محمد عبد الله الدويش
تصدير المادة
المشاهدات : 3371
شـــــارك المادة
يكثر اليوم الحديث عن المنهج وطرح التساؤلات وإثارة النقاش حوله، ويكثر استخدام هذا المصطلح في الخطاب الدعوي، وتقويم الجهود والأعمال الدعوية.
والحديث عن المنهج مظهر من مظاهر النضج في التفكير وتجاوز الوقوف عند المسائل الفرعية وتكرارها والجدل فيها على حساب الأصول.
لكن.. ما طبيعة هذا الحديث؟.
أهو حشد للطاقات والجهود داخل إطار الطائفة الناجية لاستكشاف معالم المنهج، وتحديد الثوابت الدعوية في مثل هذا العصر وظروفه؟ أم أن الجهود اتجهت للتشاجر والتطاحن داخل الصف الإسلامي بل داخل صف أهل السنة؟!
وما أسطره هنا لا يعدو كونه اجتهاداً فرديًّا، ومحاولة شخصية، آمل من القارئ الكريم ألا يؤدي به اختلافه معي في قضية أو جزئية إلى رفض ما يوافقني عليه، وكلّ يؤخذ من كلامه ويرد، إلا المعصوم.
المنهج في اللغة:
قال ابن فارس: (النون والهاء والجيم أصلان متباينان: الأول: النهج، الطريق.. ونهج الأمر: أوضحه.
والآخر: الانقطاع.. وأتانا فلان ينهج، إذا أتى مبهوراً مقطوع النّفَس) [1].
حين نعود إلى لسان العرب نستطيع أن نستنبط من معاني المنهج ومشتقاته:
1- الوضوح: طريق نهج: بيّن واضح، وهو النهج.
والمنهاج: الطريق الواضح. واستنهج الطريق: صار نَهْجاً.
2- سلوك الطريق: نهجت الطريق: سلكته، والنهج: الطريق المستقيم.
3- الانقطاع: وهو ليس من هذا الباب، بل من الأصل الثاني. [2]
المنهج في الكتاب والسنة:
ورد المنهج في القرآن في قوله (تعالى): (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) [المائدة: 48]. وفي السنة النبوية: جاء استخدام هذا المصطلح في حديث: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [3].
أخطاء في المنهج:
أولاً: اعتبار أقوال الرجال مقياساً للمنهج:
مما لاجدال فيه، ولا يحتاج لاستدلال: أن لأقوال أهل العلم قيمة ومكانة، ولا أدل على ذلك من أنك لا تقرأ لأحد من المعتبرين في مسألة من المسائل إلا وتراه يثني على اختياره قولاً من الأقوال، في الإشارة إلى من قال بهذا القول من أهل العلم. لكن هذا شيء، واعتبار أقوالهم وآرائهم حجة شرعية ومصدراً للتلقي شيء آخر.
وفي ميدان التقرير النظري: فلن تجد أحداً من أهل السنة يعتقد العصمة لرجل من الرجال، أو يرى أن قوله حجة ملزمة للأمة كلها، لكنك حين تنتقل إلى ميدان العمل والتطبيق: فسترى الكثير ممن يتحدث عن قضايا كبرى تتعلق بالمنهج ينطلق من رأي فلان وفلان من الناس، ويظهر أثر ذلك في جوانب عدة، منها:
1- استفتاء بعض المهتمين أهل العلم في كل ما يجدّ ويحدث، واعتماد هذه الفتوى أو الرأي حجة دون اعتبار الدليل الشرعي.
2- في مجال تقويم الأعمال الدعوية والجهود والبرامج، أو تقويم بعض الدعاة: قد يُكتفى بسؤال فلان أو فلان من الناس، واعتبار رأيه حجة قاطعة.
3- الحكم بالانحراف عن المنهج على فرد أو داعية؛ بحجة أنه خالف ما قرره العالم الفلاني أو الجماعة الفلانية، أو الهيئة العلمية الفلانية.
ومع تأكيدنا لقيمة أقوال أهل العلم وضرورة استفتائهم، إلا أن هذا شيء، واعتبار أقوال بعضهم حجة على الأمة شيء آخر.
قال شيخ الإسلام (رحمه الله): (والمقصود أن من نصب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً، اعتقاداً أو حالاً، فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية...
وكذلك: من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء... وكذلك: من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم فيما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقاً، كالأئمة الأربعة، وكذلك: من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة في كل ما يأمرون به وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء) [4].
ومن يقرأ في كتب أهل العلم السابقين واللاحقين فسيجدهم قد تواصوا بالعيب على التقليد والنعي على أصحابه وذمهم.
وقد يعتذر بعضهم بأنه يسوغ له التقليد، وأن غيره يدرك ما لا يدرك، وأنه لم يصل إلى مرتبة معرفة الأدلة ومناقشتها، فقد يسوغ له التقليد في ذات نفسه، لكن.. لم يجعل ذلك معياراً يحكم به على الآخرين، فيضللهم أو يخرجهم عن دائرة المنهج محتجًّا بأقوال الرجال؟، وحين يناقش بالدليل الشرعي يقول: إنه ليس صاحب علم، وفرضه أن يقلد.
ثانياً: اعتبار واقع المجتمع معياراً للمنهج:
تتفاوت مجتمعات المسلمين اليوم في مدى قربها أو بعدها عن الهدي الشرعي، ومدى سلامتها من البدع والمحدثات، وقد يتميز مجتمع منها بأنه أكثر محافظة وأقل ابتداعاً من غيره، فيشعر أهله بالتوجس والريبة مما يفد إليهم من سائر المجتمعات، ويعطي الواقع المشاهد بعض المصداقية لهذه النظرة.
لكن قد تتحول القضية إلى اقتناع راسخ بأن أي وافد على هذا المجتمع فذلك دليل انحرافه، فيرفض هؤلاء الكثير مما لم يألفوه بحجة أنه وافد، أو لم يكن يعرف من قبل، ولو قالوا: }إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ{ لكانوا أكثر واقعية مع أنفسهم.
نعم، قد يكون هذا الوافد مخالفاً فينبغي أن يرفض؛ لأنه مخالف للشرع لا لأنه وافد، وقد يكون موافقاً للشرع، فكونه غير معروف لدى مجتمع معين أو طبقة معينة من الناس مهما علا قدرهم ليس مبرراً لرفضه.
ثالثاً: الخلط في المصطلحات الشرعية:
هناك مصطلحات شرعية رتب الشرع عليها المدح والذم، والوجوب والتحريم وبعضها مصطلحات عامة تحتاج للفقه في تنزيلها على الوقائع والمواقف، وقد يُتكأ على مثل هذه المصطلحات، وينطلق منها، ويستثمر أثرها على الناس في تقرير ما يريده باسم المنهج، ومن ذلك:
1- المصلحة: فالمصالح والمفاسد مصطلح شرعي يكثر الحديث عنه في كتب الأصول والمقاصد، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتبار أن الدين كله قائم على مراعاة المصالح والمفاسد، لكن بعض الدعاة قد يقف مواقف ويعمل أعمالاً دعوية تخالف المنهج الشرعي، وحين يطالَب بالحجة والبرهان لا يجد لنفسه مستنداً إلا أن المصلحة تقتضي هذا الأمر، وينسى هؤلاء أن المصلحة وصف شرعي لا بد من تنزيله على مناطه الشرعي فعلاً، وليست لباساً يُلبسه من شاء على ما راق له من عمل.
وأحياناً قد يوصف الواجب الشرعي كإنكار المنكر بأنه يترتب عليه مفاسد، وينسى هؤلاء أن المفاسد المعتبرة هي ما اعتبرها الشرع. إن الأصل الشرعي المستقر: أنه يجب إنكار المنكر، إلا إذا ترتب على إنكاره مفسدة؛ فالقاعدة والأصل: وجوب الإنكار، وترتب المفسدة استثناء، فتحول الاستثناء عند بعض هؤلاء إلى قاعدة.
2- الفتنة: والفتنة جاءت نصوص الشرع بذمها وعيب أهلها والداعين إليها والساعين لإثارتها، لكن قد ينطلق اليوم بعض الذين يسعون لتشويه سير الدعاة إلى الله (عز وجل) والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من هذا المعنى المستقر وهذا الرفض لدى جمهور المسلمين للفتن؛ ينطلقون من ذلك ليحَوِّلوا جهد هؤلاء وإبلائهم إلى جرم وضلال، وفي ظل هذا الزخم الهائل من التهم بإثارة الفتنة للدعاة إلى الله (عز وجل) نسي كثير من المسلمين أو جهلوا المعاني الشرعية للفتنة.
فالصد عن سبيل الله، والكفر به، والمسجد الحرام: جرم عظيم، لا يوازيه القتال في الشهر الحرام؛ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ) [البقرة: 217].
وإيذاء المؤمنين لصدهم عن دينهم فتنة؛ (إنَّ الَذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ) [البروج: 10].
والكفر والشرك بالله فتنة تستوجب الجهاد والقتال وإراقة الدماء لإزالتها؛ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة: 193].
3- البدعة: وهي مصطلح أطلق في الشرع على كل ما أحدث في دين الله، واقترن هذا المصطلح بالذم في نصوص الكتاب والسنة، بل كان لا يدع التحذير منه في خطبة أو مناسبة (... وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، والخطأ هنا يقع في تنزيل هذا الوصف الشرعي على عمل معين أو شخص معين، فبعض أهل البدع يقصر هذا الوصف على نوع واحد من البدع، وهي البدع الحقيقية، ويخرج البدع الإضافية من وصف البدعة. وبعض آخر يغلو فيحكم بالابتداع على من لا يستحقه، ويصف بذلك كل من أخطأ في مسألة ولو كانت من المسائل الخفية، بل وربما كانت من مسائل الاجتهاد.
رابعاً: الانطلاق من ردود الفعل:
تترك الأحداث آثارها وتهز النفوس هزًّا قد يفقدها بعض التوازن، فتتجه إلى طرف آخر، ومن هنا: تساهم ردود الفعل في صرف بعض الناس عن موقف الاعتدال:
أ- فقد تكون ردة الفعل تجاه موقف أخطأ فيه شخص فعالجه آخر بتطرف مقابل، ولعل إهمال شأن الحكم بغير ما أنزل الله وتهميش قضية الحاكمية ردة فعل تجاه طائفة اختزلت مشكلات المسلمين كلها في هذه المشكلة.
ب- وقد تكون ردة الفعل مدرسة في مقابل مدرسة أخرى، فمدرسة أهل الظاهر ما هي إلا ردة فعل لمدرسة أهل الرأي التي تطرفت في الأخذ بالقياس وإهمال النص.
ج- وقد تكون من الإنسان نفسه تجاه خطأ اكتشفه في نفسه، أو تقصير في جانب من الجوانب، فيتحول إلى الطرف المقابل، ويعالج الأمر بالتطرف بعيداً عن الاعتدال والموضوعية.
د- وقد تكون تجاه حدث أو أزمة مرت بالأمة وتركت آثارها وخلّفت ظلالها الثقيلة على النفوس، (إن الناموس العام لردود الأفعال هو عدم الاتزان وعدم الموضوعية، وإن الكسالى والعاجزين والفوضويين سيظلون باستمرار على هامش الفعل، وفي بؤرة ردود الأفعال تتقاذفهم الأمواج العاتية) [5].
خامساً: اعتبار النتائج القريبة مقياساً لفشل ونجاح المنهج:
لا شك أن كل عامل يتطلع إلى نجاح عمله، وإلى تحقيق أهدافه ومقاصده، والدعاة إلى الله (عز وجل) شأنهم شأن سائر العاملين يسعون لتحقيق أهدافهم، من: نشر الخير في المجتمعات، وكف الفساد والشر عنها، وقد يفشل بعض الدعاة في تحقيق الأهداف التي يتطلعون إليها.
والفشل تحكمه عوامل عدة، منها: خطأ المنهج، لكن قد يكون ناشئاً عن تقصير في الأخذ بالأسباب، أو الذنوب والتقصير في الطاعة، أو عدم تمام صفاء النية، فقد يكون لدى المسلم شيء من ذلك، لكنه في الجملة سليم المنهج، فلا يسوغ أن نرفض طريقته ونحكم بفشلها؛ فالفشل هنا له هو لا للمنهج، لقد هزم المسلمون في غزوة أحد، وفروا يوم حنين، وأخبر القرآن أن ذلك بما كسبته أيدي المسلمين، فهل يجرؤ مسلم على اتهام أصحاب النبي بالخلل في منهجهم إذ ذاك؟ إذن: يجب التفريق بين التقصير وإتيان بعض الذنوب التي يتم علاجها بتصفية النفوس وتزكيتها و الخلل في المنهج، الذي يعني المراجعة له.
وقد يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً لرفعة درجة أولياء الله؛ فقد أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران: 21] و أثنى على أصحاب الأخدود الذين حرّقوا جميعاً في النار في مجزرة جماعية، لم يكن الغلام إذ ذاك هو المسؤول عنها، ولم تكن تلك الدماء ثمناً لتهوره.
وحين جاء النبي بدعوته وجهر بها أوذي نفر من المسلمين، بل منهم من قتل، وأُخرجوا من ديارهم، أكانت دعوته هي المسؤولة عن هذا الذي أصابهم؟! أم أن ذلك كان يعني خللاً في المنهج؟! (معاذ الله).
إننا كثيراً ما نسمع الطعن في بعض المناهج الدعوية بحجة أنها فشلت في تحقيق أهدافهما، والفشل جزء منه قد يعود للمنهج، لكنه ليس بالضرورة ملازماً له. أما إذا اعتبرنا النتائج بمقياس آخر غير قياس اللحظة الحاضرة، فسنرى أن الكثير من الجهود الدعوية التي يصمها بعضهم بالفشل قد حققت النجاح، ولو لم يكن في ذلك إلا القيام بالواجب الشرعي.
سادساً: الخلط في تحرير منهج السلف:
لقد كان من منجزات الدعوة السلفية المعاصرة أن اتفق الرأي العام الإسلامي على قبول منهج السلف في الجملة، وصار من دلائل ذلك: أن أحداً لا يمكن أن يجرؤ على التصريح بأنه يرفض منهج السلف، وصار الوصف بالخروج عن منهج السلف تهمة لدى الجميع، يسعى إلى نفيها ولو كان متصفاً بها في الحقيقة.
وهي قضية إيجابية مهمة، لكن كثر الحديث الآن عن منهج السلف ووصف عمل من الأعمال بأنه على منهج السلف ووصف آخر بأنه على خلاف منهج السلف، ولا شك أن السعي لتوضيح منهج السلف، والسير عليه، ودعوة الناس إليه: قضية لا مجال للمناقشة فيها، بل النقاش فيها أمارة على الانحراف والزلل.
ولكن: هل كل ما ادعي أنه منهج السلف هو منهج السلف فعلاً؟ وهل يحق لكل مدعٍ أن يتهم فلاناً من الناس بأنه على خلاف منهج السلف؟
إن هناك أخطاءً ترتكب في تحديد منهج السلف، ومنها على سبيل المثال:
1- إهمال اعتبار تغير الزمان والمكان:
هناك أمور مستقرة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهناك أمور تختلف باختلافهما، فقد يقول أحد السلف قولاً ينطبق على عصره ووقته، لكنه لو عاش إلى عصرنا لربما تغير اجتهاده.
إن اعتبار العصر وظروفه لا يعني بحال نسف آراء السلف وأقوالهم، لكن البعد الزماني المطلق ليس إلا لنصوص الوحي، بل حتى أقوالهم المرتبطة بزمن معين أو مكان معين يجب أن نستفيد منها ونُعنى بها، مراعين اختلاف الزمان والمكان.
2- تعميم اجتهادات آحاد السلف:
قد يقرر أحد رأياً في مسألة من المسائل، ويثني على تقريره بسرد بعض أقوال من قال بذلك من السلف؛ لينطلق من ذلك إلى أن هذا هو منهج السلف، وقد يجاريه القارئ في هذه النتيجة لعدم استحضاره لسائر الأقوال والنصوص، ويغيب عن القارئ أن الكاتب قد تعمد اختيار الأقوال التي توافق ما يذهب إليه، وتجاوَزَ ما تعارضه، والأمانة العلمية تقتضي بلا شك نقل جميع النصوص، أو بالأصح عدم الاقتصار على جانب واحد منها.
فلا بد من التفريق بين منهج السلف وآراء آحاد السلف.
3- دعوى اعتبار روح ما عليه السلف:
وهو منهج يسلكه أولئك المتميعون الذين يسيرون وفق ما يحلو لهم، وحين يناقَشون في ذلك ويطالَبون بسلوك منهج السلف: يحتجون بأن المقصود: اتباع روح ما عليه السلف، فالأقوال والآراء المبتدعة، والمناهج المنحرفة، والتسيب الفقهي والعلمي عند هؤلاء: لا يمكن أن يترتب عليه مجاوزة منهج السلف، ما دمنا متمسكين بروح ما عليه السلف !.
إذن: فقضية اتباع منهج السلف قضية يجب أن تصبح من البدهيات لدى العاملين للإسلام، لكن الحكم بأن هذا منهج السلف، وأن ذاك خلاف منهج السلف يجب أن يصدر بموضوعية وعلم، وألا تطلق الأحكام جزافاً.
سابعاً: النظر إلى جانب واحد من النصوص:
إن من العدل في التعامل مع النصوص الشرعية أن ينظر الباحث فيها إليها جملة، وأن يجمع النصوص الواردة في الباب الواحد، وحين ينظر إلى جانب واحد منها فقط فسيخرج بنتيجة غير شرعية.
ففي مقابل النصوص التي تتوعد أهل الكبائر بالعقوبة والنكال: هناك نصوص تفتح أمامهم باب الرجاء، وفي مقابل النصوص التي تأمر بطاعة الولاة والصبر على جورهم: هناك نصوص تأمر بقول كلمة الحق والصدع بها في وجوههم، ولو أسخطتهم.
ثامناً: اعتبار المسائل الاجتهادية من المنهج:
هناك مسائل مما يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف، ولا ينبغي أن تكون مجالاً وميداناً للإنكار والتهارج، فضلاً عن التأثيم والتضليل، لكنك تجد بعض الدعاة حين يتبنى اجتهاداً في مسألة ينطلق من هذا الاجتهاد ليلزم الأمة به، ويقرر أن هذا مما لا يسوغ خلافه، وأن المخالفة فيه دليل على انحراف في المنهج.
ألسنا نرى أن بعضهم يتبنى اجتهاداً في مسألة من مسائل الوسائل الدعوية التي اختلف فيها أهـل العلم في هذا العصر فيتبنى رأياً من هذه الآراء، ويحشد أقوال مؤيديه، ويطوي صفحاً عن الآراء الأخرى في المسألة، وهو يعلم أنها تخالف رأيه، وهي لعلماء يحترمهم، فيصور للقارئ أن هذه المسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم: فأولئك الذين يخالفونه في اجتهاده منحرفون في منهجهم، بعيدون عما عليه السلف، فاقدون للورع والديانة... ! !
قال شيخ الإسلام (رحمه الله): (وأيضاً: فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع: أن من الخطأ في الدين: ما لا يكفّر مخالفه، بل ولا يفسّق، بل ولا يأثّم، مثل الخطأ في الفروع العملية) [6].
تاسعاً: الخلط بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط:
هناك فرق في المسائل الخلافية قد لا يتفطن له بعض المختلفين، والغالب في الخلاف الدائر اليوم بين أهل السنة هو من هذا الباب، ألا وهو: الخلاف في الأصل أو في تحقيق المناط.
فقد يتفق الجميع على أنه لا يكفر مسلم بكبيرة من الكبائر، ولا يكفر إلا بما سماه الشرع كفراً، فيجتهد أحدهم ويحكم بالكفر على معين لما ظهر له من خلال عمل موجب للكفر عند أهل السنة، فإن ذلك لا يجوز للآخر اتهامه بأنه يرى رأي الخوارج وينتحله.
بل هذا هو الشأن في الخلاف بين الأمة في سائر مسائل الفروع، فهم يتفقون على اتباع الدليل وسنة النبي في كل مسألة، صغرت أم كبرت، لكن الخلاف قد ينشأ بينهم في تحديد ما هو مقتضى الدليل وسنة النبي، فلا يسوغ لمن أوصله اجتهاده أن هذا الأمر سنة أن يصم من خالفه بأنه غير حريص على تطبيق السنة، إذ المدار هنا: هل هذا الأمر سنة أم لا؟
________________________
(1) معجم مقاييس اللغة، ج5 ص361.
(2) لسان العرب، م6 ص4554.
(3) رواه أحمد، ج4 ص27.
(4) الفتاوى، ج19 ص69 70.
(5) فصول في التفكير الموضوعي، لعبد الكريم بكار، ص270.
(6) الفتاوى، ج12 ص494.
مجلة البيان
علي الكيلاني
عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف
فهد العجلان
أحمد بن فارس السلوم
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة