مجاهد مأمون ديرانية
تصدير المادة
المشاهدات : 6165
شـــــارك المادة
انتهينا في المقالتين السابقتين إلى أن المشروع الحقيقي لداعش لم يكن في أي يوم من الأيام مساعدة السوريين وقتال النظام الطائفي، ورأينا كيف نجحت داعش فعلاً في احتلال مساحات واسعة من الأرض السورية في زمن قصير، فهل تملك القوةَ العسكرية الهائلة التي تبرّر ما حصلت عليه من مكاسب وما حققته من إنجازات؟
الجواب: لا، فإنها فصيل متوسط الحجم، أقل حجماً وقوة من أي واحدة من الجماعات الكبرى، كحركة أحرار الشام وألوية صقور الشام وجيش الإسلام. إذن كيف استطاعت إعادة احتلال نصف الأراضي المحررة؟ لقد نجحت داعش في إنجاز تلك المهمة القذرة باستعمال أساليب قذرة، أساليب تنطوي على المكر والخديعة والظلم والبغي والغَصْب والسرقة والكذب والغدر والخيانة.
سوف يستغرب أنصار داعش وصفي إياها بهذه الصفات ويقولون: لا يمكن لأي جماعة جهادية أن تستعمل مثلَ تلك الأساليب. أقول: صحيح، ولكن مَن قال إن داعش جماعة جهادية؟ هل تصبح الجماعةُ جهاديةً بالمزاعم والأقوال أم بالأفعال والأعمال؟ دونكم ما فعلته داعش بنا ثم احكموا لها أو عليها يا أيها المُنْصفون.
-1-
لنتحدث عن الغدر أولاً. لو استقصينا الأمثلةَ على غدر داعش فسوف تتحول هذه المقالة إلى كتاب، ومن ثَمّ فإنني أكتفي بالإشارة إلى نوعَي الغدر الداعشي: الفردي والجماعي. الأول يتمثل في منح الأمان للرسل ولعامة المجاهدين ثم الغدر بهم واعتقالهم وتعذيب وقتل كثير منهم، وقد ذاعت أخبار ضحايا غدرهم حتى صار يعرفها القاصي والداني من السوريين ومن غير السوريين.
الثاني يتمثل في غدر داعش بالكتائب التي تقاتلها ونقض العهود التي تعقدها معها. من الأمثلة المشهورة على ذلك غدر داعش بالأحرار في مسكنة، فعندما فشل هجومها الأول على البلدة طلبت هدنة لم يتردد الأحرار في الاستجابة لها، ثم اتضح أنها لم تطلب الهدنة إلا للغدر بهم، فقد استغلتها لاستقدام تعزيزات ضخمة، وعندما وصلت تلك التعزيزات قصفت مقرات الأحرار بالمدفعية ثم حاصرتها وسيطرت عليها، وبذلك سقطت مسكنة في يد داعش الغادرة.
بل إن الحرب التي يخوضها المجاهدون اليوم مع داعش لم تُطلق شرارتَها إلاّ حادثةُ غدر مشابهة، فعندما قررت داعش الهجوم على الأتارب في آخر كانون الأول الماضي أرسلت إليها رتلاً عسكرياً من حريتان، وحين مرّ الرتل بالمنطقة التي تسيطر عليها كتائب نور الدين زنكي حاول الزنكيون وقفَه ومنعه من التقدم، فوقع اشتباك نتج عنه قتل عدد من الدواعش وأسر أكثر من عشرين، فاستسلم الرتل المهاجم ووافق على وقف القتال، وبالمقابل أطلقت كتائب نور الدين زنكي الأسرى وسلمت جثث القتلى لحامية داعش في خان طومان. ثم اتضح أن مقاتلي داعش كانوا يخادعون بانتظار وصول مؤازرة من الدانا، وما إن وصلت المؤازرة حتى نقضوا العهد وأطبقوا على مجاهدي نور الدين زنكي فأوقعوا فيهم عشرات القتلى والجرحى والأسرى، ثم هاجموا أورِم الكبرى فأوقعوا مقتلة في لواء الأنصار وهاجموا قرية بسرطون وأبادوا الزنكيين الذين وجدوهم فيها، وكانت تلك الغَدْرة هي شرارة الحرب.
-2-
تمارس داعش الكذب والتَّقيّة كما يصنع الرافضة تماماً، حتى ليخلط المرء أحياناً بين الفريقين ولا يكاد يميز أحدَهما من الآخر إلا بلون العلَم، فالأصفر لفريق والأسود لفريق.
والعجيب أن داعش تمارس هذا الأسلوب الدنيء على خصومها وعلى جنودها على حد سواء، فما أكثرَ ما قادت مقاتليها إلى الهجوم على قرى المسلمين المحرَّرة وهي توهمهم بأنهم يهاجمون قرى نصيرية أو رافضية، وقد انتهت بعض تلك "الغزوات" بضحايا من الأبرياء، وفي حالات أخرى نجا الناس عندما استعملوا مكبرات الجوامع لإذاعة الأذان وإشعار المهاجمين المخدوعين بأنهم يهاجمون مسلمين مثلهم، وليس كفاراً أو أعداء كما أوهمهم قادتهم المخادعون الكاذبون.
لقد كذبت داعش ثم كذبت ثم كذبت حتى كُتبت عند الله وعند الناس من أكبر الكذّابين. كذبت فمنحت الأمانَ لرسل ومستأسرين ثم قتلتهم غيلة وغدراً بدم بارد. وكذبت فادّعت أنها من جبهة النصرة ورفعت علم النصرة لتمر عبر حواجز لواء التوحيد وكتائب الجيش الحر مرات ومرات، كان آخرها في حادثة تفجير مدرسة المشاة في الأسبوع الماضي. وكذبت فزعمت أنها تفاوض لحقن الدم فيما هي تبيّت الغدر وهدر الدم، كما صنعت في التفجير الجبان الغادر في قيادة عمليات الراعي قبل أيام.
وكذبت حين وضعت يدها على غنائم مطار منّغ وزعمت أنها ستوزعها على الكتائب المشاركة ثم لم تفعل. وكذبت في دعوى المشاركة في العمليات العسكرية ضد النظام حتى وَهِمَ أنصارها فظنوها الفريقَ المجلّي في كل ميدان، وما لها في سوريا مشاركة تُذكَر إلا في آحاد عمليات، ولو سألتَهم بعد كل الصخب الذي تسمعه فإنهم يقولون: "منّغ والساحل ومستودعات الحمرا في حماة". وفي كل واحدة منها مقال لو شئنا لأوضحناه مطوَّلاً، وحتى لو سلّمنا بها جميعاً بلا مقال فأين هذه الثلاث من آلاف العمليات التي خاضتها مئاتُ الكتائب في ثلاث سنين وحررت على إثرها ثلثَي أرض سوريا؟
ولعل الكذبة الكبرى التي كذبتها داعش وصدّقها كثير من السذّج أنها جماعة مجاهدة جاءت إلى سوريا لقتال النظام، ولو لم تكذب داعش إلاّ هذه لكفى بها دليلاً على أنها من أكبر الكذّابين!
-3-
من أسوأ الأساليب القذرة التي استعملتها داعش للتمدد عبر المناطق المحررة وإعادة احتلالها أسلوب المكر والخديعة. إن المدن التي احتلتها داعش بالغزو العسكري المباشر قليلة جداً، كإعزاز والباب ومنبج ومسكنة وحزّانو وقليل غيرها، أما الجزء الأكبر من المناطق التي احتلتها فقد اعتمد احتلالُها على المكر والخداع. فكيف كان ذلك؟
بعد مضي نحو أربعة أشهر على إعلان تأسيس التنظيم الجديد (الدولة الإسلامية في العراق والشام) بدأ سكان المناطق المحررة يشاهدون مقرّات تحمل اسمَه ورايته، فلم يُلقوا لها بالاً، ثم بدؤوا يلاحظون الحواجز الجديدة التي أقامتها داعش داخل المدن والقرى وفي مداخلها وعلى الطرق الموصلة بينها، فسكتوا عنها لمّا قيل لهم إنها لحفظ الأمن، ثم تطورت تلك الحواجز إلى نقاط عسكرية تمكنت داعش بواسطتها من حصار المدن والقرى واحتلالها وطرد الكتائب المحلية منها.
ثم بدأ التنظيم بإظهار قوّته وممارسة سلوك استبدادي تحت غطاء ديني، وكان أوائل ضحاياه من الإعلاميين وناشطي الحراك المدني، فاعتقل أعضاء المجالس المحلية في تل أبيض ومنبج والباب واستولى على المحكمة الشرعية في تل رفعت وطارد واعتقل إعلاميي الثورة في الرقة وسراقب وحاس وكفرنبل والدانا وحزّانو. ثم انتشرت تلك الممارسات حتى صارت ظاهرة مصاحبة لداعش في كل مكان تتمدد فيه وتسيطر عليه، وصار كل من يعمل في المؤسسات الإعلامية والإغاثية والطبية والدعوية والحقوقية في خطر داهم، فقد اعتقلت داعش منهم مئات واضطر مئات آخرون إلى الهرب إلى تركيا خوفاً من الموت والاعتقال والتعذيب في سجون داعش الذي لم يقلّ سوءاً عن التعذيب في سجون النظام.
-4-
عندما تعجز داعش عن احتلال مدينة من المدن بالمكر والخديعة فإنها تلجأ إلى أسلوب آخر: البغي والفجور في الخصومة واختلاق الذرائع الكاذبة لتبرير غزو المناطق المحررة. فإذا كانت خصومتها مع فرد من كتيبة فإنها تستهدف الكتيبةَ كلها وتحاربها حتى تستأصلها من جذورها وتعتقل أو تقتل قادتها وتشتّت مقاتليها وتستولي على أسلحتها وأموالها ومقراتها، وإذا أخطأ بحقّها فردٌ من سكان إحدى المدن فإنها تعاقب المدينةَ كلها فتجتاحها وتحتلها وتقضي على ما فيها من إدارات مدنية وهيئات شرعية، وهي -بهذا البغي والظلم- لا تقل فجوراً وإجراماً عن النظام الأسدي نفسه، والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى.
في منتصف أيلول الماضي أطلقت داعش حملة عسكرية ضد كتائب الجيش الحر في ريف حلب الشرقي تحت عنوان "نفي الخبث"، وقالت إنها "تستهدف عملاء النظام الذين قاموا بالاعتداء السافر على الدولة الإسلامية في العراق والشام، وفي مقدمتهم كتيبتا الفاروق والنصر". وكانت الذريعة السخيفة حسبما جاء في البيان الداعشي: "محاولة أتباع النظام السوري اقتحام مقر الدولة في مدينة الباب عبر مظاهرة مسلحة خرجت أمام المقر، ثم قيامهم بالاعتداء على جنودنا من أنصار ومهاجرين بالسبّ والشتم والضرب وإطلاق النار ورمي القنابل وتحطيم المركبات".
من الأمثلة المشهورة أيضاً الهجوم على لواء عاصفة الشمال في إعزاز بذريعة ملاحقة طبيب ألماني اتُّهم بالتجسس وتصوير مقر الدولة في المدينة، ومنها الحادثةُ التي كانت سبباً في اندلاع الاشتباكات الأخيرة، فقد أعلنت داعش الحرب على الأتارب بحجة أن أحد أبناء المدينة "رمى راية الدولة على الأرض"! ورغم أن لواء أمجاد الإسلام (الذي يسيطر على الأتارب) أعلن موافقته على التعاون وتقديم المتهم إلى محكمة شرعية تختار هيئةُ النصرة قضاتها إلا أن داعش أصرت على غزو المدينة وسيّرت إليها الأرتال. أليس هذا هو منطق الجيش الأسدي نفسه؟
-5-
السرقة والسطو على المال العام من الوسائل التي تستعين بها داعش لتعزيز مواردها، فهي تعتبر أن كل مال عام في سوريا حقٌّ لها، وربما مدت يدها أيضاً إلى المال الخاص، ومتى شاءت استلابَه من صاحبه وضعت لنفسها ألفَ تبرير ولم يردعها شرع ولا قانون. اسألوا سكان المناطق المحررة كم من المصانع والمتاجر والمساكن نُهبت بحجة أن أصحابها شبّيحة أو موالون سابقون أو نصارى لا ذمّةَ لهم ولا أمان، وكم من المنشآت الإغاثية والطبية صادرتها داعش أو خرّبتها وأتلفت ما فيها من مواد وتجهيزات لأنّ للهيئات القائمة عليها صلةً بالدول الكافرة أو بالائتلاف السوري المرتد.
وما أدري لِمَ هم مغرمون بتدمير وتعطيل المستشفيات على الخصوص، فما أكثرَ ما خرّبوه منها أو سلبوا أجهزته ومعداته، وما أكثرَ ما احتلّوه وحولوه إلى مقرات. إنهم يتركون الأبنية التي بناها الناس للتجارة والسكن ويستولون على البناء الذي بُني وجُهِّز ليكون مستشفى يعالج الناس ويخفف معاناتهم، فيعطّلونه ويحوّلونه إلى مقر عسكري لهم، أو يهاجمونه بأي ذريعة سخيفة، كالاختلاط بين الرجال والنساء أو الاستعانة بأطباء "جواسيس" من الكفار!
قد لا يصدق القرّاء الكرام لو عرفوا عدد المستشفيات التي خربتها داعش تخريباً متعمداً، وكأنها موكلة بزيادة معاناة الناس ليسارعوا إلى الاستسلام! هل تعملون أن عدد المستشفيات التي هوجمت وخُربت في الأيام العشرة الأخيرة من شهر كانون الماضي فقط (أي قبل بداية الاشتباكات الأخيرة مباشرة) هي ثلاثة مستشفيات: مستشفى اليمضية في جبل الأكراد، وقد توقف عن العمل، ومستشفى الزرزور في حلب، وقد نجّاه الله منهم بفضله تعالى ثم بفضل الكتائب التي سارعت لإنقاذه، ومستشفى مسكنة الذي استغرق إنشاؤه عشرةَ أشهر وكلف عشرةَ ملايين ليرة سورية، فخرّبته داعش في عشرة أيام وسرقت محتوياته وتجهيزاته فلم تُبقِ فيه شيئاً يُستفاد منه.
ناهيكم عن الحقول النفطية وصوامع الغلال التي استولت عليها في الرقة ولا يعرف أحدٌ ما يُفعَل بمواردها على وجه التحقيق، وعن المخابز والمطاحن والمصانع والصيدليات ومستودعات الغاز التي استولت عليها في حلب وغيرها من المناطق، حتى صار الناس يفرّون منها بأموالهم وأملاكهم كما يفرون من جيش الاحتلال الأسدي، وحتى صار السوريون المساكين تحت سيطرتها كمَن خرج من تحت الدَّلْف فانتهى أمره تحت المِزراب!
* * *
وبعد، فلو أننا بسطنا المقال في خيانات داعش وغدرها وكذبها وتَقِيّتها وفجورها في الخصومة ونكثها بالعهود ونقضها للاتفاقيات لملأنا مجلداً كبيراً، حتى ما عدنا نعرف هوية هذه الجماعة ومذهبها ودينها، فإننا إذا نظرنا إلى كذبها وخيانتها قلنا منافقون، وإذا نظرنا إلى تكفيرها قلنا خوارج، وإذا نظرنا إلى تَقِيّتها قلنا روافض، وإذا نظرنا إلى عدوانها قلنا بغاة. ورغم ذلك كله فما يزال فريق من المخدوعين يظن أنها دولة الإسلام لأنها رفعت راية التوحيد وسمّت نفسها دولة الإسلام! ما أسهلَ ما تخدع الشعاراتُ والأسماءُ السذّجَ المغفَّلين!
الزلزال السوري
هيئة الشام الإسلامية
سلطان العميري
إبراهيم عبد الرحمن التركي
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة