محتسب الشام
تصدير المادة
المشاهدات : 15680
شـــــارك المادة
مقدمة عن مكانة أهل العلم في الإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإنَّ لأهل العلم مكانة هامة في الإسلام، فهم ورثة الأنبياء، وحملة العلم إلى من بعدهم، وهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، بهم ينتشر العلم، ويزول الجهل، فهم كما وصفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ, يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ, وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ, وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ) أخرجه البيهقي.
وهم الذين أُمرنا بالرجوع إليهم وسؤالهم في المدلهمات والخطوب، كما قال تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقال: {وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83]. فإنَّ في غيرهم الضلالة والانحراف، فعن عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) متفق عليه. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "وَمَا دَامَ الْعِلْمُ بَاقِيًا فِي الْأَرْضِ، فَالنَّاسُ فِي هُدًى، وَبَقَاءُ الْعِلْمِ بَقَاءُ حَمَلَتِهِ، فَإِذَا ذَهَبَ حَمَلَتُهُ وَمَنْ يَقُومُ بِهِ، وَقَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالِ" انتهى. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "هذا الحديث يُبيِّن أنَّ المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أنَّه يموت حملته ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويضلون" انتهى. لذا فقد اهتم أهل السنة والجماعة ببيان من يؤخذ عنه العلم ممن لا يؤخذ عنه، ومن أقوالهم في ذلك: فعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ اللَّخْمِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثَةً: إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَلْتَمِسَ الْعِلْمَ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير. قال ابن المبارك: الأصاغر من أهل البدع. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ، وَعَنْ أُمَنَائِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ, فَإِذَا أَخَذُوهُ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا) أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رحمه الله قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ" رواه مسلم. وعنه قال: "لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ" رواه مسلم. و قال البربهاري رحمه الله :في شرح السنة: " والمحنة في الإسلام بدعة، وأما اليوم فيمتحن بالسنة، لقوله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ولا تقبلوا الحديث إلا ممن تقبلون شهادته فتنظر، إن كان صاحب سنة له معرفة صدوق كتبت عنه وإلا تركته" انتهى. وقال النووي -رحمه الله- : في التبيان في آداب حملة القرآن: "ولا يتعلم إلا ممن تكمَّلت أهليته، وظهرت ديانته وتحقَّقت معرفته، واشتهرت صيانته؛ فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" انتهى. وقال الإمام الشاطبي -رحمه الله- في الإعتصام : "وَالْعَالِمُ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْعُلَمَاءُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ حَتَّى يَشْهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ وَيَعْلَمَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ عَلَى شَكٍّ، فَاخْتِيَارُ الْإِقْدَامِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْإِحْجَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى" انتهى. وعلَّق البخاري في صحيحه أنَّ عُمَر بْن عَبْدِ العَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: "انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ، وَلاَ تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلم-: (وَلْتُفْشُوا العِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا)". وكل ما سبق صريح واضح في أنَّه لا بد من تمام العلم والمعرفة بالشخص لأن يكون أهلاً يؤخذ عنه العلم والفتوى، والدين، بعيدًا عن البدع والضلالات، ولا يعرف ذلك إلا بتزكية أهل العلم له. فمجرد معرفته لأقوال أهل العلم وفتاواهم، أو قراءته في كتبهم، لا يجعل منه عالمًا، ولا مؤهَّلاً لأن يُؤخذ عنه العلم، فضلا عن الفتوى. وكلام أهل العلم في عدم أخذ العلم أو الفتوى عن المجاهيل أو غير المشهود لهم بالعلم أكثر من أن يُحصى. بل إنَّ من أسباب الحكم على الأخبار والأحاديث بالضعف والرد: جهالة أحد رواتها. وهذا وإن كان شاملًا في جميع أمور الدين، فهو في حال الفتوى والقضاء في أمور خطيرة كأحكام الكفر، أو الردة، أو استحلال الدماء والأموال، أو البيعة، ونحوها: أشدُّ خطرًا، وأعظم تحرزًا.
حكم الأخذ عن العالم المبتدع: ومما يتعلق بمسألة من يؤخذ عنه العلم: حكم الأخذ عن العالم المبتدع أو الواقع في البدعة. فإنَّ منهج أهل السنة غاية في العدل والانصاف مع أهل العلم ممن وقع في شيء من البدع والاجتهادات البعيدة عن منهج أهل السنة؛ فمع الإنكار عليهم، وبيان خطأ بدعهم، لم يهدروا أقوالهم أو علمهم بالكلية، بل عرفوا لهم فضلهم، وعلمهم، وأخذوا عنهم ما لم يكن فيه بدعة أو انحراف، واعتذروا لما وقع منهم، على تفصيل معلوم عند أهل السنة في هذه المسألة الهامة.
ومن أقوال أهل العلم في ذلك: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "المقصود هنا أنَّ ما ثبت قُبحُه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صَدَرَ عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يُعذر فيه، إمَّا لاجتهاد أو تقليد يُعذر فيه، وإمَّا لعدم قدرته كما قد قرّرته في غير هذا الموضع" انتهى. وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" انتهى. وعمل أهل السنة على الاستدلال بأقوال أهل العلم في العلوم المختلفة معلوم منتشر، حتى ممن خالف منهج أهل السنة في مسائل معينة. ولا يعني ما تقدم التهاون مع البدع ومن وقع فيها، بل التنبيه إلى مقامات البدع، وأحوال الواقعين فيها من المنتسبين إلى أهل العلم، وعدم استوائهم في ذلك، أو طرح علمهم وعدم الاحتجاج به بدعوى الوقوع بعض المخالفات العقدية، أو كونهم ليسوا من أهل السنة، فتنبه!
* * *
وبعد هذه المقدمة اليسيرة، لننظر في مكانة أهل العلم والتعامل معهم عند تنظيم (الدولة): تكرر في كلمات وبيانات (الدولة) الإشارة إلى مكانة أهل العلم والإشادة بها، ومن ذلك: ما قاله أبو عمر البغدادي في كلمته (وَعدُ الله): "ولا بد من كلمة تقدير وتحية إلى العلماء الأتقياء الأخفياء الذين ساندونا بالنصيحة والفتوى والمال" انتهى. وفي كلمته (قل اني على بينة من ربي): "الخامس عشر: نرى وجوب توقير العلماء العاملين الصادقين، ونذب عنهم، ونصدر عنهم في النوازل والملمات" انتهى. وفي كلمة (تعالوا إلى كلمةٍ سواء) وجه أبو حمزة المهاجر –وزير الحرب في (الدولة)- كلامًا طويلا لأهل العلم، ومنه: "ورسالتي الأولى: إلى أهلِ الله وخاصته، إلى من أثنى عليهم الباري في كتابه العزيز...إلى أهلِ العلمِ والخشية... إلى من خصّهم الله تعالى بحفظ الدين والذكرِ في الصدور... إلى من جعلهمُ الله قدوة وأسوةً للناس في دينهم، سيّما في ميدان الجهاد في سبيلِ الله... فأنتم آباؤنا، وإخواننا، وفخرِ أمتنا، وعزّ ديننا، وورثةِ نبيــّـنا.." إلى آخر كلامه.
فهذا الكلام وغيره يوضح أنَّ قادة (الدولة) يعرفون لأهل العلم فضلهم، ومكانتهم، ويصدرون عن أقوالهم وفتاواهم.. وهل الأمر كذلك عند التفصيل والتنزيل على الواقع؟
من خلال التتبع لكلمات وبيانات الدولة تتضح أمامنا صورة يمكن عرضها في المسائل التالية: المسألة الأولى: اتهام أهل العلم بكتمان العلم، وخاصة فيما يتعلق بالأمور الهامة والمصيرية للأمة: ففي كلمة (إنّ دولة الإسلام باقية) يقول أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي: "فيا علماءنا, لقد علمتم والله أننا على حق (!) فإلى متى تكتمون علمكم؟ أما فقهتم قول ربكم عز وجل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) فبالله عليكم متى وقت القتال؟
أما آن لكم أن ترفعوا الراية وتحملوا اللواء؟ فإلى متى تهادنون الطواغيت وتسكتون؟ وإلى متى تخافون المطاردة وتهابون السجون؟ وحتامَ تسلمون لليهود والصليبيين البلاد والعباد؟ حتام تمتنعون وتمنعون من النفير إلى ساحات الجهاد؟ أبهذا أمر ربكم؟
فاعلموا أننا نناديكم وقد أعددنا العدة وهيأنا لكم العتاد والجنود, فهلموا فلا حجة لكم بالقعود, هلموا لتستلموا زمام الأمور, فإن أبيتم فإلى الله نشكوكم وحسبنا الله ونعم الوكيل, ولنا أمامه وقفةٌ معكم: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}" انتهى. وهذا اتهام مجمل غير مفصل، وشامل ليس فيه استثناء! وفي كلمته (السلمية دين من؟) يوجه كلمات عديدة غاية في القسوة والاتهام لأهل العلم بقوله: "وإنما رسالتنا صدع وتصريح بأمور كتمها العلماء والدعاة إلا من رحم الله خوفاً من السجون والمطاردة.... وبعد هذا كله يخرج علينا فقهاء رسميون ودعاة مسالمون يحرمون الجهاد ويجرمون المجاهدين فمن أين جاءوا بهذا الفقه؟ فقه الخنوع والخضوع والركوع والذل فقه السلمية, من سلفهم في هذا من أي دين جاءونا بالسلمية؟ السلمية دين من؟... ثالثاً: لابد لنا أن نصدع بحقيقة مرة لطالما كتمها العلماء واكتفى بالتلميح لها الفقهاء ألا وهي: كفر الجيوش الحامية لأنظمة الطواغيت... وإن الذين يدافعون وينافحون عن هذه الجيوش من المنتسبين إلى العلم ويأمرون المسلمين بعدم تكفيرها وقتالها: لهم أجهل الناس بحقيقة الدين, وحقيقة ما عليه هذه الجيوش الآن... فهل يقول عاقل أن هذا الجيش لا تجوز محاربته وقتاله؟؟ حتى وإن كان يراه مسلماً... وكما نتوجه بخطابٍ ونداء إلى الدعاة من أمتنا والعلماء, إلى مصابيح الهدى وورثة الأنبياء, نخاطب العلماء الربانيين ولا نعني أنصار الطواغيت من علماء السوء أو فقهائهم الرسميين, ولا دعاة الشر من مشايخ الفضائيات المهرجين, فيا علماء أهل السنة اذكروا قول ربكم عز وجل: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ). ولنا مع هذه الكلمات الخطيرة وقفات وتساؤلات: إذا كان العلماء والفقهاء قد كتموا علمهم ولم يظهروه للناس، فمن أين يأخذ الناس علمهم ودينهم في الوقت الحالي؟ وإذا كانت (الدولة) قد اتهمتهم بكتمان العلم هنا، فمن الذين تصدر عنهم (الدولة) في فتاوها ومواقفها؟ وإذا كان هؤلاء المنتسبون للعلم هم أجهل الناس بحقيقة الدين، فمن هم العالمون العارفون بها؟ وإذا كان هؤلاء أجل الناس، فمن هو الأعلم؟ علمًا نَّ الجهاد الذي يقصده العدناني هنا ليس الجهاد في ساحات العراق وبلاد الشام ضد الرافضة والنصيريين والصليبيين فحسب، بل الجهاد في الدول العربية وضد الجيوش المرتدة! وهنا تساؤل:
من قال من أهل العلم المعروفين المشهورين المشهود لهم بالفتوى والرسوخ في العلم بتكفير هذه الجيوش وبقية الأجهزة العسكرية، ووجوب قتالها، بل إن قتالها أولى من قتال الصليبيين؟ وإذا كان هؤلاء العلماء قد كتموا هذا العلم، فهل بقي من (العلماء الربانيين) الذين يؤخذ عنهم في العالم الإسلامي أحد؟ ومن هم؟ ثم ما هذا الإطلاق والتعميم دون ضابط ولا رابط (فقهائهم الرسميين, دعاة الشر من مشايخ الفضائيات المهرجين)؟ هكذا؟ وأي احترام بقي لأهل العلم بعد كل هذا؟ ألم يقل المهاجر في تسجيله الصوتي الثاني: "أيّها العلماء عيبٌ عليكم أن يذكّركم المجاهدون فأنتم من تذكّرونهم، عيبٌ عليكم أن يعرّفوكم واجبكم فأنتم من تعلّمونهم" انتهى. أهكذا يُخاطب أهل العلم؟ أهذا هو منهج أهل العلم والسلف الصالح في التعامل مع الكبراء والعلماء؟ وهل يستقيم هذا الكلام قوله بما بعده: "أيّها العلماء لن ندعكم وشأنكم؛ إن قذفتمونا بقذائف الباطل فسالت دماؤنا على وجوهنا مسحنا جراحنا وغفرنا لكم ورجوناكم ألاّ تعودون، وسألناكم ألاّ تخذلونا، وإن أدبرتم عنّا تعلّقنا بردائكم رجاء أن لا تتركونا، فإن أقبلتم علينا عرفنا قدركم و رفعنا شأنكم وما قطعنا أمراً دون مشورتكم، ولن تجدوا منّا إلاّ انصياعا للحقّ وتعظيماً للشّرع "انتهى! فأي أدب في التزام الحديث معهم بعدما سبق؟ وإن كانوا قد كتموا العلم، فخانوا الأمانة، ووالوا الطواغيت فكيف يسوغ لهم اتباعهم والأخذ بكلامهم؟ والسؤال الأهم في هذه النقولات:
ما المقصود بأن هؤلاء العلماء مهادنين للطواغيت؟ هل هو مجرد عدم الخروج عليهم بالتكفير أو إباحة القتال؟ أم موالاتهم ومناصرتهم ضد الإسلام والمسلمين؟ وما حكمهم إن كانوا أنصارًا لهم؟ وهل يطبق عليهم حكم الردة في الجيوش والأحزاب السياسية كما بيناه في المقال الثاني؟ لننظر في هذا المثال التطبيقي:
جاء في اللقاء الصوتي الثاني لوزير الحرب أبو حمزة المهاجر قوله: "ولن يقبل الصّليب واليهود بأقلّ مما قام بهِ قطبيّ الإخوان المسلمين في قطر ولبنان حيث وقف يوسف القرضاوي على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خطبة الجمعة في سابقةٍ لا مثيل لها يطالب الأمّة أن يكون الجنرال ميشيل رئيساً وأميراً على ساحل المسلمين ... ومع أن الرّجل خالف الشّرع في هذه الحادثة من وجوهٍ كثيرة أعلاها رده إجماع الأمّة في حكم الإمامة من عالم به وأدناها ما قاله السّادة الأحناف أنه من سمّى الجور عدلا: كفر، ومن قال للظالم أنه عادل: يكفرِ". فهل هذا تكفير للقرضاوي؟ بغض النظر عن صحة موقفه في هذا المقام. وهل هذا رأيكم في بقية العلماء الرسميين ؟ و(الراضين) و(المهادنين) للطواغيت؟ وهل أنتم راضون عن تكفير أنصاركم لعلماء العالم الإسلامي بناء على هذه الأحكام العامة؟
المسألة الثانية: عدم الأخذ بفتاوى أهل العلم من خارج تنظيم (الدولة): درج تنظيم (الدولة) على الرفض لكل من خالف فتاويه ورؤاه الشرعية والسياسية، وهذا نتاج طبيعي لاتهام أهل العلم بكتمان علمهم، وموالاة الطواغيت، فلا بد أن يكون لديهم مصدر آخر يستقون منه هذا العلم.
ويمكن في هذا السياق أن نستحضر مثالين مشهورين معلنين: الأول: عند إعلان إنشاء (دولة العراق الإسلامية)، وحينها أعلن غالبية أهل العلم في العالم الإسلامي عدم الموافقة على هذا الإعلان، ليس من باب الطعن في المجاهدين، ولا الوقوف إلى جانب الطغاة والصليبيين، فقد كان من الرافضين لهذا الإعلان أكثر المفتين بوجوب جهاد الرافضة والأمريكان في العراق، والداعمين للمجاهدين بالقول والفعل والمال، وإنما كان الرفض لعدم الموافقة على إعلان الدولة بتلك الطريقة لأسباب عديدة ليس هذا موضع بيانها. فماذا كان موقف (الدولة)؟ لقد كان موقفها الرفض التام لكل تلك الفتاوى والآراء، بل والطعن فيها وتخوينها.. ولن نتوقف عندها طويلاً فقد فات وقتها وتطاول، وهنك ما يغني عنها. والموقف الثاني:
عندما أعلنت (الدولة) تمددها لسوريا وتغيير اسمها إلى (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، والتي وقف فيها أهل العلم والفتوى في العالم الإسلامي موقف المعارض الرافض لهذا الإعلان أكثر مما وقفوا في إعلان التأسيس الأول، بل تجاوز ذلك إلى ثلة كبيرة من المحسوبين على (التيار الجهادي العالمي) القريب من فكر (الدولة)، بل أعلى قيادة لما يعرف باسم (الجهاد العالمي)، أعني الظواهري، وهم الذين لم يكتموا علمًا، ولم يوالوا طغاة! فما كان من رموز (الدولة) وأنصارها إلا رفض جميع هذه الآراء والطعن فيها، والإصرار على موقفهم هذا، ومما جاء في ذلك: قول أبي بكر البغدادي في كلمته (باقية في العراق والشام): " أما الرِسالةُ التي نُسِبَت إلى الشَيخ أيـمَـن الـظـواهـِري حَفِظهُ الله، فإن لَنا عَليها مؤاخَذاتٍ شَرعية ومَنهَجيةٍ عَديدة، وقَد خُيّرَ العَبدُ الفَقير بَينَ أمرِ رَبه المـُستَفيض، وبينَ الأمر المـُخالِف لأمر الله تَعالى، وبَعد مُشاورة مَجلِس شُورى الدَولة الاسلاميةِ في العِراق والشام مِن مُهاجِرين وأنصار، ومِن ثَمّ إحالة الأمر إلى الهَيئة الشَرعية اخترتُ أمر رَبي عَلى الأمر المخالِف له..."انتهى. بل كانت كلمة المتحدث الرسمي باسم الدولة العدناني أشد في ذلك، حيث قال في كلمته (فذرهم وما يفترون): "وهذا هو حال الدولة مع طواغيت العالم وأنصارهم, ففي الإعلام يصورونها دولة وهمية, كما ينظر لها علماء السوء أنصار الطواغيت وفقهاء القعود ودعاة الإنبطاح...
فاستنفرت العمائم من علماء السوء ليُلبسوا على المسلمين ويشوشوا على المجاهدين... وقد نسبت للشيخ الدكتور أيمن الظواهري حفظه الله, على ما تضمنته من مآخذ وقرارات لا تأتي إلا بمفاسد كبيرة, لا يختلف عليها اثنان من المسلمين (!!) عايشا واقع الحال على الأرض في الشام... فهل يجوز شرعًا تقسيم الجماعة الواحدة المجاهدة وتفريقها وتشتيت شملها على هذا النحو؟ أهذا معروف أم منكر؟ أهذا إصلاح أم إفساد؟ منجاة أم مهلكة؟.." إلى آخر تلك الكلمة العجيبة في كلماتها وعباراتها الموجهة لأكبر زعماء (التنظيم العالمي للجهاد)!
وإذا عدنا لموضوعنا في هذه المقالة: فإنَّ الذي رفض هذا الإعلان هو: الغالب الأعظم من علماء المسلمين في العالم، وجميع قادة الجهاد والهيئات الشرعية المجاهدة في سوريا، بل وكثير من شخصيات الجهاد العالمي الفكرية، والعسكرية الممثلة بجبهة النصرة، وكبار تنظيم القاعدة! ولم يوافق على هذا الإعلان إلا عدد قليل ممن وُصفوا في البيان المتقدم بأنهَّم (مَجلِس شُورى الدَولة الاسلاميةِ في العِراق)! فسبحان الله يا إخواننا في (الدولة)! أين يُذهب بكم؟ أوصل الأمر والحال إلى رفض أقوال أهل العلم من الموافقين والمخالفين في هذه المسألة الخطيرة التي يُجمع لأمثالها أهل العلم والحنكة والخبرة والدراية بالفقه والسياسة وغيرها، والاكتفاء برأي عددٍ قليل؟ بل والطعن والتشكيك في كل من خالفكم حتى من الموافقين لكم في الرؤية والمنهج؟ فما المعيار لديكم في قبول أو رفض الفتاوى والمواقف الشرعية والسياسية؟ وخاصة أن جزءًا كبيرًا منها صدر ممن هو على منهجكم نفسه؟ مما يعني أنهم ليسوا من المنحرفين أو أعوان الطواغيت ونحو ذلك؟ أم هو التحزب للجماعة (الدولة) ورفض كل ما خالفها؟ وهل جميع أموركم العلمية والشرعية والسياسية تجري على هذا النحو؟
أما إنَّكم إن قلتم أنَّ المعيار هو موافقة الحق، فهو مردود لأمور من أهمها: 1- أنَّ هؤلاء الموصوفون بأنهم (مجلس شورى) مجهولو الحال عند الغالبية العظمى من علماء المسلمين وفقهائهم، فضلاً عن عامة الناس، ومثل هؤلاء لا يؤخذ عنهم هذه الفتاوى وهذا العلم، ولا يتعلَّق بقاء المنهج السليم الصافي بهذه الفئة من المجاهيل! 2- أنَّ هذا تزكية لأنفسكم بأنَّكم الوحيدون على الحق دون الأمة! وهذا يحتاج إلى دليل ووقفات!
المسألة الثالثة: عدم معرفة من تصدر عنهم فتاوى وآراء (الدولة) الفقهية والسياسة والعقدية: من خلال ما سبق: يتبين أنَّ تنظيم (الدولة) لا يأخذ برأي العلماء الرسميين، والخاضعين للطغاة، ولا حتى من المخالفين يتوقع الشخص للوهلة الأولى أنَّ (الدولة) تصدر في أقوالها، وأفعالها، ومواقفها عن آراء علماء راسخين في العلم، وخاصة مع الموضوعات الخطيرة التي تتعامل معها.. فالسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل متابع لشأن (الدولة): من هم العلماء والمفتون الذين تصدر عنهم الفتاوى والمواقف الشرعية؟ ومن هم الذين يمثلون أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم في مسائل الدولة والخلاف؟ والذين يكون بقولهم فصل المسائل؟ إنَّ من المُسلَّم به أنَّ هؤلاء العلماء أو طلبة العلم غير معروفين لغالبية أهل العلم، فضلا عن عموم الناس، وهذا مال لا شك فيه. وهم وإن كانوا أشخاصًا موجوديين حقيقيين (لا نشك في وجودهم) فهم غير معروفين، وكون بعض أتباع (الدولة) أو غيرهم يعرفهم بأسمائهم وأشخاصهم لا يرفع عنهم الجهالة العلمية؛ إذ ليس المقصود هنا معرفة أسمائهم وأشخاصهم فقط كما يظن البعض، بل المقصود معرفة أحوالهم، وسلامة منهجهم، وتمكنهم من العلم، وغير ذلك.. وقد مر بنا سابقًا أقوال أهل العلم في ذلك.. وليس توثيق (الدولة) لهؤلاء أو شهادتها لهم بالعلم والفضل رافعًا للجهل عنهم؛ فإنَّ التوثيق لا بد أن يكون من عموم أهل العلم المشهود لهم؛ فالشهادة تزكية، ولا تقبل من ثقات، قال النووي: "ولا يتعلم إلا ممن تكمَّلت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته واشتهرت صيانته"، وقال الشاطبي: "وَالْعَالِمُ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْعُلَمَاءُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ حَتَّى يَشْهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ". إلا إن كان الإخوة في تنظيم الدولة لا يعتدون بأهل العلم في شتى بلاد العالم الإسلامي، بل والعالم كله، بمختلف مستوياتهم ومؤسساتهم المختلفة!
ونقطة أخيرة في هذه المسألة: وإنَّه وإن كان بعض رجالات (الدولة) أو المقربين منهم معروفون بالعلم لدى البعض، فإنَّ تزكيتهم لبقية طلبة علم أو مفتي (الدولة) غير مقبول؛ لأنَّ توثيق الثقة للمبهم لا يقبل على إطلاق كما هو معلوم في مصطلح الحديث؛ لأنه وإن كان ثقةً عند من وثَّقه بما يظهر له منه، فلا بد من إظهار اسمه وحاله لغيره، فربما كان مجروحًا أو معروفًا بقلة العلم أو انحراف المنهج، وهذه من المسائل الخطيرة والهامة التي تخفى على كثير من الناس ويقع فيها الخطأ. فتنبه!
المسألة الرابعة: معيار قبول رأي أهل العلم وفتاواهم: بعد كل هذا العرض لقائل أن يقول: هل يعني هذا أنَّ منهج تنظيم (الدولة) هو الرفض القاطع لجميع أهل العلم وطلبته، وكل ما يصدر منهم؟ أم أنَّ هناك معايير معينة يمكن أن تقبل فيها أقوالهم وفتاواهم عند تنظيم (الدولة)؟ والجواب: أنَّه بعد التطواف الكبير في كلمات وبيانات الدولة تتضح لنا ملامح منهجية هامة لقبول آراء وأقوال أهل العلم في الفتوى وأمور الجهاد، وهذا بيانها من عباراتهم وكلامهم: 1- أن يكون على منهج السلف قولاً واعتقادًا. 2- أن يكون على منهج (التيار الجهاد العالمي) وهو ما يوصف أحيانًا بفكر القاعدة. 3- أن يكون يُطبق أقوالهم واعتقاداتهم ولا يخرج عنها. 4- أن يكون ممن انحاز إلى أرض الجهاد، أو ينوي ذلك.
وبيان هذه الشروط من كلماتهم الرسمية كما يلي: جاء في كلمة أبي عمر البغدادي (جريمة الانتخابات الشرعية والسياسية.. وواجبنا نحوها) للخروج بحل لمشاكل الجهاد في العراق: "ولكي نقدم مبادرة عملية التطبيق نرجو مِن الله فيها القبول ندعو إلى تشكيل لجنةٍ من العلماء أو طلبة العلم المتقدمين تكون نواة لجمع المجاهدين وإصلاح حال المقاومين عسى الله أن يفتح علينا ونشترط لمن يكون في هذه اللجنة من العلماء: أ- أن يكون مُلتزمًا بالسنة على ما كان عليه سلف الأمة. ب- أن يكون موصوفًا بالعدل والإنصاف والجرأة في أمر الله, والبُعد عن الهوى, وحَسَن الخُلُق. ج- أن يكون ممن قاتل ويُقاتل في سبيل الله ومارس الجهادَ عبادة, وهذا شرطٌ هامٌّ جدًا, فإن الذين حشروا أنفسهم في زوايا المكتبات يعكفون على الأوراق لكي يخرجوا حلولًا لمشاكل البندقية والقنبلة دون أن يروها أو يتعلموها يومًا لا شك أنهم سيفجرونها في وجوههم ووجوه مَن يستمع إليهم, أما في غير أمور الجهاد ومسائله فهم أئمتنا وعلى رؤوسنا. د- أن يكون مرضيًّا عليه من جميع الفرقاء أو أغلبهم, وليس بالضرورة أن يكون من أهل العراق بل من أي بلدٍ من بلدان المسلمين التي تشهد حركة جهادية وصراعًا بين الكفر والإيمان كأفغانستان والصومال والشيشان والجزائر والجزيرة وغيرها....
ونقترح أن تقوم هذه اللجنة بالآتي: أ- البحث في حالة كل جماعة أو كيان في الساحة العراقية منهجًا وإمارة وتمويلًا ودعمًا, فمَن كان مِن الجماعات أو التكتلات أهلًا أن يُوصف أنه من أهل السنة والجماعة أعلنوا ذلك, ومَن كان عنده خللٌ في مُعتقده ومنهجه حكموا بذلك ودعوه للتوبة مما تلبّس به من بدعة أو شِرك, والتبرؤ إلى الله من خطئه وبيان ذلك للأمة والناس.." انتهى. وقال أبو حمزة المهاجر في لقائه الصوتي الثاني: "وقد اقترح الشّيخ أسامة حفظه الله اقتراحا جيّدا وجيها نزيد عليه أنه يمكنكم تشكيل لجنة فتوى سريّة كحدّ أدنى تصدر الفتاوى في نوازل الأمة يتبنّاها إخوانكم المجاهدون في الإعلام الجهادي إلى حين هجرة بعضكم إلى مكان آمن، وهذا ما لابدّ منه وفرض عين عليكم جميعًا حتى يقوم بهِ بعضكم". وهنا لا بد من التساؤلات التالية: 1- من أين لكم اشتراط أن يكون المفتي أو العالم الذي يؤخذ؛ فضلاً عن الذي يُشارك في أمور الجهاد عنه على منهج السلف؟ وألا يكون عنده انحراف أو بدعة أو خطأ؟ ألم يأخذ العلماء العلم عن أهل العلم ممن وقع في خطأ أو بدعة أو انحراف؟ ألم يشاركوهم الجهاد في سبيل الله؟ بل انضووا تحت رايتهم؟ وقد سبق الإشارة إلى جانب من جوانب التعامل مع أهل العلم هؤلاء. 2- بل تجاوز الأمر إلى درجة الامتحان والاستتابة في أرض الجهاد: "ومَن كان عنده خللٌ في مُعتقده ومنهجه حكموا بذلك ودعوه للتوبة مما تلبّس به من بدعة أو شِرك, والتبرؤ إلى الله من خطئه وبيان ذلك للأمة والناس"، فأين هذا في منهج السلف؟ بل ألم يجاهد السلف خلف العديد من القادة الذين تلبسوا ببعض البدع؟ 3- ثم عن أي منهج من مناهج السلف يُقصد هنا؟ هل هو منهج التوسع في التكفير، والطعن في أهل العلم، والذي وصف مخالف بأنه من أجهل الجاهلين؟ والذي تحدثنا عنه في المقال الأول؟ 4- وأما اشتراط أن يكون العالم ممن جاهد في سبيل الله الله بيده: فلعلها من آثار العبارة المشهورة المتداولة (لا يفتي قاعد لمجاهد)، أو ما نقل عن عدد من أهل العلم قولهم (إذا اختلف الناس فانظروا إلى ما عليه أهل الثغور)! نعم لا بد أن يكون من يفتي في أمور الجهاد عالمًا عارفًا بواقع ما يفتي فيه ومَن يفتي لهم، إما عن طريق السؤال والاستفصال، أو نقل الثقات، ونحو ذلك من الطرق الكثيرة. لكن اشتراط ذهابه إلى الثغور ومشاركته بالجهاد: فهذا اشتراط ما لم يشترطه الشرع، ولا أهل العلم، وإلزام الناس بما لم يلزمهم به الدين، فضلاً عن إهدار طاقات علمية كبيرة عن البت في شؤون المجاهدين بما لها من سابق خبرة وعلم وتجربة، ومعايشة طويلة لنصوص شرع وأقوال أهل العلم، مع ما فيه من عدم احترام لهم ولا توقير.
بل إنَّ من أخطر آثر هذا الاشتراط: أن أُهمل أهل العلم المشهود لهم بالعلم والفضل، وأُسيء الظن بهم، وطُعن في دينهم وأمانتهم، فلم يبق من يُرجع إليه في هذه المسائل إلا من ارتضى منهجم وسار على هديهم ممن لم ترسخ قدماه في العلم، فكانت النتيجة ما نراه من آراء وفتاوى ومواقف!
وأخيرًا: إنَّ ما سبق من بيان منهجية تعامل (الدولة) مع أهل العلم، وأقوالهم وفتاواهم: تعني إسقاط الرموز الدينية، وجميع المظاهر العلمية في العالم من آلاف المختصين بالعلوم الشرعية، وأساتذة الجامعات، والقضاة، والمفتين، وعشرات المراكز البحثية بكافة أشكالها (!)، وما يؤدي ذلك إلى مخاطر جسيمة، تتمثل في إذهاب هيبة العالم، والاستهانة بعلمه، ومن ثم التجرؤ عل القول في دين الله دون علم، وذلك هو الضلال المبين. وإلى إخوتنا في تنظيم (الدولة): أي مثال وقدوة تزرعونها في عقول وقلوب أتباعكم وأنصاركم من خلال الأحاديث السابقة عن أهل العلم، ورميهم بكل منقصة ومسبة؟ أليست صفحات التواصل ومجالس النقاش مع المناصرين لكم تئن بألفاظ السباب والشتائم والتكفير والاستهزاء والتحقير لأهل العلم فضلاً عمن هو دونهم، فهل أنتم راضون عن ذلك؟ وإن كنتم غير راضين فلم السكوت وقد وجب البيان؟ ألا توجهون أنصاركم وأتباعكم ببيان شامل معلن تتبرؤون فيه من هذه الانحرافات والتهوكات والولوغ في أعراض ولحوم أهل العلم وطلبته؟ إنكم إن لم تفعلوا فأنتم شركاؤهم في الإثم، ولا يغني عنكم تبرؤكم من ذلك وزعمكم أنكم لم تأمروهم، فبياناتكم وكلماتكم تطفح بهذه العبارات والمصطلحات! ألا تدركون عاقبة ذلك على أتباعكم أولاً في إعراضهم عن هؤلاء العلماء، وزهدهم بما في أيديهم –حتى وإن كان في غير مسائل الجهاد ونحوها- وما يخلفه ذلك من جهل وانحراف؟ إننا ندعوكم إلى مراجعة ذلك كله، وقياسه بمقياس الشرع وكلام أهل العلم.. والله الهادي إلى سواء السبيل. والحمد لله رب العالمين
يتبع....
سلمان العودة
إياد قنيبي
مجاهد مأمون ديرانية
جميع المقالات تعبر عن رأي كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
برأيك، هل ستحقق العملية التركية -شرق الفرات- أيّ مكاسب للسوريين؟
نعم
لا
عمر حذيفة
لبيب النحاس
مؤسسة الموصل
أسرة التحرير
محمد العبدة