعتقاد (الكفر والنفاق) والتي لا سلطانَ فيها لأحد على أحد في الدنيا، لأن دعوةَ الإسلام قائمةٌ على الاختيار: {لا إكراهَ في الدين}. ولكنّ الله لم يظلم خلقه، بل أوضح لهم المصير ثم ترك لهم حرية اختيار المسير إلى المصير فقال: {فمَن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وهو عرض يتضمّن معنى التخيير الحُرّ، ولكنه ليس -كما يفهم بعضُ الناس- تسوية في الخيارين، بل هو أقرب إلى الإنذار والتهديد كما قال أهل العلم، فلا يقرأها أحدٌ إلا ويقرأ تتمّة التخيير: {إنّا أعتدنا للظالمين ناراً}، أي للكافرين الجاحدين.

فإذا كان الكفر، وهو أعظم الذنوب، قد أُجِّل حسابُه إلى الآخرة ووُكل إلى الخالق حصراً، فلماذا لم يكن هذا هو حكم سائر الذنوب وهي أقل منه شأناً وخطراً؟ لماذا حدّد الخالقُ تبارك وتعالى حدوداً وعقوبات محدَّدة يعاقَب بها من يرتكب أنواعاً محددة من الجرائم؟ لو كان الهدف هو تسوية الحساب فإن تسوية الحساب ستكون يوم الحساب، أي يوم الدين: {هنالك تَبلو كلُّ نفس ما أسلفت}. لا، ليست المسألة كذلك، لو تأملنا سنجد أن السبب متعلق بحياة الجماعة في الدنيا، ولو تُرك حساب تلك الجرائم إلى الآخرة فسوف تذهب الفائدة وتأتي العقوبة "في الوقت الضائع" كما يقولون.

*   *   *

إن الهدف الظاهر من تشريع الحدود في الجرائم الكبرى والقصاص في الجنايات والدماء هو حمايةُ أمن الجماعة وصيانتُها من الأخطار التي تهدد وجودها واستقرارها. فهي لمصلحة دنيوية جماعية: الربا يدمر اقتصاد الأمة، والزنا يدمر أخلاقها، والسرقة والقتل والإفساد في الأرض وتعاطي المسكرات والمخدرات كلها جرائم تعرّض الأمنَ الاجتماعي للخطر الشديد، فإذا تهاونت الجماعة في الأخذ على أيادي المجرمين تعرّض كيان الجماعة كله للخطر وأوشكت أن تنهار انهياراً عاماً قد لا تقوم لها قائمةٌ بعدَه.

ولأنها جرائم من الوزن الثقيل ولأنها تهدد حياة الجماعة فإن الخالق العليم الرحيم الخبير القدير لم يترك تقديرَها للجماعة نفسها، فربما تهاونت في تطبيقها وفرّطت حتى تصل إلى إباحة زواج الذكور بالذكور والإخوة بالأخوات، كما تصنع بعض المجتمعات اليوم، وربما بالغت وأفرطت فيها حتى تَرمي للأسود من سرق رغيف خبز ليُطعم أولادَه الجياع، كما صنعت جماعاتٌ أخرى في سوالف الأيام.

*   *   *

يظهر من الفلسفة السابقة أمرٌ غريب أرجو الانتباه إليه: عندما نقول إن أحكام الحدود والقصاص وُضعت من أجل "حماية أمن واستقرار الجماعة المسلمة" فإننا نفهم تلقائياً أن الجماعة المسلمة موجودة بصفاتها الكاملة وأنها تتمتع بالأمن والاستقرار، وأن هذه حالة سابقةٌ على تطبيق الأحكام وهي سبب لها. فكيف يسوّغ بعضُ الناس أن ينشأ المسبَّبُ قبل السبب؟ كيف نحافظ على أمن معدوم واستقرار مفقود لجماعة لم تُستَوْفَ بعدُ تربيتُها على الإسلام؟

لقد كان عمر رضي الله عنه على فقه عظيم، بل لعله أعظم فقهاء الأمة قاطبة، حتى كان ابن مسعود يقول: "إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم". فماذا أراد أن يعلّمنا بما صنعه في حدّ السرقة عامَ الرمادة؟ إنه يقول ببساطة: "لا أقطعهم قبل أن أطعمهم وأشبعهم". ومثله نقول بالقياس: لا نَحُدّهم في حَدّ قبل أن نوفّر لهم الحياة الآمنة الكريمة المستقرة، ولقد طالب ربنا تبارك وتعالى عبادَه بعبادته بعدما أطعمهم وآمنهم فقال: {فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.

وفي الحديث الذي أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً سألها فقال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك. قالت: لِمَ؟ قال: لعلّي أؤلف القرآنَ عليه فإنه يُقرأ غيرَ مؤلَّف (أي أنه يريد أن يقرأه بترتيب نزوله). قالت: وما يضرّك أيَّهُ قرأتَ قبلُ؟ إنما نزل أولَ ما نزل منه سورةٌ من المفصل فيها ذكرُ الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناسُ إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أولَ شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندعُ الخمرَ أبداً، ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا: لا ندعُ الزنا أبداً.

ما بال أقوام في سوريا اليومَ كأنهم ما قرؤوا هذا الحديث قط، أو كأنهم قرؤوه فما فقهوه؟ ما بالهم يَعْجلون بالحدود على قوم لم يتألّفوهم بالدعوة أولاً، قوم لم يُطعموهم ولم يؤمّنوهم، فإنهم ما يزالون يعيشون في خوف وجوع؟

(للحديث بقية)

 

 

الزلزال السوري

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع