إسماعيل ياشا
تصدير المادة
المشاهدات : 4943
شـــــارك المادة
الأزمة التي تفجرت في الأيام الأخيرة بين حكومة أردوغان وجماعة فتح الله كولن دفعت المهتمين بالشأن التركي إلى طرح أسئلة كثيرة حول طبيعة هذه الجماعة وآرائها، في محاولة لفهم حقيقة المشكلة التي أفسدت العلاقات بين حلفاء الأمس وانعكاسها على الساحة السياسية التركية.
الموضوع له ثلاثة أبعاد لابد من التفريق بينها لتتضح الصورة، وهي: 1- آراء الجماعة ومنهجها. 2- مواقفها السياسية. 3- مشروع التغلغل والهيمنة على السلطة.
1ــ آراء الجماعة ومنهجها: جماعة فتح الله كولن هي إحدى الجماعات المنتمية إلى مدرسة الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، ولكنها تختلف عن الجماعات النورسية الأخرى بنفوذها الواسع الذي يعبر حدود تركيا وعلاقاتها مع الجهات الغربية. وكذلك من الصعب تصنيفها ضمن الجماعات الصوفية المعروفة. ولا شك في أن آراء جماعة كولن ومنهجها كجماعة محسوبة على الجماعات الإسلامية بحاجة إلى دراسة معمقة من قبل أهل الاختصاص والباحثين بعيدا عن التطبيل والدعاية للجماعة، إلا أننا يمكن أن نشير هنا إلى أبرز ما تميزت به الجماعة: جماعة كولن منذ بروزها وانتشارها في الساحة التركية، ميزت نفسها عمَا يُسمى "الإسلام السياسي"، ودعمت حزب الوطن الأم بزعامة تورغوت أوزال وحزب اليسار الديمقراطي بزعامة بولنت أجاويد ولم تدعم أحزاب نجم الدين أربكان. وقال فتح الله كولن في تصريح له: "لو كان لي حق الشفاعة في الآخرة لاستخدمتها لأجاويد". وتصنَّف الجماعة في الغرب ضمن "الجماعات الإسلامية المعتدلة"، كما تحرص الجماعة نفسُها على الحفاظ على هذه السمعة. وبفضل هذه الدعاية، انتشرت في أنحاء العالم وفتحت المدارس، في الوقت الذي تحارَب فيه الجماعات الإسلامية الأخرى. وترى جماعة كولن الحركات الإسلامية المسلحة بما فيها المقاومة الفلسطينية "إرهابية" تشوِّه سمعة الإسلام. وقد أشار مؤسس الجماعة وزعيمها فتح الله كولن إلى أن أسامة بن لادن من ضمن أكثر من يكرههم. وتؤيد الجماعة الحوار والتسامح بين الحضارات والأديان. وفي هذا السياق، قام زعيمها فتح الله كولن بزيارة الفاتيكان في 1998 والتقى البابا يوحنا بولس الثاني، وكذلك التقى رئيس رابطة مكافحة التشهير أبراهام فوكسمان اليهودي وشخصيات أخرى من الأديان والمذاهب المختلفة. وكانت السلطات الروسية اتهمت شركات الجماعة ومدارسها بالعمالة لصالح وكالة الاستخبارات الأمريكية، ولكن الجماعة نفت هذه الاتهامات. الجماعة لها اتصال أيضا ببعض المشايخ والدعاة والشخصيات المشهورة في العالم العربي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، المفكر الإسلامي المصري محمد عمارة الذي يكتب في مجلة حراء التابعة للجماعة وكذلك الداعية السعودي المعروف الشيخ سلمان العودة الذي كشف عن مراسلات بينه وبين فتح الله كولن. جماعة كولن بالرغم من أنها محسوبة على المدرسة النورسية، إلا أن الجماعات النورسية الأخرى لا تؤيدها في كل مواقفها وآرائها. وقد انتقد شخصيات نورسية بارزة مثل البروفسور أحمد آكغوندوز موقف جماعة الأخير من حكومة أردوغان. وقال أحد أشهر تلاميذ النورسي الشيخ محمد كيركينجي إنه يحب أردوغان وحكومته ويقدرهما. وتركز الجماعة على التعليم الحداثي في جميع المستويات، ولها مدارس ومعاهد منتشرة في جميع القارات، كما أن لها أنشطة ثقافية تنتقدها الجماعات الإسلامية الأخرى، كتلك التي تسمى "أولمبياد اللغة التركية"، وهي عبارة عن حفلات تقام في تركيا سنويا ويتسابق فيها طلاب مدارس الجماعة وطالباتها من مختلف دول العالم بالأغاني والرقصات التركية. وعندما كانت الجماعات والحركات الإسلامية تحتج على حظر الحجاب في الجامعات في ثمانينات القرن الماضي، قال فتح الله كولن إن لبس الحجاب ليس من أصول الإسلام، بل هي قضية فرعية، وطلب من الطالبات خلع الحجاب لمواصلة دراستهن.
2- مواقفها السياسية: كانت الجماعة تقول "أعوذ بالله من السياسة"، وأما اليوم فالسياسة تقول "أعوذ بالله من الجماعة".. هكذا يُقال هذه الأيام في تركيا، في إشارة إلى تورط الجماعة في السياسة من رأسها إلى أخمص قدميها. وتستغل الجماعة السياسة وعلاقاتها مع الأحزاب والحكومات لصالح مشروعها، وهو التغلغل في أجهزة الدولة ومؤسساتها وكذلك للحفاظ على مصالحها. الجماعة لها مواقف سياسية تتناسب مع آرائها ومنهجها وتخدم مشروعها ومصالحها، وتعبر عنها من خلال وسائل الإعلام التي تملكها. وفي هذا السياق، تؤيد الحكومة في بعض سياساتها وتنتقدها في أخرى. ومن أبرز الانتقادات التي توجهها إلى حكومة أردوغان في الآونة الأخيرة عدم نجاحها في صياغة دستور جديد وكذلك انفتاحها الواسع على العالم العربي و"دخولها مستنقع الشرق الأوسط". وتتهم جماعة كولن حكومة أردوغان بإثارة المشاكل مع تل أبيب، وترى أن إثارة التوتر في العلاقات مع إسرائيل في الوقت الراهن ليس في صالح تركيا ويبعدها عن المعسكر الغربي ويقربها من إيران وروسيا والشرق الأوسط، كما تتهمها بمحاباة إيران والابتعاد عن الواقعية في السياسة الخارجية وتبني أسلوب المغامرة في سوريا ومصر.
3- مشروع التغلغل والهيمنة على السلطة: جماعة كولن لديها مشروع يهدف إلى التغلغل في المؤسسات الحكومية وأجهزة الدولة. وفي شريط مسرب قديم للقاء جمع كولن مع أقطاب جماعته، يحث فتح الله كولن أتباعه على التخفي وعدم الظهور قبل أن يتمكنوا من السيطرة على جميع الأجهزة والمؤسسات الإستراتيجية، وكذلك يطلب منهم "شراء قضاة" لكسب القضايا في المحاكم. الجماعة عملت سنين طويلة بصمت في تخريج القيادات وزرعهم في القضاء والشرطة والاستخبارات وغيرها، وكانت القوى العلمانية تتهم الجماعة بمحاولة السيطرة على الدولة وألف بعض الصحفيون كتبا لكشف خطة الجماعة ولكن الجماعة كانت دائما تنفي هذه الاتهامات. وبلغت هذه عملية التغلغل ذروتها بعد تحالف الجماعة مع حزب العدالة والتنمية، ولكن الحكومة تنبهت أخيرا وحاولت الحدَ من هذا التغلغل. ويرى مراقبون أن أزمة استدعاء رئيس الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، من قبل المدعي العام للإدلاء بصفته مشتبها به في قضية اللقاءات مع قادة حزب العمال الكردستاني كانت وراءها جماعة كولن، وأنها استهدفت فيدان للدور الذي يلعبه في مكافحة مشروع التغلغل، وكذلك لتوجيه رسالة إلى أردوغان ليتراجع عن قرار محاربة مشروع التغلغل. ووفقا لمصادر مقربة من الحكومة، طلبت الجماعة من أردوغان أن تترك لها الحكومة أجهزة الشرطة والاستخبارات وأن توجِّه السياسة الخارجية. وكذلك طلبت من الحزب الحاكم 150 مقعدا في البرلمان، مع أن أصوات الجماعة تتراوح ما بين 2 بالمائة و5 بالمائة فقط. بمعنى آخر، لو أسست الجماعة حزبا سياسيا وخاضت به الانتخابات لما تجاوز حزبها حاجز 10 بالمائة ولم يدخل البرلمان نائبا واحدا. وباختصار شديد، أرادت الجماعة أن تحل محل "الدولة العميقة"، فهل توهمت هي نفسها بأن بإمكانها أن تحل محل "الدولة العميقة" بعد تصفيتها وكسر نفوذها، أم إن هناك من وعدها بذلك؟ لا ندري..
* أين المشكلة؟ المشكلة في الأزمة الأخيرة ليست في منهج الجماعة وآرائها، فهي واحدة من بين الجماعات الأخرى التي تحمل آراء وأيديولوجيات مختلفة. والحكومة لا يعنيها على الإطلاق منهج الجماعة وآراؤها الدينية، وكذلك مواقف الجماعة السياسية، وليس من المطلوب أن تتوافق مواقفها السياسية مع السياسة التي تتبناها الحكومة. ومن حق الجماعة أن تنتقد الحكومة وأن تدعم أي حزب سياسي تريده. ولكن المشكلة هنا في البعد الثالث، أي في مشروع التغلغل والسيطرة على الدولة. الجماعة لا تريد أن تكون لها واجهة سياسية، لأنها إذا أسست حزبا وفاز حزبها في الانتخابات –وهذا احتمال ضئيل- ستتحمل المسؤولية، بخلاف سيطرتها على مفاصل الدولة من دون أن تتحمل مسؤولية ما تقوم به، ذلك أن الحزب الذي يكون في الواجهة هو الذي يتحمل كافة الأعباء. وهكذا تتغير الحكومات وتبقى الجماعة هي التي تدير البلد ومن وراء الستار. وهذا ما لا يمكن قبوله في أي نظام ديمقراطي. الشعب التركي لم يخض معركة ضد وصاية العسكر لتحل محلها وصاية الجماعة. ولفت غير واحد من الكتاب العلمانيين المعارضين إلى هذه النقطة، قائلا إنه يقف إلى جانب الحكومة المنتخبة في الصراع الدائر بين الحكومة والجماعة، مؤكدا أن أكثر حكومة منتخبة فسادا أفضل من وصاية جماعة سرية، لأن الأولى يمكن إسقاطها عبر صناديق الاقتراع وكذلك محاسبتها ومعاقبتها، بخلاف الثانية. الديمقراطية مبنية على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، وترفض تدخل السلطة التنفيذية في شؤون السلطة القضائية ولكنها أيضا ترفض رفضا قاطعا تدخل جماعة في شؤون القضاء وتوجيهها وفق مصالحها. وفي النظام الديمقراطي يعمل المدعي العام والقاضي بالاستقلالية ولكن في إطار القوانين. وفي النظام الديمقراطي أيضا لا يرسل القاضي ملف أي قضية إلى ولاية بنسيلفانيا الأمريكية، حيث يقيم فتح الله كولن ليسأله بماذا يحكم فيها، ولا يشكل المدعي العام والقاضي ورجال الشرطة خلية سرية للتنصت وتصوير غرف النوم والابتزاز والاعتقالات والتعذيب لصالح الجماعة التي تابعة لها. ولعل سبب غضب الجماعة من أردوغان إلى هذه الدرجة شعورها بأنها كانت على وشك الوصول إلى هدفها بعد أن تمكنت من التغلغل في جميع المؤسسات والأجهزة بشكل كبير وأن تدخل أردوغان الذي جاء في اللحظة الأخيرة أفسد خطتها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: "هل سيعطي الجماعةَ من يأتي بعد أردوغان كل ما تريده ويسلم إليها الشرطة والاستخبارات؟" والجواب: "كلا". لأنه خيانة للإرادة الشعبية ولن يرضى به لا القوى الديمقراطية ولا حتى العسكر. وأما ما يثار هذه الأيام حول قضايا الفساد، فهي مجرد غطاء لمحاولة الانقلاب على الحكومة وبمثابة "كاتم الصوت" للسلاح الذي يريدون أن يضربوا به الحكومة في مقتل. وكل ما يقال غير الصراع على السلطة تفاصيل للتستر على لب المشكلة. ولو استجاب أردوغان لمطالب الجماعة وأعطاها ما تريده لكان أفضل زعيم في نظر الجماعة ولسخَّرت جميع وسائل إعلامها للدفاع عن أردوغان وحكومته كما فعلت في أيام التحالف. وفي 30 مارس 2010، اعتقلت قوات الأمن رئيس بلدية سابق من أعضاء حزب العدالة والتنمية و51 من العاملين في البلدية في قضية فساد، ولكن صحيفة زمان التابعة لجماعة كولن لم تذكر آنذاك هذه العملية الكبيرة لا في المانشيت ولا في صفحتها الأولى. بل ذُكرت في إحدى صفحاتها كخبر هامشي دون التعليق عليه. ولو جرت تلك الاعتقالات اليوم لخصصت لها صفحات لمدة أيام ولتحدث عنها جميع كتابها. وكان رئيس تحرير الصحيفة، أكرم دومانلي، قد أشار في مقاله الذي نشرته صحيفة زمان في 29 ديسمبر 2008 بعنوان "إستراتيجية الانتخابات اتضحت فلنفضحها"، إلى أن إستراتيجية المعارضة نشر الأخبار عن ملفات الفساد لإثارة الضجة قبيل الانتخابات. وانتقد دومانلي هذه الإستراتيجية التي وصفها بـ"المغرضة" آنذاك، ولكن صحيفة زمان التي يتولى رئاسة تحريرها تطبق اليوم الإستراتيجية نفسها.
* ما الذي سيحدث بعد الآن؟ يبدو أن الحكومة أدركت حجم المؤامرة وأفشلتها بتدخل سريع، كما إن شعبية الحزب الحاكم لم تتأثر كثيرا رغم الحملة الإعلامية واستقالة بعض النواب الموالين للجماعة والمقربين منها، بل ازداد الالتفاف الشعبي حول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لشعور الشارع بوجود الخطر على النظام الديمقراطي ومستقبل البلد. ولفت الكاتب التركي عبد الرحمن ديليباك، المقرب من الحكومة، في مقاله بصحيفة "يني عقيد"، الاثنين، إلى أن أحد أقطاب الجماعة -الذي لم يذكر اسمه ولكنه وصفه بـ"الرجل الذي كان يستعد لخلافة كولن في الجماعة"- تتبع خيوط الاختراق الخارجي داخل الجماعة ورأى أنها تصل إلى السي آي إيه والموساد، ولما اكتشف حجم اللعبة والاختراق تم إبعاده عن وظيفته في الجماعة، ولكنه جمع جميع الأدلة والوثائق وذهب بها إلى أردوغان. وكتب ديليباك أن الحكومة لديها الآن كمية كبيرة من الأدلة والوثائق حول ما تقوم به الجماعة وتنظيمها السري داخل الجيش والشرطة والاستخبارات وغيرها، ولا تزال المعلومات تصل إلى الحكومة من داخل الجماعة، ويتم حاليا تصنيف تلك الأدلة والوثائق، وأن الحكومة تستعد لرفع قضية ضد الجماعة في شهر يناير القادم على غرار قضية شبكة أرغينيكون، مشيرا إلى أن الجماعة علمت هذا الاستعداد وقامت بالحملة الأخيرة كخطوة استباقية. العصر
محمد فاروق الإمام
سلامة كيلة
باسل الحاج جاسم
محمود عثمان
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة