..

ملفات

الكُتَّــاب

أرسل مشاركة


الى الثورة

لستم أحراراً في أموالكم يا أيها الأغنياء

مجاهد مأمون ديرانية

١١ ديسمبر ٢٠١٤ م

تصدير المادة

pdf word print

المشاهدات : 3481

لستم أحراراً في أموالكم يا أيها الأغنياء
مأمون ديرانية 000.jpg

شـــــارك المادة

حدّثني مضيفي قال: أقامت العائلة الفلانية (عائلة سورية في المهجر) عرساً لابنها كلف نحواً من مئة ألف دولار.

قلت: هذا حرام.

قال: تقصد أنه غير لائق.

قلت: بل أقصد أنه غير جائز، حرام.

قال: هذه فتوى.

قلت: نعم، وأنا مسؤول عنها أمام الله.

قال: لكن هذه العائلة معروفة بالعطاء ودعم الثورة، وقد قدمت مئات الآلاف.

قلت: وإن يكن؛ العطاء خيرٌ تُؤجَر عليه وإتلافُ المال شَرٌّ يسألها عنه الله.

قال: ما دليلك؟

فبيّنت وأفضت بما ألهمني الله أن أقول.

قال: انشر ذلك على الناس، فهذا أوانُه.

قلت: أفعل إن شاء الله.

وهذا هو الموضوع.

-1-

لم يَحْيَ إنسانٌ قَطّ بلا دم، ولا يدوم جهاد ولا تعيش ثورة بلا مال، لأن المال هو الدم الذي يدور في شرايين الثورة والجهاد فيحفظ لهما الحياة. الجهاد يحتاج إلى سلاح، والسلاح لا يُشترى إلا بالمال، والثورة لن تنجح في البقاء إلا إذا سَلِمت حاضنتها الشعبية، والحاضنة تحتاج إلى المأوى والغذاء والدواء والكساء، وكل ذلك لا يتوفر إلا بالمال.

إن أعداء الثورة كثيرون، ولكنها يمكن أن تعيش وتمضي إلى غايتها -بأمر الله- إذا توفر المال، الكثير من المال.

لقد كانت الحاجة إلى المال قبل ثلاث سنوات أقلَّ من الحاجة إليه قبل سنتين، وكانت قبل سنتين أقل منها قبل سنة، وكانت قبل سنة أقل منها اليوم، ورغم ذلك فإنّ ما أتانا منه قبل ثلاث سنوات أكثرُ مما أتانا قبل سنتين، وما أتانا قبل سنتين أكثر مما أتى قبل سنة، وما أتى قبل سنة أكثر من الذي يصل اليوم.

هذا هو جوهر المأساة:

المحنة تتصاعد والحاجة تتعاظم والموارد في انحدار، ولا حل لهذه المعضلة إلا بأن يفتح السوريون -قبل غيرهم- خزائنَهم وجيوبهم بلا حساب. إننا لا نعتب على إخواننا المسلمين الذين ملّوا من كثرة العطاء أو شغلتهم مِحَن المسلمين في غير سوريا من البلدان، إنما نعتب على أهلنا الذين تجمعنا بهم العقيدة والأرض والمحنة وآلام الماضي وهموم الحاضر وآمال المستقبل.

لقد حل بسوريا الدمارُ وأكلت ثلثَيها النارُ وأصاب البلاء من سكانها ملايين، وما تزال طائفة من أهلها تحيا حياة التّرَف والسّرَف وتنفق المال في الترّهات بغير حساب.

أيجوز هذا في خُلُق الإنسانية أو يجوز في دين الله؟

-2-

يقولون: هي أموالنا نتصرف فيها كما نشاء. لا يا سادة، ما هي بأموالكم، إنما هذا مال الله أودعه وديعةً بين أيديكم واستأمنكم عليه ليبتليكم به ولينظر كيف تتصرفون فيه، وهو سائلكم عن تصرّفكم فيه يوم العرض عليه.

إنكم تقرؤون هذه الآية في كتاب الله فلا تكادون تقفون عندها: {آمِنوا بالله ورسوله وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلَفين فيه}.

هل انتبهتم إلى كلمة "مستخلَفين"؟

قال الإمام الطبري: "أي أنفقوا ممّا خولكم الله من المال الذي أورثكم عمّن كان قبلكم فجعلكم مستخلَفين فيه".

وقال القرطبي: "هذا دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يُرضي الله.

وقال الحسن: مستخلفين فيه: بوراثتكم إياه عمّن كان قبلكم". ثم عقّب القرطبي فقال: "وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة النوّاب والوكلاء".

هذه هي النقطة الأولى، وهي قاعدة القواعد في الموضوع كله: المال مال الله، وإنما أصحابه في الدنيا هم الأمناء عليه، فكأنهم الصرّافون فيه لا أكثر. وهل رأيتم صرافاً يتصرف في المال الذي وُضع بين يديه أمانةً تصرّفَ المالك في ملكه بغير حَسيب ولا حساب؟

-3-

ولأنه مال الله فإن الأمين عليه ليس مخوَّلاً ببعثرته وتضييعه فيما لا يفيد، بل له أن يصرف منه على نفسه بالحدود المعقولة، وما فاض فينبغي أن يوجَّه لعمارة الدنيا ونفع الخلق، وهذا لا يكون إلا بالتشغيل الصالح للمال.

فإذا كنَزَه صاحبه فإنه يَحرم المجتمع من خيره، لذلك فرض الله فيه الزكاة لتأكله أكلاً متدرجاً، فيُضطر صاحبُه إلى تشغيله واستثماره لكي يعوّض ما تأكله منه الزكاة.

ومعلومٌ أن دوران المال بين أيدي الناس أساسُ عمارة الدنيا، فإذا كَنَزه بعض أفراد الجماعة حُرم من خيره الباقون.

وإذا بعثرَ صاحبُ المال المالَ بلا حساب وأسرف فيه أضرّ بنفسه وأضر بالجماعة، لذلك وضع الشرع حدوداً للإنفاق واعتبر ما عداها إسرافاً ممقوتاً وتبذيراً يحاسَب المرء عليه، قال ابن حجر في الفتح: "إن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيره تفويت تلك المصالح, إما في حق مضيِّعها وإما في حق غيره".

ولا تنسوا أن أكثر الإسراف يكون في الكماليات التي يذهب ثَمنُها إلى غيرنا، أقلُّه إلى أيدي المسلمين وأكثرُه إلى أيدي غير المسلمين، وفيهم العدو الذي يحتاج إلى المال ليبغي علينا، فنزيده من مالنا قوةً إلى قوته ونضيف ببعثرة مالنا إلى ضعفنا ضعفاً، ونزداد في عالَم اليوم هواناً على هوان.

-4-

لو قلت لولدك: لا تفعل كذا، ثم فعله، ألا يكون عاصياً؟ بلى، فكيف والناهي عن العمل هو الرب العليم الخبير، ينهى عباده عن الإسراف فيقول: {ولا تسرفوا}؟ إنه نَهيٌ صريح بكلام عربي فصيح لا لبسَ فيه ولا غموض. ثم يقول ربنا تبارك وتعالى إنه لن يحبّ مَن يخالف هذا النهي فيقع فيما نُهي عنه: {إنّه لا يحب المسرفين}.

قال في "المنار": "وفي هذه الآية أن الله لا يحب المسرفين، وأنه يعاقبهم على الإسراف بقدر ما ينشأ عنه من المفاسد والمضار".

أليست هذه الآية دليلاً على حرمة الإسراف يا مَن طلبت الدليل؟ لا أقول إنه حرام كالربا والسرقة والغصب والاحتكار، فإن تلك "جرائم اقتصادية" من الوزن الثقيل، ولكن الإسراف أيضاً جريمة اقتصادية، وهو أيضاً مخالفة شرعية، وما من مخالفة إلا وعليها عقوبة. إن العقوبة في الآخرة تشمل كل إسراف، وهي عقوبة صغيرة على ما قَلّ منه وكبيرة على ما زاد. ولكنْ ما صغيرةٌ وما كبيرةٌ في ميزان الآخرة؟ إن المرء لَيَودّ أن يفتدي الذرّة من عقاب الآخرة بالدنيا وما فيها لو كان يستطيع الفداء.

لقد وصف الله عباده الذين يحبهم بقوله: {والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفوا ولم يَقْتروا وكان بين ذلك قواماً}.

وفي حديث ابن عباس: "كُلْ ما شئت واشرب ما شئت والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان: سَرَف أو مَخِيلة (وصحّحه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح. والمخيلة بفتح الميم، على وزن مَدينة، وهي الخيلاء والكبر والإعجاب بالنفس). وأيُّ شيء يكون إنفاقُ مئة ألف في عرس إذا لم يكن سرفاً ومَخيلة؟

-5-

إن الترفَ سلوكٌ مدمّر للجماعة كلها ولا يقتصر أثره على حساب المترَفين في الآخرة، لذلك نقول إنّ الأخذَ على أيدي المترَفين وحصارَ السلوك التّرَفي المدمر ليس أمراً اختيارياً، بل هو أقرب إلى الفريضة الواجبة على عامة المسلمين وعلمائهم حتى لا يلحق الدمارُ بالجماعة كلها: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها، فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً}.

وهو خطر يزداد عندما يصبحُ المترفون هم قادةَ الجماعة وأمراءها فيقودونها إلى الهلاك، كما في القراءة الأخرى الصحيحة في كلمة "أمرنا": {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَّرْنا مترفيها ففسقوا فيها، فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً}.

إن أكثر الناس ما يزالون يظنون أن الإسراف مسألة شخصية، ولو علموا أنها قضية أمة لتغير رأيهم، فكيف لو علموا أنها من أكبر قضايا الأمة؟ إن أكثر مصائبنا التي نعاني منها منذ قرون سببها الأصلي اقتصادي، فالاستهلاك والإسراف تسبّبا في الديون، والديون جاءت بالأجانب ومنحتهم القوةَ والنفوذ، وهذا النفوذ انقلب إلى قوة وجيوش واستعمار، وأولئك الأجانب الذين أمدّونا بالمال أول مرة عادوا فأخذوه لما احتلوا البلاد ونهبوا ثرواتها.

هذا العرض المبسَّط يحكي الحكاية كلها، وهو تبسيط قد يبدو مُخِلاً لكنه صحيح تماماً، واقرؤوا تاريخ الدولة العثمانية في عصرها الثاني وتاريخ مصر من أيام محمد علي، ثم اقرؤوا أخبار واقعنا الحاضر في أكثر البلدان الإسلامية التي صارت رهائنَ لصندوق النقد الدولي ومؤسسات الإقراض الربوية العالمية الاستعمارية...

اقرؤوا ذلك كله تَرَوا البرهان على ما أقول: لقد بدأ الأمر كله بإضاعة الأموال وانتهى بإضاعة الأوطان!

لا، ما هي مسألةُ أفراد يملكون المال ولهم الحرية الشخصية في إنفاقه؛ إنها مسألة أمة، وقد صارت في سوريا اليومَ (أو كادت) فَيصلاً بين الانتصار والانكسار، فهل يحلّ لنا -بعدُ- أن نسكت عن المسرفين؟

تعليقات الزوار

لم يتم العثور على نتائج

أضف تعليقًا

جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع